الهامش والمتن بين مصر والسودان
د. أماني الطويل
يسعى البعض لأخذ العلاقات المصرية السودانية لمسار منحرف عن مساره الطبيعى القائم على الشراكة الإستراتيجية والعلاقات الطبيعية والمتينة بين البلدين والشعبين والتى لا يمكن أن تنال منها أية سحابة صيف عابرة بسبب بعض التجاوزات التى ترتبت على لقاءات كروية بين ناديين رياضيين كبيرين تم فيها ممارسة بعض التراشقات الخاطئة من بعض الجماهير وهذه ظاهرة تحدث فى كل ملاعب العالم.
الإشكالية هنا أن يتم التعامل مع هذا المشهد الهامشى دون الأخذ فى الاعتبار سمات جمهور الملاعب، وطبيعته من حيث الحماس وربما التجاوز.
للأسف انجر البعض مع الحالة بشكل سلبى، دون إدراك أن العلاقات المصرية السودانية فيها ما هو هامشى ويجب أن يحجم فى هذا الإطار وفيها ماهو عضوى وممتد ويعبر عن غالبية الشعبين المصرى والسودانى ومصالحهما الإنسانية والاقتصادية.
المتن العضوى لعلاقات وادى النيل نجده قائما على عدد من العوامل منها ما يطلق عليه مكون عاطفى وإنسانى ومنها ما يطلق عليه ضرورات المصالح المترتبة على محددات جيوسياسية.
فى المكون الإنسانى والعاطفى لن أتحدث عن التاريخ ولا عن العلاقات الأزلية ولكنى أتحدث عن الراهن, وعن الذى جعل مصر ملاذا آمنا للسودانيين دون دول العالم، فكثير من الأصدقاء المحيطين بى تركوا السودان الى بعض الدول العربية ثم الى المهاجر الغربية فى الولايات المتحدة وكندا وغيرهما ثم أجدهم يصرون على امتلاك بيوت لهم فى مصر، ويعودون للعيش فيها بل إن نقطة لقاءاتهم العائلية هى القاهرة، والأكثر من ذلك أن أولادهم من الشباب الحاصلين على جنسيات العالم المتقدم بدورهم يمتلكون بيوتا فى القاهرة أو يسعون الى ذلك، وهى حالة تدهشنى على المستوى الشخصى، وتثير تساؤلات فى نفسى ما الذى يجعل الأجيال السودانية الشابة التى تعيش فى مجتمعات متقدمة تختار أن يكون لها مقار للإقامة فى القاهرة، أو تختار أن تقضى إجازاتها فى مصر المزدحمة.
فى المكون الإنسانى والعاطفى أيضا أقول بأمانة يحاسبنى عليها الله أنى قد زرت ما يزيد على ٥٠ دولة، عرفت فيها بشرا وأصدقاء كثرا، ولكن لم أقترب من هؤلاء قدر قربى من السودان وأهله فالوجدان المشترك يجعل الونس والبهجة اللتين أجدهما فى السودان هى غير موجودة بالنسبة لى فى مكان آخر على سطح الأرض، رغم كل المشاكل والتوترات التى تطفو أحيانا على سطح العلاقات الثنائية بين البلدين ورغم حالة الحصار التى أجدها من البعض والاتهامات المقلوبة أثناء زياراتى للخرطوم ولكنى لا أجد ونسا ولا سندا كهذا الذى أجده فى خرطوم ٢ فى بيت صديقة عمرى التى جاءت لتحضر زفاف ابنى الوحيد ، ولا بهجة وفرحة كالتى أجدها فى بحرى فى حفلات رأس السنة التى حضرتها هناك أكثر من مرة بين مفكرين ومثقفين وإعلاميين يتقاسمون التكاليف ولكنهم يصرون كل مرة على عدم مشاركتى فيها ، ولعل هذه الحالة دفعتنى قبل عام ونيف ودون مناسبة سوى طفو ذكريات حلوة أن أكتب مقالا نشرته إحدى الصحف البريطانية تحت عنوان: ومن الخرطوم بهجة.
وفى المقابل فإن حالة الاحتفاء بالسودان وأهله فى مصر هى كبيرة ومتواصلة وتكاد تكون إحدى سمات سلوك الدولة، وأيضا سلوك الناس، فإلى جانب استقبال ملايين من العائلات السودانية فى حالات الطوارئ السياسية وغيرها فإن القاهرة هى ملاذ العائلات التى تريد ألا يفقد أبناؤها أعوامهم الدراسية تحت ضغوط الوضع السياسى الراهن فى السودان، ولعل هذه الحالة هى ما تجعل السلطات المصرية تمدد فترات توفيق الأوضاع القانونية المتعلقة بالإقامة وغيرها أكثر من مرة، وتجعل المواطن السودانى مساويا للمصرى فى تلقيه الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية التى تقدمها للمصريين .
فى مكون المصالح يحكمنا جميعا جيرة جغرافية ملاصقة فيها مشاكل وخلافات، ونيل يجرى ولكنه مهدد، وبحر أصبح غير آمن لنا جميعا بعد أن كثرت فى البحر الأحمر المطامع والمصالح الدولية التى تعسكرت.
وجوار مباشر ومؤثر تتصاعد فى التهديدات الأمنية بسبب الظواهر الإرهابية وغيرها وذلك كله دون إهمال هؤلاء المتربصين بمواردنا الطبيعية.
فى هذه الحالة، وتحت مظلة تكاثر التهديدات وتصاعد المخاوف يكون علينا جميعا واجب التمييز بين الهامش والمتن فى العلاقات المصرية السودانية، وضرورة مقاومة أن يقود الهامش العارض، جوهر العلاقات ومتنها، ذلك أن الجيرة الملاصقة لا مهرب منها، وبالتالى فإن هناك ضرورات لابد من تلبيتها حتى تستقيم أمور الناس فى وادى النيل ويتم تلبية احتياجاتهم الإنسانية والمعيشية، وحتى يمكن تحجيم فرص امتداد الصراعات المتاخمة الى بلدينا.
من هذه الضرورات أتمنى ألا تنجر نخب البلدين لأداء شعبوى يجعل الهامش متنا ويكون نصب أعيننا مصالح الشعبين، وأيضا أدعو أن يمارس الجميع دورا إيجابيا على منصات التواصل الاجتماعى لحماية مصالح بلدينا ومستقبلهما. من هنا لابد من تحية المبادرين من المثقفين المصريين والسودانيين فى إصدار بيان دعوا فيه ألا يكون الهامش الممثل فى مبارة لكرة القدم سببا فى إشعال حرائق بين الشعبين.
وأخيرا فإن مهمة إدارة حوار مشترك بين نخب البلدين حول العلاقات المشتركة تبدو ضرورية ولابد من الاهتمام بها فى مرحلة تالية للتوافق الداخلى السودانى الذى ننتظره جميعا، وفى هذه الأثناء يقع على النخبة مسئولية أن تكون أكثر وعيا بالأبعاد التاريخية فى العلاقات المصرية السودانية، والأطراف الخارجية المعادية لها والتى تقوم عادة بتوظيف الهامشى فيها لضرب متن العلاقات بين مصر والسودان، وعلى النخبة أيضا أن تعمق ثقافتها وإدراكها بالذهنية السودانية وطبيعة تفاعلها مع مصر.
المصدر: صحيفة التغيير