أطياف
صباح محمد الحسن
طيف أول:
تقلّب الهواجس كلما صعدت التناهيد مكسورة، ولا شيء لقتل الوقت سوى السهاد.
في الفاشر تستغيث امرأة!!
والخبر ليس أن ثمة هدنة إنسانية تُطرح على طرفي الصراع، لأن المقترح قدّمته الإدارة الأمريكية قبل عدة أيام، وصرّح به مستشار ترامب مسعد بولس عندما قال: (إن الإدارة الأمريكية قدّمت ورقة مقترح لهدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، وقد لاقت “ترحيباً مبدئياً” من طرفي النزاع، مشيراً إلى أن واشنطن تطالب الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بدراسة هذا المقترح وإقراره بشكل فوري، خاصة في ظل التطورات الميدانية المتسارعة بمدينة الفاشر، شمال دارفور).
لذلك تبقى الموافقة الرسمية من طرفي الصراع على الهدنة هي الخبر المنتظر. فبالأمس أكدت مصادر موثوقة أن البرهان أبدى رغبة حقيقية في الاستجابة للهدنة، لكنه لا يستطيع تحمّل ما يترتب على ذلك بعد الموافقة، في إشارة واضحة إلى الوجود الكيزاني، الأمر الذي وضع المسؤولية أمام الرباعية لحماية الهدنة ما بعد الموافقة.
ولا شك في أن كشف الإدارة الأمريكية عن الخيارات البديلة للقيادة العسكرية في حال عدم قبول الهدنة أو العمل على إفشالها، هو ما يقلل من تأثير الطرف الثالث عليها، فالفلول إن أدركت أن الهدنة هي الإنذار الأخير، الذي لا بديل له سوى خيار القوة، فستصل إلى أن الأفضل لها أن تفكر في سلامتها أكثر من سلامة الاتفاق، سيما أن الميدان العسكري الذي تتحكم فيه القيادات الإسلامية أصبح خالياً.
فلا سبيل لاستخدام القوات العسكرية لخدمة المؤامرات السياسية أو الانفلات العسكري بأوامر غير عسكرية لهزيمة الهدنة. فالسيطرة على الميدان العسكري (الحي) الذي تستهدفه الهدنة، لأول مرة تقع المسؤولية فيه على طرف واحد وهو المرحب بالحل الدولي، لذلك قد تعمل قيادة الدعم السريع جاهدة، حتى يصبح الأمر ممكناً
إذن خطر الفلول على الأرض باستخدام الميدان العسكري لهزيمة الهدنة كما حدث من قبل أصبح شبه معدوم، سيما مع الغياب التام للكتائب الإسلامية على أرض هناك. ولهذا ذكرنا قبل أيام أن الواقع الحالي ربما يجعل العقل التآمري يفكر في تنفيذ الاغتيالات والتصفيات. ولطالما أنه لا خطر ميدانياً بأدوات القوات العسكرية، فإن الخطر سيكون محصوراً في دائرة القيادة العسكرية، التي حريّ بها أن تحمي نفسها. ولو استطاعت أن توفر هذه الحماية، فليس هناك خيار أمام القيادات الإسلامية إلا مغادرة البلاد.
ويجب ألا تهدر القيادة العسكرية فرصة الدعوة الأمريكية للهدنة لوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى المواطنين في الفاشر، لأن الوضع الإنساني الحالي في دارفور لا يحتمل المزيد من التردد.
ويبدو أن الأزمة السودانية الآن على صدر قائمة الأولويات للحكومة الأمريكية، التي أدانت بالأمس الفظائع الجماعية التي أُفيد بارتكابها من قبل قوات الدعم السريع في مدينة الفاشر، وأعربت عن بالغ قلقها إزاء سلامة المدنيين داخل المدينة والنازحين إلى المناطق المجاورة.
وطالبت قوات الدعم السريع بالتوقف عن أعمال الانتقام والعنف القائم على الهوية، مؤكدة أنه لا يجوز تكرار المأساة التي شهدتها الجنينة. وأكدت أنها ستواصل العمل مع شركائها لإيجاد مسار سلمي للمضي قدماً، إذ لا يوجد حل عسكري قابل للاستمرار، كما أن الدعم العسكري الخارجي لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الصراع. وحثّت الولايات المتحدة الطرفين على انتهاج طريق التفاوض لإنهاء معاناة الشعب السوداني.
وفي الداخل تصدّت عدد من المبادرات الناجحة التي تطالب بالسلام وترفض الحرب، وهزمت حملة الاستنفار التي أطلقتها فلول النظام البائد، والتي تدعو الشباب إلى حمل السلاح لمواجهة الدعم السريع. فالقوات المسلحة نفسها أعلنت عن انسحابها من الفاشر، إذن لماذا تريد القيادات الإسلامية أن ترسل المستنفرين إلى الموت لمواجهة خطر لم تستطع هي نفسها درجة!!
وغريب أن تشهد منصة الخطاب الإعلامي تحولاً جذرياً في لغة إعلام الحرب من (بل بس) إلى دعوات للعالم بحماية الفاشر العالم الذي ترفضه وتناهض حلوله. فيبدو أن هذا الخطاب جاء فقط لأن الفاشر وقعت تحت سيطرة الدعم السريع. فلو حدث العكس لسمّي قتل المواطنين انتصاراً ساحقاً، مثلما حدث عندما دخلت قوات كيكل ولاية الجزيرة، ففي الوقت الذي ارتُكبت فيه جرائم “الكنابي” كانت هذه المنصات تحتفل. وعندما طالب دعاة السلام العالم لإنقاذ إنسان الجزيرة من قوات كيكل، عدّته الفلول عمالة وخيانة.
فما يحدث الآن هو هروب من معارك الحقيقة، التي يفرض فيها الضمير الإنساني حصاره الشديد، إلى الحد الذي يجعل خطاب الحرب يعاني ارتباكاً واضحاً وتزحزح لافتاً.
فبالأمس تحولت كثير من المنابر على منصات السوشيال ميديا من نقل أخبار المعارك الدموية إلى الحديث عن الهدنة، وهو انتصار يُحسب لدعاة السلام الذين نجحوا في اختبار الإنسانية في ظروف بالغة التعقيد.
فالوعي العسكري هو قبول البرهان بهذه الهدنة لوقف إطلاق النار ودخول المساعدات، والوعي السياسي هو أن تتحد كل الواجهات السياسية لدعم هذه الخطوة، والوعي الإعلامي أن تُسخّر كافة المنابر الإعلامية لدعم هذا الخيار، والوعي المجتمعي أن يناهض الشباب دعوات الاستنفار التي تأخذهم إلى جحيم الحرب وتلقي بهم والبلاد في درك الهاوية.
إذن المسؤولية الآن جماعية لدعم خيار السلام عبر هدنة الثلاثة أشهر، وليحذر قطاع الطرق هذه المرة من الكمين!!
طيف أخير
فشل خالد الأعيسر في مبارحة مربع الخطاب الانفعالي المتهور المبني على الإلصاق والاتهامات دون سند، ولم يفلح في تقديم نفسه حتى الآن كوزير إعلام عبر الخطاب المتزن والمسؤول، وهذه أبسط مقومات شخصية الوزير!!
المصدر: صحيفة التغيير