اخبار السودان

الهوية السودانية بين الغابة والصحراء(1/2)

السودان بموقعه المميز فى قلب القارة الإفريقية يشكل معبرا مهما لكل ما هو قادم من الشمال الإفريقى و الشرق الآسيوي، إلى جنوب و غرب و شرق القارة السمراء. و يحتل مساحة تقدر ب 1886000 كيلو مترا مربعا تجعله فى المرتبة الخامسة و الثلاثين عالميآ و الرابعة عربيآ.
على أرضه نشأت أعرق الحضارات العالمية على الإطلاق، و هى الحضارة النوبية و عاصمتها كرمة و التى تؤرخ على أنها أول عاصمة ولأول دولة فى العالم و نظامها الملكى هو الأقدم في التاريخ البشرى.
شيدت هذه الحضارة المعابد و الأهرامات و عرفت الصناعة والتجارة و إستخدمت الحديد و معادن أخرى كأدوات متعددة الأغراض و الإستخدام و كتبت بلغتها قبل اللغة الفرعونية المصرية بعدة قرون .
و إمتد حكم الفراعنة السودانيين إلى مصر و حكموها مئات السنين و تواصل حكمهم و بلغ حتى فلسطين فى العام 3050 قبل الميلاد.

فى عام 1924 عثر فى مدينة سنجة الواقعة على النيل الأزرق على أقدم الهياكل البشرية فى العالم و هو يعرف ب ( إنسان سنجة ) الموجود في المتحف البريطاني، و دلت الدراسات إلى أنه يعود إلى العصر الحجري، أى إلى قبل أكثر من 160000 سنة مما يؤكد بالدليل القاطع أن الإنسان الأول عاش على هذه الأرض و كما تشير خارطة النمو البشرى الموجودة في المتحف الطبيعى فى مدينة ملبورن الأسترالية.

فى عام 1504 تأسست دولة السلطنة الزرقاء و التى عرفت كذلك بالدولة السنارية منسوبة إلى عاصمتها مدينة سنار، نتيجة تحالف بين قبائل الفونج الزنجية على النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس و قبائل العرب في وسط و شمال السودان بقيادة عبد الله جماع، كأول دولة إسلامية و عربية تجسد الواقع الجغرافى و العرقي ، جذورها أفريقية و جوهرها و ملامحها عربية.
و شكلت النواة الأولى للسودان بحدوده الحالية.
وظلت هذه السلطنة متماسكة و قوية حتى عام 1821، و بذلك تعتبر فترة حكمها هى الأطول لدولة عربية إسلامية بعد سقوط الأندلس.

فى عام 1881 قاد الإمام محمد أحمد المهدى القادم من الشمال النوبى ثورة شعبية مسلحة ضد الحلم التركى المصرى و المدعوم من بريطانيا و أستطاع أن يجمع حوله رجالا من معظم أقاليم و قبائل السودان فى تحالف و تآذر بديع إختفت خلاله كل الفوارق الإثنية و الجهوية و توحدت الإرادة و الرؤية والرسالة.
و كانت الثورة تهدف فى المقام الأول رفع مظالم ما يعرف الآن ( بسلطة التركية السابقة ) و إسقاطها و من ثم إقامة دولة إسلامية على هدى الخلافة الراشدة تتعدى حدود السودان شمالا إلى مصر و شرقا إلى الحبشة و غربا إلى ليبيا و دول الغرب الإفريقي، تحمل و تبشر بعالمية الدعوة الإسلامية.
بعد معارك عنيفة و خاطفة في مواقع الوجود الإستعماري وصلت الى الخرطوم و التى سقطت بمقتل القائد الإنجليزي الشهير غردون فى عام 1885. و أعلن عن الدولة المهدية و التى أتخذت مدينة أم درمان عاصمة لها. و بعد أشهر وافت المنية الإمام المهدي و خلفه عبد الله التعايشي و كان رجلا ضيق الأفق و تكالبت عليه عدة عوامل لم يحسن التعامل معها و أدت فى النهاية إلى تفكك الدولة الوليدة و إنتهت بالغزو الانجليزي و هزيمتها في معركة كررى في عام 1889.

ومنذ ذلك التاريخ بدأت حقبة جديدة من عصر الإستعمار البريطاني في السودان و الذى مارس سياسته المعروفة ( فرق تسد ) و فى ضرب عناصر القوة المادية و المعنوية للشعب و إعلاء عناصر الهدم و الخنوع. فقام بحملة ممنهجة فى شيطنة العرب و المسلمين لدى القبائل الزنجية و محاربة التعليم الديني فى الخلاوي و تقديم قدر مبسط من التعليم الابتدائي و الأوسط لأبناء المركز فى تجاهل متعمد في تعليم أبناء الأطراف و سعى إلى خلق مراكز قوى فى الأقاليم من زعماء القبائل مقدما العصا و الجزرة.
فصل الجنوب إداريا و جعل منه منطقة مقفولة لا يمكن العبور إليها إلى بإذن خاص. و أستغل واقع العرق الزنجى في الجنوب فى بث روح الكراهية و الحقد تجاه الشمال العربى بروايات و قصص مختلقة و مكن الإرساليات المسيحية و أطلق يدها في التنصير و التبشير و ضيق الخناق على العرب والمسلمين.

هذا الواقع الجديد قاد إلى بروز طبقة نيرة من و السياسيين و الأدباء والكتاب و الشعراء و المبدعين ذوى ثقافة عربية و إنتماء بالكامل للأمة العربية فى الجوهر و المظهر، كردة فعل طبيعية لمحاولة الإستعمار في طمس الهوية الإسلامية و العربية و عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي.
و تشكلت مدارس فكرية مرتبطة إرتباطا وثيقا بمدارس فكرية فى مصر و فى المشرق والمغرب العربيين.
و كانت هذه المدارس نواة لحركة ثقافية وفكرية عارمة ذات أهداف و تطلعات وطنية، إنتظمت معظم مدن السودان الكبرى ، و من رحمها ولد معظم السياسيين و الشعراء والأدباء الذين قادوا حركة الخريجين في نهاية ثلاثينات القرن الماضي و التى إنتهت إلى تكوين الأحزاب السياسية و التى قادت إلى إستقلال السودان فى مطلع عام 1956.

فى السودان المعاصر تعيش فسيفساء من السحنات من القبائل العربية و الزنجية و الغالبية هى هجين بين هذه و تلك. و عددها يصل إلى ما يقارب 570 قبيلة، مقسمة إلى 57 فئة إثنية و يتحدثون حوالى 114 لهجة محلية و يشتركون جميعا فى التحدث باللغة العربية الدارجة السودانية.

هذا التنوع العرقي و الثقافى كان له الأثر الإيجابي في مرحلة ما بعد الإستقلال وقدم دفعة مهمة أثرت في مواطن الإبداع شعرآ و نثرآ و تشكيلآ في تلاقح ، جامع و مزهر للنسيج الاجتماعي في البلاد.
و لم تكن الهوية الوطنية السودانية همآ أو شاغلآ لقادة السودان بعد الإستقلال. و كان الإنتماء العربي و الإسلامي أمرآ لا جدال حوله و يعتبر من البديهيات المسلمات بهما . و قد تكون هناك بعض الأصوات الخافتة و التى تهمس على على إستحياء في الخفاء.
و أول ظهور للعلن يخاطب مسألة الهوية السودانية كان في عام 1962 فى مدرسة الغابة و الصحراء . و هى حركة شعرية ثقافية تمازج بين العنصر العربى و يرمز له بالصحراء و العنصر الإفريقى و يرمز له بالغابة . و من أبرز مؤسسيها النور عثمان أبكر، محمد عبد الحى ، محمد المكى إبراهيم، يوسف عيدابى، إسحاق إبراهيم، عبد الله شابو، على المك، مصطفى سند و صلاح أحمد إبراهيم.
و هذه المدرسة كانت صيحة في واد ، ذهبت أدراج الرياح و لم تترك اثرآ ظاهرآ و خلفت إرتدادات أشبه بما يحدث بعد زلزال عنيف.
و لقد تعرضت لإنتقادات جمة لغلو الطابع اليسارى عليها و ولعدم توافقها على تعريف محدد للهوية.
بعضهم كان يميل إلى إعلاء الأثر و التأثير الإفريقى كالنور عثمان أبكر و بعضهم يغلب الأثر العربى كصلاح أحمد إبراهيم و آخرون يميلون إلى الهجين كمحمد المكى إبراهيم كما جاء في قصيدته الشهيرة ( بعض الرحيق أنا و البرتقالة أنت ) لله يا خلاسية. و التى يقول فى بعض أبياتها ( يا بعض زنجية يا بعض عربية و بعض أقوالى أمام الله ) .
و كتب هؤلاء الشعراء و الأدباء شعرآ ونثرآ راقيا بلغة عربية مبينة و رصينة و زينوها بمفردات و مقولات و تعابير من الموروث الشعبي و اللغوي المحلي في تناسق جميل و غير مخل للفصحى أو للعامية الدارجة. و هذا التداخل المحبب بين اللهجة و اللغة ليس فيه خروج عن المألوف فى الأدب العربي و لا يدل على هوية غير عربية. فالقاص المصرى يحى حقى جسد هذا النهج القويم و عبر عنه في روايته ( قنديل أم هاشم) . و كذلك نحى نحوه الأديب العالمى نجيب محفوظ فى تناوله لشخوص و مسارح رواياته.
و أديبنا السودانى الطيب صالح جعل من رواياته صورة ناطقة عن الريف السودانى بتوصيف دقيق بريشة فنان آخذ فيه العامية في عزف متناسق مع الفصحى. و شاعر إفريقيا محمد الفيتوري و الذى طالما تغنى بها ولها فى معظم قصائده، ظل قوميآ عربيآ و لم يتنكر لعروبته في يوم من الأيام.

أثار مقالي المنشور فى المدار قبل فترة بعنوان ( الوحدة العربية بين الواقع و الأمل ) ردودآ متباينة بين السودانيين. و كانت فى غالبها سلبية تجاه الوحدة العربية و تميل إلى التقوقع في الإطار القطرى، بعضها يدعو إلى قطيعة كاملة مع العرب و يدعو الله أن يكفينا شرهم وتآمرهم .
كتب أحدهم ( نحن مع العرب و تجمعنا المشاعر و الأهداف و لكنى لا أؤمن بالوحدة العربية )
و كتب آخر ( نحن أفارقة أصلآ و لا يهمنا توحد العرب أو تفرقهم ) .
وكتب لى صديق ثالث أعرفه جيدآ و هو مناضل و ناشط سياسي معروف قائلآ ( لقد تصالحت مع نفسى و تخلصت من وهم عروبتى و أنا الآن أكثر تناسقآ من الناحية النفسية من حيث اللون و الشكل و الجينات . فقد وجدت قناعتي بأني سوداني و أفريقي، ناطق بالعربية و ثقافتي أفريقية ممزوجة بشئ من الثقافة العربية و الإسلامية بحكم الجوار ) .
و كتب رابع ( العرب لا يعترفون بنا بحسباننا أفارقة و الأفارقة لا يعترفون بنا بحسباننا عرب و أصبحنا هكذا كالنعامة، لا طائر و لا جمل ) .
بقية الردود على هذا المنوال و الذى يشكل ردة على الإنتماء العربي و الإلتزام القومي لدى السودانيين و الذى كان يهتف على الدوام ( جيش عربي واحد شعب عربي واحد ) .
و يعبر عن إنقلاب فى المفاهيم و المبادئ و القيم التى تخلقت و تشكلت مع نشأة الدولة السودانية الحديثة التي أسسها و رعاها وحافظ عليها جيل الإستقلال .

إن هذا التطور السلبي في مفهوم الوحدة العربية و الإنتماء القومي ، جعل قضية الهوية السودانية حاضرة بقوة و تطرق الأبواب بعنف فى عالم متحرك نحو المجهول و فى إقليم تمزقه الحروب و المنازعات و التناحر و أصبح مسرحا تصفى فيه الخلافات الدولية .
و نحن نعيش الآن ثورة نأمل ان تصل إلى مبتغاها في نظام ديمقراطي تسوده الحرية و السلام و العدالة.

و هذا التطور لم يحدث بغتة و إنما نتيجة تراكمات و مسببات و مبررات، نمت و ترعرعت في العقود الثلاثة الأخيرة. و التى كانت لها أرضية نتنة خفية منذ الفترة الإستعمارية، إستغلها النظام الظلامي للإخوان المسلمين، فأزكى نار الفتنة و الفرقة بين القبائل العربية و الزنجية و أعلى روح القبلية و الجهوية . و أشعلها حربآ دينية قادت إلى إنفصال الجنوب و حربآ عرقية تآكل الأطراف في جنوب كردفان و النيل الأزرق و دارفور.

هل هذا التحول فى مفهوم الوطنية والقومية و الإنتماء الجغرافي شأن سوداني خالص أم له إمتداد و تواصل مع محيطه العربي و الإفريقي ؟
و هل أسبابه و دواعيه و منطلقاته و أهدافه موضوعية و عميقة و مجذرة، أم هى سطحية و طافية على سطح من الأوهام و الخيال و مسنود على الواقع العربي المزري ، و يمكن التغلب عليها و إزالتها و العبور بمستقبل السودان إلى موقعه الطبيعي و المؤثر إيجابيآ في العالم العربي كما حدث عام 1967 في فى مؤتمر اللاءات الثلاث فى الخرطوم.

هذا ما سأجيب عليه فى الجزء الثاني من هذا المقال.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *