اندلاع ثورة ديسمبر.. جدلية الشرارة وظهر البعير المحمل
اندلاع ثورة ديسمبر.. جدلية الشرارة وظهر البعير المحمل
د. عبد الله عابدين
في يوم الأربعاء التاسع عشر من ديسمبر 2018، اندلعت احتجاجات عارمة في مدينة عطبرة السودانية، بالتزامن مع حراك مماثل في مدينة بورتسودان، ثم تبعتهم القضارف، إثر زيادة مفاجاة، وحادة في أسعار الخبز. ورفع المتظاهرون شعارات تندد بذلك، وبالفشل الكامل لنظام الإنقاذ الاسلاموي، القابض على مفاصل الدولة السودانية، منذ ثلاثين عام.
ولا تكتمل الحقيقة الثورية، ان لم نقل أن جماهير الدمازين كانت قد سبقت ثوار عطبرة بالخروج الى الشوارع، في الثالث عشر من ديسمبر. وهذه أيضا ليست البداية الأولى لشرارة الثورة، حيث ان ثوار مايرنو قد فازوا بقصب السبق، في مهر أسمائهم في دفتر الحضور الثوري، في السادس من ديسمبر..
بهذا فانه يصبح من الضروري اجراء تصحيح هام لاسم الثورة، و ذلك بعدم ربطها بالتاسع عشر من ديسمبر تحديداً، بل بشهر ديسمبر بصورة عامة.
كما أن المقولة السودانية السائدة: “الكسرة تنضج من أطرافها”، تنطبق على هذه الثورة المجيدة، ليس فقط في ما يختص بانطلاق صافرة البداية من ما يرنو، و ما تلى ذلك من أطراف السودان الأخرى، بل في شمول الثورة لكل فيفافي السودان: في البوادي والحضر..
وفي غمرة غضبها العارم هتفت جماهير عطبرة منددة بالنظام، وبالأوضاع الاقتصادية، والسياسية، البالغة السوء، التي يرزح تحتها المواطن السوداني منذ الانقلاب العسكري، الذي اجترحته الحركة الاسلامية، في الثلاثين من يونيو منهية بذلك دورة ديموقراطية السودان الثالثة.
باندلاع شرارة الثورة من هذه المدن، و البلدات السودانية، تصاعدت وتائرها في عطبرة، ومن ثم ازداد زخمها يوما بعد يوم، لتعم العاصمة السودانية الخرطوم، وأقاليم السودان كافة. ومن الصعب أن ينسى أحدنا هتاف ثوار عطبرة في صبيحة التاسع عشر من ديسمبر 2018. حقاً من الصعب نسيان هذا الهتاف، بنغمته الثورية القوية، و بما تحمله عطبرة ذاتها من رمزية ثورية، بما هي “عاصمة الحديد والنار”:
شرقت شرقت.. عطبرة مرقت..
وقد ذكر شهود عيان بأن الاحتجاجات تفجرت في المدينة، بعد خروج طلاب المدرسة الصناعية، وذكر البعض الآخر بأن الشرطة، وعلى الرغم من اطلاقها للغاز المسيل للدموع، لم تتمكن من اخماد هذا الحراك الثوري التلقائي لجماهير عطبرة. وشوهدت بعض الناقلات الخاصة بالقوات المسلحة، وأفرادها، وهم يحيون سيل الجماهير الهادر، وهي تهتف بذات الوحي الثوري العارم، ربما مع تغيير في الصيغة، طفيف، ليعكس تمادي جماهير عطبرة في استلهام الروح الثوري لمدينهم:
سقطت سقطت.. عطبرة مرقت..
ومن ثم إنداحت موجات الحراك الثوري، كما ذكرنا، الى مدن العاصمة السودانية الثلاثة: الخرطوم، أمدرمان و الخرطوم بحري، حيث سقطت أعداد كبيرة من الثوار شهداء. كما أصيبت أعداد أكبر منهم جراء اطلاق الزخيرة الحية، على صدور و رؤوس فتيان، و فتيات ثورة السودان البواسل، في موجات الحراك المتتابعة في وسط الخرطوم.. خاصة السوق العربي في وسط الخرطوم، وحي بري في المناحي الجنوبية الغربية للخرطوم، ليس بعيداً عن مركز المدينة. وقد شمل الحراك الثوري أحياء أمدرمان القديمة، مثل الموردة، و أبو روف، و العباسية، حيث عمت موجات ضخمة لأوار بحر الثورة المتلاطم. وكان لأجزاء من الخرطوم بحري، مثل شمبات، والشعبية، والحلفاية، وغيرها، نصيب كبير من المد الثوري المتعاظم..
أما الخلفية المباشرة التي أحاطت بتلك الانتفاضة الثورية العارمة فتكمن، كما أسلفنا، في ما عرف بأزمة القوت و الوقود و النقود. ولا يمكننا تصور هذه الخلفية المباشرة، المتمثلة في مثلث القوت و الوقود و النقود، الا بمثابة الشرارة التي قدحت زناد الثورة. و من المعلوم أن الشرارة و حدها لا تكفي لتبرير ثورة بأكملها، لأنها تمثل مجرد “القشة التي قصمت ظهر البعير”. ذلك بان ظهر البعير لابد أن يكون محملا بأقصى حمولة، حتى يكون مهيئا لتقصمه مجرد قشة.
و الحق يقال، أن هذه الحمولة الثقيلة على ظهر الشعب السوداني، تتمثل في أمر محتوم النتائج. و ما ذاك الأمر المحتوم، الا الأسلوب المعوج الذي أديرت به البلاد، منذ الانقلاب العسكري، الذي امتطته الجبهة القومية الاسلامية لاعتلاء عرش السلطة، و وصولها الى سدة الحكم في أرض السودان، في الثلاثين من يونيو من العام 1989. فعلى مدى ثلاثين عام عجاف، كانت جماهير الشعب السوداني، و نخبه، “تعاني الأمرين”، حيث قلبت هذه الطغمة الحاكمة “نهار الشعب السوداني الى ليل”، و لم يعد في كنانة هذا الشعب العظيم سوى الصبر المر. أليس هذا الوضع مهيئاً للانفجار لمجرد اضافة أوقية الى حمولة ميزان الصبر العلقم هذا؟! .. و هل للانفجار من هذا النوع، اسم سوى الثورة؟!..
واندلاع الثورة، أي ثورة، يمكن نعته بالنار التي هي “من مستصغر الشرر”، أما الثورة ذاتها فهي بطبيعتها الأصيلة ظاهرة تراكمية. و يمكن تمثيلها بمياه سد عظيم، فهي تتجمع خلف السد، قليلا، قليلا، بصورة لا تكون بينة لمن يكون في الناحية الأخرى من السد، بل ربما حتى للمشاهد من نفس جهة بحيرة السد. هكذا تتجمع المياه خلف السد، ربما حتى قطرة، فقطرة، و لدى بلوغها نقطة حرجة، تتفوق المياه على علو السد، أو حتى على قوة ترسانته، فتحطمه، و تجرف السد ذاته أمامها، لتنهمر المياه هادرة لا تبالي بمن، و بما، يقف في طريقها.
هكذا كانت ثورة ديسمبر المجيدة، حيث انهار سد، و حاجز الخوف، تلك الترسانة “التي افتنت في حياكتها” أيدي الطغيان، على مدى عقود من ظلام الانقاذ الحالك. و مرحلة سقوط حاجز الخوف تلك، مرحلة في السرديات الثورية، لو تعلمون، عظيمة. ذلك لأن حمولة الخوف و القهر الكبيرة تلك، لا تتبخر في الهواء، و انما تنتقل الى الطرف الآخر، الى قلب الخصم: قسمة عادلة تجسد مقولة “كما تدين تدان” تجسيدا يكاد يرى بالعين المجردة. و هذه ظاهرة جسدتها ثورة ديسمبر منذ تفجرها العارم، و عبر جميع مراحلها المختلفة، تجسيداً ثورياً لا شية فيه. ثورة تحدث عنها القاصي، و الداني، و أعجب بها كل العالم .. و هي ما تزال ترقد في قاع موجتها: مارداً يتربص بقوى الظلام، و خفافيشه، متحيناً الحين، حتى ينطلق من جديد، موجة جديدة، أقوى من سابقتها، فلا نامت أعين الجبناء..
المصدر: صحيفة التغيير