
د.ناهد محمد الحسن
من الحزب إلى الفكرة: الخاتم عدلان وسؤال الخروج الأخلاقي من اليسار السوداني
من الصعب على أي قارئ يقترب من تجربة اليسار السوداني اليوم أن يفهم مأزقها العميق دون أن يتوقف طويلًا عند اسم الخاتم عدلان، وورقته المفصلية «آن أوان التغيير». ليس لأن الخاتم كان الأكثر صخبًا، ولا لأنه أعلن قطيعة درامية مع الحزب الشيوعي السوداني، بل لأنه مثّل على نحو نادر لحظة وعي داخلي وصلت فيها التجربة إلى حدّها الأقصى من الصدق مع الذات.
الخاتم عدلان لم يكن معارضًا جاء من خارج التنظيم، ولم يكن “منشقًا” بالمعنى السهل للكلمة. كان نتاجًا كاملًا للحزب: تشكّل وعيه داخله، تعلّم لغته، تشبّع بمنهجه، وشارك في معاركه. ثم، حين بلغ هذا التكوين ذروته، اصطدم بحدوده. في كتابته لا نجد مرارة الخارجين، ولا نشوة التبرؤ، بل نواجه مفكرًا واثقًا بلا زيف، حادًّا بلا استعراض، ومثقلًا بأسئلة وطنه وأسئلة الفكر معًا. رجلًا أدرك مبكرًا أن المأزق الحقيقي لا يبدأ حين تفشل الأفكار، بل حين تتحول إلى يقين مغلق، وحين يصبح التنظيم لا العدالة ولا الحرية هو القيمة العليا.
جاءت ورقة «آن أوان التغيير» في هذا السياق، لا بوصفها بيانًا انشقاقيًا، بل كمحاولة أخيرة لإنقاذ معنى السياسة من داخل التجربة اليسارية نفسها [1]. لم تكن دعوة إلى هدم اليسار، بل إلى تحريره: من بنيته الطليعية المتصلبة، ومن علاقته الملتبسة بالديمقراطية، ومن تحويل النظرية إلى أداة وصاية باسم العلم.
منذ بدايات نصوصه ومقابلاته، يرفض الخاتم المنطق الأخلاقي الذي حكم الحياة الداخلية للأحزاب العقائدية طويلًا: منطق الوفاء مقابل الخيانة. هذا المنطق، في رأيه، لا يحرس الفكرة، بل يحرس التنظيم. الأفكار كما يؤكد لا تطلب الولاء، بل الصدق. والبقاء داخل تنظيم فقد قدرته على الإصلاح لا يقل خطورة عن مغادرته. هنا يتحول “الخروج” من فعل شخصي إلى موقف أخلاقي: ليس ضد الجماعة، بل ضد تحويلها إلى غاية في ذاتها [2]. بهذا المعنى، لا يضع الخاتم نفسه خارج اليسار، بل داخل أزمته، شاهدًا عليها لا متبرئًا منها.
يقع نقد نموذج الحزب الطليعي في قلب أطروحة الخاتم. لكنه نقد يختلف جذريًا عن الهجوم الليبرالي التقليدي على التنظيم. الخاتم لا يرفض فكرة التنظيم، ولا يقلل من شأن الانضباط أو العمل الجماعي، بل يرفض ادعاء الامتياز المعرفي. في النموذج الطليعي، تُمنح فئة محدودة حق تفسير الواقع، واحتكار الوعي، وتحديد ما هو “صحيح” وما هو “منحرف”. هكذا تتحول الطليعة من أداة للتحرير إلى سلطة رمزية تمارس الوصاية باسم الجماهير [3]. السياسة، في هذا النموذج، تُفرغ من بعدها التشاركي، ويُعاد إنتاج نفس الهرمية التي يدّعي اليسار تفكيكها. الناس لا يُنظر إليهم كفاعلين أخلاقيين، بل كموضوع للتنوير، أو مادة خام للوعي.
يميّز الخاتم بوضوح بين ماركسية بوصفها منهجًا نقديًا مفتوحًا، وماركسية تحولت إلى دوغما تنظيمية. أزمة الحزب الشيوعي السوداني، في نظره، لم تكن في تبني الماركسية، بل في تقديسها. ماركس نفسه لم يكتب نصًا مغلقًا، ولم يضع وصفة تاريخية صالحة لكل زمان ومكان. لكن الأحزاب الشيوعية ومنها السوداني حوّلت نصوصه إلى مرجعيات نهائية، وأهملت خصوصية الواقع المحلي المركّب [4]. حين تتحول الماركسية إلى عقيدة، تفقد روحها النقدية، وتغدو أداة ضبط لا أداة كشف.
غير أن أكثر مواقف الخاتم حدّةً ووضوحًا كان موقفه من الديمقراطية. فهو يرفض اختزالها في تكتيك مرحلي، أو النظر إليها كقيمة “برجوازية” يمكن تأجيلها إلى ما بعد الثورة. هذا التأجيل، في رأيه، ليس خطأً سياسيًا فحسب، بل جذرًا عميقًا للاستبداد. التنظيم الذي لا يمارس الديمقراطية داخله لا يمكن أن يبنيها خارجه، والعدالة الاجتماعية بلا حرية سياسية تتحول إلى وصاية. تأجيل الديمقراطية باسم المستقبل هو شكل من أشكال العنف الرمزي، لأنه يسلب الناس حقهم في الحاضر باسم وعد مؤجل [5]. هنا يلتقي الخاتم مع تقاليد يسارية نقدية عريقة، مثل تحذيرات روزا لوكسمبورغ من استبدال الجماهير بالحزب، والحزب باللجنة، واللجنة بالفرد.
هذا النقد العميق جعل الخاتم هدفًا لانتقادات من أطراف متعددة، حتى من مثقفين سبق أن غادروا الحزب الشيوعي مثله. من أبرز هذه القراءات ما قدّمه عبد الله علي إبراهيم، الذي صنّف الخاتم ضمن ما سمّاه “مبطلي الماركسية”، متأثرين بأطروحات ألفين توفلر حول الثورة المعلوماتية وتراجع مركزية الطبقة العاملة الصناعية [6]. هذا التصنيف، على ذكائه في فتح النقاش، يبدو قاسيًا في اختزاله. صحيح أن الخاتم استحضر تحولات الرأسمالية المعاصرة، وتغير بنية العمل، وأزمة البروليتاريا الكلاسيكية. لكنه لم يفعل ذلك ليعلن نهاية الصراع الطبقي، ولا ليحتفي برأسمالية إنسانية. ما فعله كان أكثر تواضعًا وأكثر خطورة في آن: طرح سؤالًا بسيطًا ومقلقًا هل لا يزال النموذج التنظيمي القديم قادرًا على قراءة هذا العالم؟
هنا يصبح من الضروري توضيح ما يُقصد بـ”التوفلرية”. ألفين توفلر بشّر بانتقال العالم إلى “الموجة الثالثة”، حيث المعرفة والتكنولوجيا تحلان محل الصناعة الثقيلة، وحيث تتفكك الطبقات التقليدية، بما يعني ضمنيًا تجاوز التحليل الماركسي الكلاسيكي. الخاتم لم يتبنَّ هذه الرؤية كنظرية بديلة، ولم يستبدل بها الماركسية. استخدم بعض أسئلتها فقط كأداة تفكيك ليقين حزبي جامد. الفرق جوهري: توفلر يعلن نهاية الماركسية؛ الخاتم يحذّر من تحجّرها. وهذا فارق فكري وأخلاقي لا يجوز طمسه.
انشغل الخاتم كذلك بالثقافة التنظيمية بوصفها قلب الأزمة، لا هامشها. لغة التخوين، محاكمات النيات، إقصاء المختلف، وتحويل الخلاف الفكري إلى مسألة ولاء. هذه الممارسات ليست، في نظره، انحرافات عرضية، بل بنية كاملة. هنا يلتقي نقده مع مفهوم بيير بورديو عن “العنف الرمزي”، حيث تُمارس السلطة عبر اللغة والمعايير والتصنيفات، لا عبر القمع المباشر [7]. التنظيم الذي يفقد حساسيته الأخلاقية يبدأ دون أن يدري بإعادة إنتاج ما يدّعي مقاومته.
كان إدراك الخاتم لخصوصية السودان حاسمًا في قطيعته الفكرية. السودان لا يُقرأ عبر قوالب جاهزة: تعدد إثني وديني، تاريخ طويل من التهميش، بنى ريفية وهامشية، ووجدان ديني عميق. التحليل الطبقي الكلاسيكي لم يفشل لأنه خاطئ، بل لأنه متعالٍ حين لا يُعاد تأصيله. المشكلة لم تكن في غياب التحليل، بل في لغته التي لا تسمع إلا نفسها، وخطابه الذي يرى الناس فقط من خلال مفاهيمه [8].
في «آن أوان التغيير» لا يقدّم الخاتم مشروعًا مكتملًا، بل يفتح أفقًا: يسار ديمقراطي، تنظيم مفتوح، شراكة مجتمعية بدل طليعة وصية. بهذا يتحول من قائد محتمل إلى ضمير نقدي. والمفارقة أن هذا الدور، رغم كلفته الشخصية والسياسية، هو ما يمنحه مكانته الفكرية. قصة الخاتم عدلان ليست قصة فرد، بل نموذج لجيل من مثقفي اليسار الذين أدركوا أن الثورة على الاستبداد لا تكتمل دون الثورة على أدواته.
الخاتم عدلان و عبدالله علي ابراهيم و جرح المغادرة:
لم يترك الخاتم الحزب لأنه يئس من النضال، ولم يترك عبد الله علي إبراهيم الحزب لأنه تخلى عن الفكر. كلاهما غادر التنظيم وبقي في ساحة الأسئلة. الفارق أن الخاتم ظل وفيًّا لجرح اليسار من داخله، يكتب منه، لا عنه. تعامل مع التجربة بوصفها ألما لم يحل، و سؤالا اخلاقيا لم يغلق، و تجربة فشلت جزئيا، لكنها لاتزال تطالب بالمعنى. لذلك لم يحول التجربة الى ذاكرة، ولا الى سردية دفاع، هو بقى داخل الجرح يكتب منه ، لا عنه. بينما بقي عبد الله رغم كل التحولات ذاكرة اليسار الأوسع، التي لا يمكن تجاوزها أو شطبها. وفيا لتجربة اليسار باعتبارها تجربة تاريخية كبرى، لا بوصفه جرحا ذاتيا. ووفاء عبدالله يتجه الى الذاكرة، التوثيق، والانصاف التاريخي. فهو يقف مع الدفاع ضد الاختزال و التشويه. هو يسأل: ماذا أنجز الحزب؟ كيف صمد؟ كيف كان مختلفًا عن غيره أين ظُلِم؟ بينما الخاتم يسأل: ماذا أفسدنا ونحن نعتقد أننا نحسن الفعل؟ كيف تحولت النية إلى بنية؟
ومتى صرنا نؤذي باسم الصواب. عبد الله يقف خارج الجرح قليلًا ليحميه من الإلغاء. الخاتم يقف داخل الجرح تمامًا ولو كلّفه ذلك الانفصال. بينهما، لا صراع أشخاص، بل صراع قراءات: حول التنظيم، وحول حدود النظرية، وحول معنى الاستقلال الفكري. الخاتم عدلان
وفاؤه للحزب أخلاقيوجودي. وفاء للمعنى الذي لم يتحقق
وللأسئلة التي لم تُجب، وللألم الذي لا يجوز تجميله. بينما عبد الله علي إبراهيم، وفاؤه تاريخيمعرفي
وفاء للتجربة كما كانت، وللتعقيد كما هو، وللذاكرة في مواجهة النسيان أو التبسيط. ولهذا كان الخاتم مستعد أن يجرح الحزب أكثر إذا رأى أن الجرح صادق. و لازال عبد الله مستعدا أن يخاصم ناقدي الحزب إذا شعر أن النقد يُفقده تاريخه. ويمكنني هنا ان الخص السؤال الاساسي الذي ينطلق منه كليهما:
الخاتم يسأل: كيف أخطأنا أخلاقيًا ونحن نعرف أننا نحلم بالعدل؟
عبد الله يسأل: كيف صمد هذا الحزب أصلًا، وسط عالم معادٍ، وبأي كلفة؟
الأول يسائل الضمير اليساري. الثاني يحرس ذاكرة اليسار. و الحقيقة ان اليسار لايمكن انقاذه بدون ذاكرة و لايمكن شفاؤه بلا اعتراف. اليس محزنا و مأساويا ان يسمح الحزب الشيوعي بمغادرتهما؟! من يحفظ ذاكراته و من يطبب جرحه! هذا..ويبقى السؤال الذي تركه الخاتم مفتوحًا، ومؤلمًا، وضروريًا:
هل يستطيع اليسار السوداني أن يتعلم من خروجه… دون أن ينفيه؟
المراجع :
[1] الخاتم عدلان، آن أوان التغيير.
[2] مقابلات الخاتم عدلان، النص الكامل.
[3] Antonio Gramsci, Prison Notebooks.
[4] Karl Marx, Theses on Feuerbach.
[5] Rosa Luxemburg, The Russian Revolution.
[6] عبد الله علي إبراهيم، “آن أوان الماركسية”، سودانايل، 2011.
[7] Pierre Bourdieu, Symbolic Violence.
[8] Ernesto Laclau & Chantal Mouffe, Hegemony and Socialist Strategy.
المصدر: صحيفة التغيير
