الهولوكوست: كيف أصبح معسكر “أوشفيتز” رمزاً للإبادة النازية؟
الهولوكوست: كيف أصبح معسكر “أوشفيتز” رمزاً للإبادة النازية؟
قبل 80 عاما، حررت القوات السوفييتية سجناء “معسكر الموت” النازي في أوشفيتزبيركيناو، ويشارك في مراسم ذكرى هذا العام بعض ممن نجوا من هذا المعسكر، لإحياء ذكرى 1.1 مليون شخص قُتلوا هناك في أربعينيات القرن الماضي.
يبلغ معظم الناجين الباقين على قيد الحياة حتى الآن التسعينات من العمر، وقد يكون هذا هو العام الأخير الذي يمكن لأي منهم المشاركة في إحياء تلك الذكرى.
في غضون ما يزيد على أربع سنوات ونصف، قتلت ألمانيا النازية بشكل منهجي نحو 1.1 مليون شخص في معسكر أوشفيتز، الذي بُني في جنوب بولندا، المحتلة في ذلك الوقت، بالقرب من مدينة تحمل نفس الاسم.
كانت مدينة أوشفيتز في قلب الحملة النازية، التي تهدف إلى القضاء على السكان اليهود في أوروبا، وكانت تضم نحو مليون من أولئك الذين ماتوا هناك من اليهود، فضلا عن مقتل آخرين من المواطنين والبولنديين والغجر وأسرى الحرب الروس.
وبحلول الوقت الذي دخل فيه الجيش الأحمر الروسي بحذر أوشفيتز في 27 يناير/كانون الثاني 1945، لم يتبق في المعسكر سوى نحو 7000 سجين، وكان عشرات الآلاف من الناس قد أُجبروا بالفعل على الرحيل سيراً على الأقدام في “مسيرات الموت” مع تراجع قوات النازيين غرباً.
وكان السجين الإيطالي، بريمو ليفي، يرقد في مستشفى المعسكر على إثر إصابته بالحمى القرمزية عندما وصلت القوات السوفيتية لتحريرهم.
وكتب لاحقاً في مذكراته عن الهولوكوست التي حملت عنوان “الهدنة” قائلا: “ألقى الرجال نظرات استغراب يكسوها الحرج وهم يرون الجثث الممددة، والأكواخ المدمرة، ونحن الذين كنا على قيد الحياة”.
وأضاف: “لم يلقوا علينا التحية، ولم يبتسموا، بدا أنهم مثقلون نفسيا ليس بالشفقة فحسب، بل بشعور الذنب الذي اجتاحهم جراء حدوث مثل هذه الجريمة”.
وقال الجندي، إيفان مارتينوشكين، عن تحرير السجناء من معسكر الموت: “رأينا عددا من الأشخاص في حالة هزال ويتألمون وفقراء. استنتجنا من نظراتهم فرط السعادة التي شعروا بها حال إنقاذهم من هذا الجحيم”.
ما هو الهولوكوست؟
تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة
يستحق الانتباه نهاية
عندما وصل النازيون إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، بدأوا في تجريد اليهود من جميع الممتلكات والحريات والحقوق بموجب القانون. وبعد الغزو الألماني واحتلال بولندا عام 1939، بدأ النازيون في ترحيل اليهود إلى مناطق في بولندا، حيث أنشأوا أحياء يهودية لفصلهم عن بقية السكان.
وفي عام 1941، أثناء الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي، بدأ النازيون “حملة إبادة” جدّية، وتحدث النازيون عن غزوهم باعتباره حرباً عرقية بين ألمانيا والشعب اليهودي، وكذلك السكان السلافيين والغجر.
انطلقت مجموعات من القوات الألمانية تسمى “فرق العمليات” عبر الأراضي المحتلة وقتها في أوروبا الشرقية لقتل المدنيين، وبحلول نهاية عام 1941، كانوا قد قتلوا 500 ألف شخص، وبحلول عام 1945 كانوا قد قتلوا نحو مليوني شخص، من بينهم مليون و300 ألف يهودي.
وخلف خطوط المعارك، سعى القادة النازيون إلى تجربة طرق تهدف إلى القتل الجماعي، إذ كانوا يخشون أن يكون إطلاق النار على الناس مرهقاً للغاية لجنودهم، لذا توصلوا إلى ابتكار وسائل أكثر فتكا.
لجأوا إلى استخدام شاحنات الغاز لقتل الأشخاص المعوّقين ذهنيا في بولندا منذ وقت مبكر من عام 1939، فضلا عن ضخ أبخرة سامة في حجرة مغلقة لخنق من بداخلها، وبحلول شتاء عام 1941، كان النازيون قد انشأوا أول غرفة غاز ومحرقة جثث في أوشفيتز.
واجتمع زعماء النازية في يناير/كانون الثاني عام 1942 في مؤتمر “فانزي” لتنسيق عملية القتل الجماعي الممنهجة، أو ما أطلقوا عليه “الحل النهائي للمسألة اليهودية”، بهدف القضاء على جميع السكان اليهود في أوروبا، البالغ عددهم 11 مليون نسمة، من خلال الإبادة والعمل القسري.
ما هو معسكر أوشفيتز؟
كان أوشفيتز في الأصل ثكنة للجيش البولندي في جنوب البلاد، عندما غزت ألمانيا النازية بولندا واحتلتها في سبتمبر/أيلول 1939، وبحلول مايو/أيار عام 1940، حوّلت الموقع إلى معسكر اعتقال للسجناء السياسيين.
ورفع ضابط نازي يدعى رودولف هوس، أصبح قائداً لمعسكر الاعتقال، شعار “العمل يحررك”، استعاره من معسكر داخاو في ألمانيا حيث كان يخدم سابقاً.
ولا تزال تلك الكذبة الشهيرة منحوتة حتى اليوم فوق مدخل المعسكر الذي أصبح يُعرف بأوشفيتز 1.
ومع اتساع رقعة المعارك، وسّع النازيون الموقع بشكل كبير، وكان أول من تعرض للغاز مجموعة من السجناء البولنديين والسوفييت في سبتمبر/أيلول 1941.
ثم بدأ العمل في معسكر جديد، أوشفيتز 2بيركيناو، في الشهر التالي، وأصبح هذا المعسكر موقعا لغرف الغاز الضخمة، إذ قُتل بداخلها مئات الآلاف قبل نوفمبر/تشرين الثاني 1944، فضلا عن محارق الجثث.
كان من المقرر أن يصبح معسكر بيركيناو أكبر معسكرات الإبادة النازية الستة، لاسيما بعد الانتهاء من ثلاثة معسكرات أخرى، في بيلزيك وسوبيبور وتريبلينكا، في عام 1942.
شملت أول عمليات ترحيل لليهود إلى أوشفيتز الثانيبيركيناو 999 امرأة وفتاة من سلوفاكيا في مارس/آذار عام 1942، تلا ذلك على الفور عمليات ترحيل من فرنسا وهولندا وبلجيكا، وبحلول عام 1944، وصل عدد اليهود الذين كانوا يُقتلون يوميا إلى 12 ألف يهودي.
كما أدارت شركة المواد الكيميائية الألمانية “آي جي فاربن” عمليات بناء وتشغيل مصنع للمطاط الصناعي في أوشفيتز 3مونوفيتز، ولجأت شركات خاصة أخرى مثل “كروب” و”سيمنزشوكيرت” إلى إدارة مصانع قريبة، واستعانت بالسجناء كعمال عبيد، ونجا كل من بريمو ليفي والحائز جائزة نوبل، إيلي فيزيل، من معسكر الاعتقال مونوفيتز.
وعندما جرى تحرير أوشفيتز أخيرا، كان هناك ما يزيد على 40 معسكراً وفرعاً تابعاً.
كيفية إدارة معسكر أوشفيتز؟
كانت القوات النازية تُكدس الناس من جميع أنحاء أوروبا في عربات ماشية بدون نوافذ أو مراحيض أو مقاعد أو طعام، ثم ترحيلهم إلى أوشفيتز.
وهناك كان يجري فرز هؤلاء الأشخاص، إلى فئتين: فئة يمكنها العمل وفئة أخرى تُقتل فورا.
كانت تُوجّه أوامر للمجموعة الأخيرة بخلع ملابسهم وإرسالهم إلى الحمامات للقضاء على القمل، وهو تعبير مخفف كان يشير إلى غرف الغاز.
بعدها يبدأ حراس ما يسمى بـ “المعهد الصحي” بإسقاط حبيبات غاز زيكلونب القوية في الغرف المغلقة، وينتظرون موت السجناء، كان الأمر يستغرق نحو 20 دقيقة. لم تتمكن الجدران السميكة من حجب صرخات أولئك الذين كانوا يختنقون في الداخل.
ثم يقوم أفراد يطلق عليهم “سونديركوماندوس”، أي “الفرق الخاصة بالألمانية”، وهم سجناء يهود آخرون أُجبروا على العمل لصالح الحراس أو ممارسة القتل، بخلع الأطراف الاصطناعية والنظارات والشعر والأسنان قبل سحب الجثث إلى محارقها، ودفن الرماد أو استخدامه كسماد.
وكانت تُؤخذ متعلقات أولئك الذين قُتلوا في غرف الغاز، وأولئك الذين أُرسلوا للعمل، لفرزها في جزء من المعسكر يُعرف باسم “كندا”، وأُطلق هذا الاسم لأن كندا كانت تُعتبر أرضاً غنية.
من هم الضحايا؟
سعى الحراس إلى إخفاء جرائمهم مع زحف القوات السوفييتية، وحاولوا تدمير سجلات السجناء، مما جعل من الصعب تحديد عدد الضحايا بالكامل.
وتشير الدراسات الأكاديمية منذ ذلك الوقت إلى نقل نحو 1.3 مليون شخص إلى معسكر أوشفيتز، مات منهم نحو 1.1 مليون شخص.
شكّل اليهود من مختلف أنحاء أوروبا الخاضعة لسيطرة القوات النازية الغالبية العظمى من الضحايا، وقُتل ما يقرب من مليون يهودي في أوشفيتز.
ومن الأمثلة على ذلك اليهود في المجر، ففي غضون شهرين فقط، خلال الفترة بين مايو/أيار ويوليو/تموز 1944، نقلت المجر 420 ألف يهودي من أصل 437 ألف يهودي وأرسلتهم إلى أوشفيتز.
وكان عشرات الآلاف من اليهود المجريين يُرسَلون إلى أوشفيتز كل يوم، وقُتِل ثلاثة أرباعهم بعد وصولهم.
كما أعدمت ألمانيا في معسكر أوشفيتز نحو 75 ألف مدني بولندي، و15 ألف أسير حرب سوفييتي، و25 ألفا من الغجر وسينتي، فضلاً عن شهود يهوه، والمثليين جنسياً، والسجناء السياسيين.
ماذا حدث بعد تحرير أوشفيتز؟
أمرت السلطات الألمانية بوقف استخدام الغاز وتدمير غرف الغاز ومحارق الجثث في أواخر عام 1944، مع تقدم القوات السوفييتية غرباً، ثم شحن مخزون الأشياء الثمينة المسروقة إلى ألمانيا بعد ذلك بوقت قصير.
أصر النازيون على محو أدلة جرائمهم، فأمروا 56 ألف سجين بالسير غرباً إلى معسكرات اعتقال أخرى، مثل بيرغن بيلسن وداخاو وساكسنهاوزن، وتركوا خلفهم أولئك الذين كانوا مرضى ولم يتمكنوا من المشي، وقتلوا كل من تخلف عن الركب في المسيرة نفسها.
لم تجد القوات السوفييتية سوى بضعة آلاف من الناجين عندما دخلت المعسكر في 27 يناير/كانون الثاني 1945، إلى جانب مئات الآلاف من الملابس وكميات هائلة من الشعر البشري، وتذكر الجنود لاحقاً صعوبة إقناع بعض الناجين بأن النازيين قد رحلوا بالفعل.
وفي وقت لاحق، قال إيلي فيزيل في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الخمسين للتحرير: “بعد أوشفيتز، لم تعد الحالة الإنسانية كما كانت. بعد أوشفيتز، لم يعد أي شيء إلى ما كان عليه إطلاقا”.
المصدر: صحيفة الراكوبة