انهاء الحرب .. الرجوع الى مربع واحد : الرأي العام
محمد عبد الخالق بكري
(الرأي العام هو كل شيء)
آبراهام لينكلن
أود أن أبدأ هذا المقال بهذه المقولة لأنها في اعتقادي تنطبق على كل شعب مهما كان النظام السياسي الحاكم ، وعلى وجه الخصوص شعب السودان. لولا الرأي العام وصوته لما نجحت أي إنتفاضة سودانية. لولا الرأي العام وصمته لما نجح أي انقلاب عسكري في السودان. ولولا الرأي العام لما نجحت انتفاضة ديسمبر واُسقط عمر البشير.
الرأي العام كان وراء فشل إنقلاب 24 أكتوبر 2021م. ومرة اخرى الرأي العام كفيل بإنهاء هذه الحرب. ولكن وحدة الرأي العام وتكوّنه هي المعضلة. من حاولوا دراسة تكوينه يقولون أن الصحافة والاعلام وحدهما غير كفيلان بتكوينه. وأقروا ان له ينابيع غامضة ومجاري ومسارب تختلف من شعب الى آخر. ولكن الجميع اعلى من شأنه.
عندنا في السودان ، تكوينات غارة في نسيج المجتمع كفيلة بتشكيل الرأي العام. تكوينات ذات جذور ضاربة وشعيرات دقيقة تمتد من الاسرة والحي والقرية والحلال والسوق وفراش الوفاة وصلاة الجمعة وحفل العرس وتنتهي بالأحزاب والمنظمات المدنية والعكس تماما في عملية دائرية غاية التعقيد لا يمكن الإحاطة بها. لكنه في النهاية يتكوّن. ومرة اخرى : الرأي العام هو كل شيء. أساسه الثقة فيما يقول الآخر سواء كان هذا الآخر شقيق او شقيقة صاحب او جار أو غريب صادفته في بقالة. ولكن الوصول الى هذه الثقة حتى فيما يقول الغريب مرّ بتصفيات (فلاتر) وقنوات كثير جعلت الثقة ممكنة كما سأحاول أن ابين ادناه.
لكن قبل أن استرسل ، لنترك التجربة السودانية في الرأي العام جانبا وتاريخها التليد الممتد من دهشة الفريق عبود حين سمع الهتاف ورأى الحشود في بداية الأسبوع الثالث من أكتوبر 1964م الى “تسقط بس” التى استقرت في الافئدة وصارت صرخة تجاوزت الحدود في يناير 2019م . لنترك ذلك جانبا ونأخذ لمحة خاطفة لجبروت الرأي العام في انحاء اخرى من العالم.
كتب مجموعة من الاقتصاديين الاوروبيين قبل الحرب العالمية الاولى يحذرون وإرهاصاتها في الأفق كتبوا العديد من الأبحاث مدججة بالاحصاءات الدقيقة أن الحرب في اوروبا عقليا غير مستوعبة وجنون ولن يجرؤ أحد على اشعالها ذلك لأن كل دولة ، بما في ذلك ألمانيا وبيريطانيا ، ستخرج بخسائر لا تتصور تشمل الإنسان والاقتصاد بحساب الربح والخسارة قالوا سيخسر الجميع بما في ذلك المنتصر. اثبتت الخبرة الانسانية أن مثل هذه الحسابات رغم دقتها لا تحرك الواقع. ما يحرك الواقع هو الرأي العام والرأي العام كان مع الحرب وانفجرت الحرب وانخرطت شعوب أوروبا في تضحيات جسام وألم عظيم.
في الساحل الآخر من المحيط وفي نفس الوقت وقفت الولايات المتحدة في بداية الحرب العالمية الأولى على الحياد لوقت ليس بقصير بحساب عمر الحرب. وكان الرئيس ويلسون قد بذل قصارى جهده وقاوم لتجنب الانخراط في الحرب ولكن مع ضغط الرأي العام ، في تفاعله مع عدة أحداث من ضمنها إضطراب حركة الملاحة التجارية في المحيط بسبب الغواصات الألمانية ، أُجبر رئيس الولايات المتحدة على إعلان الحرب على ألمانيا وحلفائها.
من المثير أن تكرر نفس الموقف في الحرب العالمية الثانية. قبل إجازة الكونغرس للدعم العسكري والإمداد لبريطانيا عام 1941م دون دخول للولايات المتحدة في الحرب فيما عرف ب (The LendLease Act) كشف استطلاعات الرأي العام ومنذ فترة قبل تصويت الكونغرس الذي كان منقسما حول الدعم (ليس فقط ديمقراطيين وجمهوريين ، بل كان كل حزب كان منقسما على نفسه ويقول المعترضون ان ديون الحرب الاولى لم تدفع بعد ، والبلد مديونة) كشفت الاستطلاعات أن 9 من كل عشرة مواطنين امريكيان صوتوا لزيادة الدعم لبريطانيا واجبر الكونغرس على إجازة الدعم.
من المثير مراقبة أثر الرأي العام أثناء الثورة الايرانية، على قطاع هام شارك في الثورة مثل البازار (أصحاب الدكاكين والحوانيت خاصة صغارهم ناس رزق اليوم باليوم). عندما انتشرت إضرابات عمال مصفي البترول والسكك الحديدية والجمارك والمصالح الحكومية وصارت امواج المظاهرات البشرية بعشرات الآلاف ، كان صغار التجار يشاركون بإغلاق متاجرهم بعد تقييم الموقف في مربع متاجرهم ، إذا كان معظمها مغلقا يرجعون الى البيب ويشاركون في الإضراب أو العكس “لا احد يريد أن يكون المتجر الوحيد مفتوحا في المربع” ، هذا رغم تاريخ البازار العريق في مصادمة سلطة الشاه حول الضرائب والقيمة المضافة و مع اعتبار العلاقة التاريخية بين البازار والحوزة العلمية.
اشارت التقارير ، بعد دعوات الإمام الخميني لدعم الإضراب العام في 16 أكتوبر 1978م ، ان كثير من العاملين يحضرون الى يوم العمل في الصبح ثم يقررون بعد ذلك ، حسب رأي الزملاء والجيران والاصدقاء ، الرجوع الى البيت والمشاركة في الاضراب او الاستمرار في يوم العمل. مرة اخرى الرأي العام هو كل شيء في أحلك الظروف.
إذا رجعنا إلى واقعنا السوداني، لا اعتقد أن ينسى احد قول المرحوم زين العابدين الهندي في نهاية الحقبة الديمقراطية الثالثة : (ديمقراطيتكم دي لو شالا كلب ما حيلقي زول يقول ليهو جر) ، كان الزعيم الهندي بالضبط يتحدث عن الرأي العام، ولذا نجح انقلاب 1989م دون مقاومة.
نعم نجح انقلاب حميدتي والبرهان في الزج بالمدنيين في السجن ود. حمدوك في اعتقال منزلي وعبث بالجهاز القضائي والبنك المركزي وأعاد العديد من منسوبي النظام الساقط الى مواقعهم في النيابة والخارجية وغيرها، لكن لم ينجح في إقناع الرأي العام بحكومة ورئيس وزراء والسير في الحياة والعمل كالمعتاد. ثم انفلقت وحدة الانقلابيين وتحولت الى قتال.
إذا رجعنا الى واقع اليوم ، ولا يزال الحديث عن الرأي العام، تحت ظل هذه الحرب، نجد أن هنالك محصلة عامة اتفقت عليها كل أقسام الحركة المدنية الآن، رغم خلافتها المقيمة، هذه المحصلة هي : أن هدف الحرب الحالية هو تصفية/ قبر/ تفتيت والانتقام من ثورة ديسمبر والقضاء عليها [استعمل هنا نفس كلماتهم]. وإذا كانت تلك التصريحات صدرت في بيانات الرسمية من أحزاب تقف على النقيض من بعضها (قحت/تقدم وجذريين) وفي تصريحات قادتها ، إذن يجب أن تكون هنالك مهمة واضحة لكل هذه الأطراف المدنية وهي ببساطة منع تصفية وقبر وتفتيت ثورة ديسمبر ، على حد تعبيرهم. ولكن لا تزال الأحزاب بعيدة عن تكوين تلك الوجهة كرأي عام.
ما هو المفقود إذن؟ المفقود هو خاصية او صفة اساسية في تكوين الرأي العام هي الثقة. الثقة هي أهم خاصية في الثقافة المؤسسية لأي شبكة من العلاقات ، محلية ، قومية او دولية.
الثقة هي العامل الاساسي في اي شبكة علاقات ابتدأ من شبكة محلية كما في السوق في اي مدينة او قرية سودانية [في التعامل بين تجار الجملة والقطاعي وبين الأخيرين وزبائن الجرورة]. وهي أيضا عامل أساسي في العلاقات القومية والدولية. لا يمكن صياغة رأي عام مؤثر وغالب مع فقدان الثقة.
عدم الثقة بين أطراف الحركة المدنية هو الذي ادى الى انقسامات قحت الاولى ، بل حتى على مستوى شبكة اقل تعقيدا ، مثل شبكة البرهان وحميدتي وحلفائهم ، فقدان الثقة في هذه الشبكة هو ايضا وقف خلف إنهاء تحالف البرهان وحميدتي بعد إنقلاب 25 أكتوبر 2021م.
فيما يتعلق بشبكة الأحزاب والحركات المدنية ، الثقة تساهم بصورة مباشرة في تكوين ثلاث سمات لا غني عنها للعمل الجماعي وتشكيل الرأي العام:
1 الاتفاق على المهمة [هي ذاتها شنو؟].
2 نشر المعلومات وتبادلها بما في ذلك النوايا والأهداف وخطة العمل والتحديات مغروسة ومدمجة في طينة ذات الثقة.
3 امكانيات جماعية وتعاونية موضبة في حزمة واحدة لمواجهة التحديات وحللة المشاكل
(Effective, unified problemsolving capabilities).
لعله من المفيد تناول مثال يدل على أثر انعدام الثقة بين أطراف الحركة المدنية السودانية خلال الفترة الإنتقالية.
في سبتمبر 2020م ، رفض الحزب الشيوعي السوداني مجرد الجلوس مع حزب المؤتمر الشعبي بحجة ان الأخير كان مشاركا في النظام السابق لآخر لحظة. أثبتت الايام أن أن حزب المؤتمر الشعبي قد شارك في انتفاضة ديسمبر ، واثبتت الايام ان الشعبي قد وقف باستقامة ضد إنقلاب البرهان وحميدتي واثبتت الايام مرة اخرى وقف المؤتمر الشعبي ضد قتل المدنيين بعد الأنقلاب ، وأثبت مرة اخرى وقوفه ضد الحرب رغم انسلاخ مجموعة منه وذهابها في دعم الحرب وأعلن مرارا وتكرارا رفضه لتكتيك الانقلاب العسكري. ما احاول ان اقوله هنا أنه قد تبددت في سبتمبر 2020م فرصة للقوى المدنية من الاستفادة من حركتين ذات باع وصيت عريق في تنظيم العمل الجماهيري والإسهام في صياغة الرأي العام ، لكن انعدمت الثقة.
نجد من ناحية اخرى أن الحزب الشيوعي وثق في حزب المؤتمر السوداني لبعض الوقت ودخل معه في تحالف قوى الحرية والتغيير الاول ، رغم أن المؤتمر السوداني كان يستعد لخوض انتخابات عمر البشير التي كان مزمع خوضها في 2020م والتي قطعت الطريق عليها انتفاضة ديسمبر. إذا وضعنا حجج الحزب الشيوعي الذي أعلن مقاطعة الانتخابات ومن هنا صك تعبير “الهبوط الناعم” نجد أن المسافة بين حزب المؤتمر السوداني والمؤتمر الشعبي ليست ببعيدة ، حسب حجة الحزب الشيوعي لتجنب مجرد الجلوس مع المؤتمر الشعبي.
ولكن ربما كان للحزب الشيوعي رؤيته آنذاك أن المؤتمر السوداني بذل في الإنتفاضة الشعبية ما يكفر عن اختياره خوض الانتخابات ، اضف الى علم الشيوعي بوجود تيار داخل المؤتمر السوداني رفض خوض الانتخابات وكان موقف ذلك التيار منشور في الاسافير. وعلينا أيضا أن لا نهمل الحزازات التاريخية والغبينه بين الإسلاميين والشيوعيين الممتدة منذ قضية حل الحزب الشيوعي في ستينات القرن الماضي الى تجربة بيوت الأشباح في تسعينات القرن الماضي التي حدثت قبل المفاصلة في رمضان 1999م والتي تأسس من بعدها المؤتمر الشعبي.
ليس في نيتي إظهار تناقض في موقف الحزب الشيوعي بقدر ما أريد إبراز دور الثقة في العمل المدني وفي صياغة الرأي العام، في ازدهارها واضمحلالها. وفوق ذلك تسليط الضوء على حقيقة أن لكل حزب اطار تأويلي او ترجمة او رؤية للأحداث ينطلق منها. هذا الاطار يُملي احيانا مواقف يترتب عليها التعاون او عدم التعاون مع جهة ما. وهذا من طبيعة الأشياء في مجتمع بالغ التنوع في منظماته. ولكن في النهاية يجب على الدوام مراجعته حسب الظروف والملابسات والمخاطر.
السؤال الآن : كيف يمكن بناء هذه الثقة التي لا تستحدث ولا تخلق من عدم؟ .
في ظني هنالك اعتبارات يمكن تساعد في بناء جسور الثقة :
1 إدراك حجم المخاطر التي تهدد الوطن ، وعلى رأسها التقسيم والحرب الاثنية ، يدعو الى مراجعة أي إطار فكري او ترجمة او تأويل للواقع والمستقبل من قبل اي حزب او حركة بما يتطلب درء هذه المخاطر اولا. وهذا يتطلب فتح الحوار حول أي إطار وجدواه الآن في صيانة وحدة الوطن وإنهاء الحرب والحفاظ على مشوار مشروع الأمة السودانية.
2 إدراك أن شبكة المنظمات حين تتحد على أهداف غير الربح [الربح هنا فيما يتعلق بالاحزاب هو السلطة او المشاركة فيها] وعندما يكون هدف هذه الشبكة تأسيس مجتمع ديمقراطي متعدد الأعراق ومتعايش سلميا وضد الحرب بين مكوناته فإن هذه الشبكة من المنظمات ستنداح لتضم أطياف وتيارات في أركان من المجتمع أبعد من قدراتها التنظيمية والتعبوية. وستلتف حولها أركان قصية من المجتمعات المحلية خاصة بعد أن ذاقت مرارة الحرب. وفي هذا أيضا قفل لباب المحاصصة التي أودت بالفترة الإنتقالية.
3 يجب أن تدرك أطراف الحركة المدنية ، خاصة تقدم ، أن المجتمع الدولي لا يتدخل بفعالية وتصميم وإرادة الا إذا شعر ان هناك حركة مدنية متنوعة المنابع ، مثابرة ، متحدة ضاربة الجذور وتلتف حول أهداف تمثل الرأي العام في المجتمع.
جناح وحيد من الحركة المدنية ، مهما كانت جديته ومصداقيته ، لا يستطيع أن يحرك سوى البروتوكولات والتصريحات ومبادرات حفظ ماء الوجه أمام ضغط المنظمات الإنسانية.
خذ تجربة الحرب في كوسوفو وافتح اي كتاب متخصص او دورية في العلاقات الدولية ، تجد أن الاحترام الذي حازته منظمات المجتمع المدني المتنوعة والمتعددة في كوسوفو وفوق ذلك المتحدة حول أهداف ملموسة قد كانت من أهم الدوافع للتدخل الإنساني للمجتمع الدولي في كوسفو ، ليس فقط في إنهاء الحرب بل في إعادة البناء.
4 العزلة الدولية لطرفي الحرب تتزايد وتتزايد الإدانات مع الكوارث المترتبة من مجاعة واوبئة ومجازر وتدهور البيئة المحيطة بهما ويؤدي ذلك الى ارتخاء قبضة حلفائهم الاقليميين وبالفعل قد بدأت الضغوط وحتما سيؤدي ذلك إلى نقص الإمداد لوقود الحرب (أنظر الفقرة الاخيرة من مقال الاستاذ فيصل محمد صالح، 5 يناير 2025م). في نفس الوقت سيلتفت المجتمع الدولي في البحث عن فاعل محلي يمكن أن يركن له ولا يتوفر ذلك الى بوحدة حركة مدنية عريضة تخترق كل قطاعات المجتمع.
5 لا اريد ، ولا يحق لى ، أن اقترح تكتيكات لتتبعها حركة مدنية موحدة نحو السلام وإنهاء الحرب ، فإن هذا شأن الحركات المدنية وهي وحدها لا غيرها من يقرر ذلك. ولكن يحق لي أن أقاوم وهم ظل يتضخم لدي بعض كُتابنا بل بعض الاصدقاء من أحزاب مختلفة في النقاشات الخاصة أنه لا توجد إمكانية للعمل المدني تحت ظل الحرب. ويعمل طرفا الحرب على ترسيخ هذا الوهم لتخلو الساحة لمشروعهما. يتم تجاهل التكايا والمطابخ الطوعية ، عربات الإسعاف المرتجلة التي يقودها مدنيين ، العربات التي تجرها الحمير (الكارو) التي يقودها وينظمها المدنيين حلت محل سيارات الإسعاف في مرآب المستشفيات على حد تعبير موقع قناة الجزيرة ، المتطوعون لدفن الموتى وإنقاذ الجرحى وغرف الطوارىء كل هذا عمل مدني يقوم به الناس كل يوم رغم احتمال القتل والاغتيال والإرهاب والاعتقال بل الاحكام بالاعدام والمحاكم الجائرة.
أود ان اختتم هنا بالاشارة لمجموعة من المقالات نشرت في
(Journal of Peace Building & Development, Volume 12, 2017, Issue 3: Civil Resistance in Context of Armed Conflict )
والتي تناولت حالات المقاومة المدنية في أحلك ظروف الصراعات المسلحة.
أكثر ما رسخ في ذاكرتي من هذه الدراسات مع انها كلها تحمل امثلة جديرة بالتأمل مسيرة الحبوبات (الجدات) والاطفال بمواعين الماء للضغط على مقاتلي داعش الذين منعوا الناس من طرمبات الماء والصهاريج أثناء احتلال داعش لأراضي واسعة في سوريا. وقد نجحت الحبوبات والشفع في إعادة الماء (Bruce Stanley, 2017).
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة