اكرم ابراهيم البكري

 

مقدمة

من بين الازمات الهيكلية التي تعاني منها الدولة السودانية منذ الاستقلال، برزت ظاهرة تحول النشاط السياسي ألي وسيلة للعيش لا وسيلة للتغيير. فقد أصبح العمل الحزبي والسياسي، بدل أن يكون ساحة للنضال من أجل الصالح العام، باب للارتزاق والتسلق الاجتماعي والاقتصادي، وقد أدى هذا التحول ألي تقويض كثير من القيم النضالية، وتفريغ الأحزاب من مضمونها الفكري، وتحويلها إلى أدوات تفاوض للحصول على مناصب، مما أسهم بشكل مباشر في الانهيار المؤسسي وتدهور الخدمات وتراجع الثقة الشعبية في الدولة.

جذور الازمة من التحرر إلى التوظيف السياسي

منذ فجر الاستقلال اتسم المشهد السياسي السوداني بسيادة النخب المركزية التي احتكرت جهاز الدولة لمصالحة طبقية محددة، لكن الظاهرة تعمقت شكل كبير بعد تفكك الأطر الأيديولوجية الكبرى في تسعينيات القرن الماضي، بالأخص مع تمدد سلطة الإسلاميين الذين أرسوا نموذج بيروقراطي سلطوي يقوم على الولاء السياسي لا الكفاءة فيما عرف بسياسة التمكين.

يشير أحد الباحثين أن البيروقراطية في السودان لم تتحول إلى جهاز خدمة مدنية، بل بقيت أداة للهيمنة السياسية والتنازع الطبقي والإثني في السودان.

تمت اعادة لتعريف الانتماء السياسي بوصفه طريق إلى الوظيفة والدخل، بدلا من كونه التزام فكري وأخلاقي أو مشروع اجتماعي

الوظيفة السياسية بدلا عن العمل

نلاحظ أن الكثير من كوادر الأحزاب السياسية وبالأخص خلال الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة ديسمبر المجيدة تعاملوا مع العمل السياسي كوظيفة منتظرة، وكانت ملاحظة واضحة في صراع قوي الحرية والتغيير في توزيع المحاصصات الوزارية والطامة الكبرى كانت فيما يعرف باتفاق جوبا تحول كامل المشروع السياسي في تلك اللحظة الى مشاريع شخصية.

نجد الشيء المتفق عليه في العمل السياسي في السودان ان كل تغيير يعيد ترتيب السلطة لخدمة المركز والنخب المسيطرة دون مساس بطبيعة الدولة نفسها وهذه الطريقة لا يستثنى منها اى تغيير ان كان انقلاب عسكري او حتى تغيير بواسطة انتفاضة او ثورة لذلك تجهض وتموت كل الثورات في السودان.

الا أن الظاهرة الأكثر فداحة هنا هي أن كثيرا من الناشطين السياسيين خاصة الشباب تم استيعابهم في الدولة عبر التعيينات السياسية المؤقتة، فتحولوا من معارضة النظم التي كانوا يناهضون ضدها إلى الدفاع عنها بعد حصولهم على مناصب مما يعكس هشاشة المشروع السياسي وانعدام البدائل الاقتصادية في مشاريع المعارضة السودانية ونقصد هنا ان المعارضة لم تكن نزيه في مناهضتها للنظام من حيث مقومات الدولة السودانية التي تكرس لهيمنه محددة بقدر ماهي كانت معارضة سطحية ذات بعد سياسي واتفاق في مرتكزات الحكم مع النظام الامر الذي ادي الى العنوان القادم

انهيار القيم النضالية واحتراف السياسة

مع تراكم الأزمات الاقتصادية وغياب سياسات التشغيل، أصبحت السياسة بالنسبة للكثيرين ملجاً اقتصادياً. ويلاحظ أن الأحزاب لم تعد تنتج كوادر تحمل رؤى وأفكار، بل كوادر تبحث عن منصب. وهذا ما ادي الى فشل الدولة السودانية في خلق تنمية متوازنة نتيجة لتحالف الدولة مع نخبة مركزية حولت جهاز الحكم إلى أداة للاستحواذ لا للتنمية

وعليه، أصبحت الوزارات، المجالس السيادية، وظائف المستشارين، ولجان التفاوض، مساحات للتكسب السياسي، حيث لا يتردد البعض في تغيير مواقفهم، أو الانقلاب على حلفائهم، طمعاً في فتات السلطة وهذا واضح للعيان لا يحتاج الى امثله يقينية.

الاثر البنيوي كيف يساهم هذا النمط في تدمير الدولة؟

هذا النمط من الوظيفية السياسية يؤدي إلى انعدام الكفاءة حيث يتم تعيين الأشخاص بناء على الولاء الحزبي فقط وليس الكفاءة، الامر الذي يؤدي إلى ضعف الأداء المؤسسي بشكل واضح وأفراغ الخدمة المدنية من معناها بل تحويلها إلى امتداد للحزب الحاكم أو التحالف السياسي المزعوم، ويؤدي ايضاً الى اضعاف ثقة المواطن في الدولة حيث يرى المواطنون أن العمل السياسي وسيلة ارتزاق لا وسيلة لحل المشاكل العامة ، كما يعمل على تدهور الاقتصاد إذ يتم توظيف آلاف الأشخاص سياسيا في وظائف لا إنتاجية، ما يثقل كاهل الموازنة ويؤدي إلى سوء إدارة الموارد وفى النهاية يكون هنالك انقسام في الحركات السياسية بسبب الصراع حول المناصب لا حول برنامج او مبادي ويتحول هذا الصراع السياسي الى حراك مسلح يهدد الاخر بالاستجابة الى المطالب حول اقتسام السلطة او التمرد.

الحالة السودانية ما بعد الثورة (20192025): استمرار الأزمة.

رغم الإطاحة بنظام البشير، فإن الظاهرة لم تختفي، بل تجلّت بوضوح في التنافس بين القوى السياسية على التمثيل في الهياكل الانتقالية. أضحت الوزارات وكأنها غنائم ثورية. وصار النقاش يدور حول من يمثل الثورة؟ لا حول كيف نعيد بناء الدولة؟

وقد ظهرت نماذج كثيرة لناشطين ظلوا دون عمل سوى انتظار التعيين، واختُزل المشروع السياسي فيمن يحصل على الوزارة؟ بينما تدهورت الصحة والتعليم والأمن، وانهارت العملة، وتفشت البطالة، في ظل صراع نخبوي فوقي على سلطة منهكة اساساَ في الختام ان الخروج من هذا المأزق يتطلب أعادة تعريف السياسة كمجال للخدمة لا الارتزاق، واصلاح الخدمة المدنية وفصلها عن المحاصصة، انتاج بدائل اقتصادية وتشغيلية حقيقة للشباب، وتمكين القواعد الشعبية من محاسبة النخب السياسة تعزيز الثقافة النضالية لا التكسب داخل الأحزاب.

التحول يبدأ عندما ندرك أن السياسة ليست مهنة، بل رسالة. وعندما تتوقف الدولة والأحزاب عن مكافأة الولاء، وتبدأ في مكافأة الكفاءة، حينها فقط يمكننا استعادة الدولة من قبضة المرتزقة الجدد .

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.