الولايات المتحدة ترفع العصا القانونية: العقوبات الأميركية بداية العزلة ونهاية الوهم

في لحظة مفصلية من تاريخ السودان، أطلقت الولايات المتحدة الأميركية واحدة من أخطر إشاراتها القانونية والدبلوماسية تجاه الحكومة السودانية، بعد أن أعلنت رسمياً أن الأخيرة استخدمت أسلحة كيميائية في عام 2024، في انتهاك صارخ لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية. هذا الإعلان لا يمثل فقط إدانة سياسية، بل يشكّل بوابة لعزل دولي وتصعيد قانوني متسارع، ستكون له تبعات واسعة النطاق، داخل السودان وخارجه.
القرار الأميركي الأخير لا يُقرأ بمعزل عن سوابق مماثلة، بل يُفهم ضمن سياق متدرج، يبدأ بعقوبات محددة، ويتطور إلى عزل دبلوماسي، وربما مساءلة جنائية دولية. فبموجب هذا الإعلان، تبدأ واشنطن تفعيل آلية قانونية تُقيّد بموجبها تصدير التكنولوجيا للسودان، تمنع التمويلات والائتمانات، وتجمّد أي مساعدات غير إنسانية، فضلاً عن فرض قيود على التأشيرات، وربما قوائم عقوبات شخصية تحت مظلة قانون OFAC.
لن تمر هذه العقوبات مرور الكرام. إذ أن الأثر الاقتصادي سيكون عميقاً ومدمراً؛ من تقييد حركة التمويل والتحويلات البنكية، إلى شلل في نظام الاعتمادات البنكية وتهرب البنوك العالمية من أي تعامل مباشر مع السودان. لا النظام المالي الأميركي، ولا حتى الأوروبي أو الآسيوي، سيتحمل كلفة مخالفة إرادة واشنطن، خاصة مع التلويح بعقوبات ثانوية.
المصارف السودانية الكبرى، وعلى رأسها البنك المركزي، أمام خطر استبعاد فعلي من نظام SWIFT، وهو ما يعني انهيار قدرات الدولة على الاستيراد والتصدير، وتآكل ما تبقى من ثقة السوق في الاقتصاد السوداني، الذي يعاني أصلاً من وهن مستمر.
الشق الأخطر في القرار الأميركي لا يكمن في العقوبات الاقتصادية فحسب، بل في البعد القانوني الدولي، الذي يُمهّد الطريق لتحقيقات محتملة من المحكمة الجنائية الدولية، تماماً كما حدث في حالات مشابهة مثل سوريا وروسيا. وإن ثبت استخدام الأسلحة الكيميائية، فإن مساءلة القيادة العسكرية والسياسية السودانية تصبح حتمية، وعلى رأسهم القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان
ليس من المستبعد أن تصدر مذكرات توقيف دولية، كتلك التي لاحقت البشير، وهو ما يعني عزلة سياسية خانقة وتآكل في شرعية القيادة السودانية داخليًا وخارجيًا.
من يتوهم أن بإمكانه النجاة من هذا الطوق الدولي بالقوة العسكرية أو بالمراوغة السياسية، يُخطئ الحساب. فالقرار الأميركي الأخير ليس مجرد إجراء عابر، بل هو بداية تحويل السودان إلى ملف مفتوح على الطاولة الدولية. وأي تأخير في استيعاب جدية هذا التحول، يعني مزيداً من الانهيار والمواجهات.
إن المجتمع الدولي، بقيادة واشنطن، لن يسمح بتكرار سيناريو الكيماوي دون عقاب. وما إعلان الخارجية الأميركية سوى تمهيد لتسويات كبرى، لا يمكن أن تمر إلا عبر وقف الحرب، فتح مسار سياسي جاد، وضمان محاسبة مرتكبي الجرائم الكبرى.
في ظل هذا الواقع، تقف الحكومة السودانية أمام مفترق طرق تاريخي: إما التمسك بخيار التصعيد والانغلاق، وهو ما سيُفضي إلى انهيار داخلي وعزلة دولية محكمة؛ أو الانخراط في تسوية شاملة تنهي الحرب، وتُعيد للسودان بعضاً من صورته في المجتمع الدولي.
القرار الأميركي هو أكثر من عقوبة؛ إنه إعلان دولي عن بداية مرحلة جديدة… مرحلة لا مكان فيها للكيماوي، ولا للأنظمة المغلقة، ولا لحروب لا نهاية لها.
إدراك
المصدر: صحيفة الراكوبة