
د. النور حمد
مخطئٌ تمامًا من يظن أن النظام المصري مؤمنٌ حقيقةً بما ورد في بنود الآلية الرباعية، وأنه يعمل بضميرٍ صافٍ وقلبٍ سليمٍ على إيجاد حلًّ يضع حدًّا للحرب في السودان، بناءً على خارطة الطريق التي رسمتها الرباعية. فتحقيق أي هدفٍ من أهداف ثورة ديسمبر العظيمة نقيضٌ تمامًا، وبالضرورة، للصورة التي يود النظام المصري أن يكون السودان عليها. فكل تاريخ مصر السياسي، منذ الإطاحة بالملك فارق في عام 1952، يقول إن الأنظمة المصرية المتعاقبة إنما تريد دومًا أن يكون على رأس السلطة في السودان جنرالٌ، يطبق على أنفاس السودانيين واضعًا نفسه ضد مصالح السودان، خادمًا لمصر، يضمن لها شفط كل ما تريده من مياه السودان وثرواته. فالأنظمة المصرية المتعاقبة قد هيأت لنفسها في بنية الدولة السودانية منذ غزو محمد علي باشا، ومرورًا بالحكم الثنائي، وانتهاءً بحقبة الحكم الوطني، ما يحقق لها أهدافها. بعبارة أخرى، خلقت مصر في السودان؛ في داخل الدينية الرسمية، والبنية السياسية الطائفية، بل والبنية الأيديولوجية؛ من يمينٍ ويسار، وكذلك في البنية العسكرية والأمنية والتجارية والثقافية، من البيادق، ما يعينها على تحقيق أهدافها في السودان بصورةٍ مستدامة. فجوهر أهداف ثورة ديسمبر المتمثلة في إقامة نظام حكمٍ مدنيٍّ ديمقراطيٍّ يسمح بالتداول السلمي للسلطة، مكان الأنظمة العسكرية، التي حكمت السودان لأكثر من نصف قرن وأقعدته أيَّما إقعاد، أمرٌ مرفوضٌ تمامًا لدى النظام المصري.
لا تريد الأنظمة المصرية أن يُعاد النظر في نصيب السودان من مياه النيل الذي حددته اتفاقية 1959. بل، ولا تريده أن يطوِّر السودان زراعته بحيث يصبح قادرًا على استهلاك نصيبه الذي حددته له اتفاقية 1959. كما أنها تحرص على أن يكون السودان ظهيرًا لها في منازعاتِ مياه النيل، التي لها فيه نصيب الأسد الذي نالته في الحقبة الاستعمارية. أيضًا، لا تريد الأنظمة المصرية العسكرية أن ينمي السودان موارده بالتصنيع وتريده أن يبقى مستودعًا للخام الرخيص، مع بنيةٍ إداريةٍ مهترئةٍ وفاسدة تسمح بشفط موارده عن طريق التصدير بلا ضوابط وعن طريق التهريب. لكل ما تقدم، فإن مصر ستعمل، بحكم وجودها في الرباعية، لتحقيق واحدٍ من هذين الهدفين، وهما: إمَّا أن تُجَيِّرَ مخرجاتِ الرباعية لصالحها وإما أن تعمل بوسائلها المعتادة، والتي يعرفها جميع السودانيين، على إفشالها. ومن ذلك العمل على استمرار الحرب الذي سيقود إلى انهيار الدولة وفقدان السيطرة المركزية. فتنشأ كانتوناتٌ للوردات الحرب الذين سينخرطون في المعارك فلا يلقون بالاً للتنمية ولا يحفلون بما يجري شفطه من الموارد الأولية من الأطراف الخارجية. بل تصبح لهم مصالح في تصدير المواد الأولية. وقد انتفعت مصر في العقد الأخير من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، ومن سنوات الفريق البرهان الخمس العجاف، كما لم تنتفع طوال تاريخها. وعلى سبيل المثال، يقول موقع “أفريكان بيزينس”، إن طفرة الذهب التي تشهدها مصر لا يمكن فهمها بدون أن ننظر إلى ذهب السودان ضمن الصورة. (موقع، “أفريكان بيزينس”، على الرابط: https://shorturl.at/JNvLb).
مصر والبرهان والإخوان
تفهم مصر عقلية الإخوان المسلمين في السودان، على خلاف كثيرٍ من السودانيين. فقد عرفت مصر بتجربتها الطويلة في ترويضهم، منذ محاولتهم الفاشلة لإغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في عام 1995، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، إلى أي حدٍّ هم براغماتيون همُّهم الأول والأخير السلطة والثراء العريض، وأنهم ليسوا متديِّنين مبدئيِّين. وقد احتضنت مصر عقب سقوط البشير مباشرةً الرأس الأكبر لجهاز مخابرات الإخوان المسلمين في السودان، المدعو صلاح قوش. ولابد أنها قد حصلت منه من المعلومات، في وقتٍ قصيرٍ جدا، ما لم يكن من الممكن أن تحصل عليه من العلميات الاستخباراتية العادية عبر عقودٍ من الزمان. فكل العقبات التي وضعت أهداف ثورة ديسمبر على الرف إنما كانت بتنسيقٍ كاملٍ بين النظام المصري والفريق صلاح قوش، ضيف النظام المصري المدلَّل، وبين الفريق البرهان وإخوان السودان. فإنشاء ما سُمِّيت “الكتلة الديمقراطية”، التي شهد تدشينها السفير المصري في السودان في قاعة الصداقة، كان أول إسفين جرى دقه في جسد الثورة السودانية، فأحدث انقسامًا رأسيًا في الخطاب الإعلامي أثر بقدر من المقادير على الشارع السوداني. فقد أصبحت للفريق البرهان بذلك حاضنةٌ شعبيةٌ، كما للثورة حاضنةٌ شعبية.
لذلك، كان إغلاق الناظر ترك للميناء وللطريق البري لخنق حكومة الثورة برئاسة عبد الله حمدوك. ولذلك، حدث ما سُمِّي “اعتصام الموز”، الذي طالب بالانقلاب على حكومة عبد الله حمدوك فاستجاب له البرهان. وبعد أن فشل الانقلاب برز مقترح الاتفاق الإطاري، الذي قبل به الفريق حميدتي، ووقف إلى جانبه. هنا سلَّم الفريق البرهان قاعدة مروي بالكامل للجيش المصري استعدادًا للقضاء على حميدتي وقواته. واهتبل قبيلٌ من الجيش والإخوان المسلمين حصار الفريق حميدتي لقاعدة مروي، وحالة التوتر فهاجموا مواقع الدعم السريع في الخرطوم، ونشبت هذه الحرب في منتصف أبريل 2023. وانخرط فيها النظام المصري منذ البدايةا بسلاح الطيران. كما استمر في الإمداد العسكري وفي تقديم المعلومات والخبرة الفنية للفريق البرهان.
شيطنة الإمارات دون البقية
إلى جانب الانخراط المصري كان هناك الانخراط التركي بالدعم السياسي والمُسيَّرات، والانخراط الإيراني بالدعم السياسي والمسيرات وغيرها، خاصةً بعد أن أعاد الفريق البرهان العلاقات مع إيران، بعد انقطاع استمر لسبع سنوات. كما كان هناك الانخراط المالي والإعلامي القطري. وهناك الانخراط السعودي الحَذِر، الذي لم يبدُ منه للعيان سوى الصوت الإعلامي، الذي بدأ يتغير مؤخرا. وهناك، أيضًا، الانخراط الإريتري الذي هندست له زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأسمرا في أكتوبر 2024. ففتحت إريتريا معسكرات لتدريب للسودانيين الموالين للفريق البرهان داخل الأراضي الإريترية. وجرى إرسال ما سُميت “الأورطة الشرقية، بقيادة الأمين داؤود، إلى شرق السودان. وكذلك، مرتزقة التقراي ضمن خطةٍ لدعم جيش البرهان ولزعزعة أمن إثيوبيا. لكن، وللغرابة، رغمًا عن كل هذه الانخراطات المتشعبة الموثقة، من عديد الدول، نجد أن الحديث لا يجري، في الغالب، إلا عن الانخراط الإماراتي وحده! فلماذا التركيز الإعلامي على الإمارات وكل هؤلاء منخرطون. وهل كان هناك أي نزاعٍ في بلدٍ ما خلا من انخراط أطرافٍ خارجيةٍ؟
الوزير السابق علي يوسف والرسالة المصرية
تتضح خطة النظام المصري لتجيير جهود الرباعية لصالحه، أو إجهاضها بالكامل، في المقابلة التي أجرتها قناة الجزيرة مع وزير الخارجية السوداني السابق؛ مصريِّ الأب والأم، علي يوسف، الذي أُقيل من منصبه بعد شهورٍ من توليه الوزارة. ظهر علي يوسف في مساء 4 أكتوبر الجاري مع المذيع اللامع، أحمد طه. ويبدو أن القناة قد أتت به إلى الدوحة، خصيصًا، لكي تجري معه هذه المقابلة. وقد بدا لي أنه جاء لكي يوصل رسالةً مصرية محدَّدة. سار علي يوسف وفقًا لما ظل يتردد منذ سنتين عن “الإقصاء”. وقال إن الحل يتمثل في حوارٍ سودانيٍّ، سودانيٍّ، لا يستثني أحدًا على الإطلاق، بما في ذلك الإسلاميين. وقبل أسبوعين، رأينا كيف هندست مفوضية الاتحاد الأفريقي، وفقًا لما ظهر جليًّا أنه مسعى لخدمة التوجهات المصرية، وفقًا لما أسمته “الحوار الشامل. ولقد كان مقررًا أن يجري في الفترة ما بين 6 10 أكتوبر الجاري. غير أنه فشل بسبب الرفض الذي لقيه من مختلف الفاعلين. فقد بدا واضحًا جدًا أنه لا يخدم سوى إكساب الفريق البرهان وحكومته شرعيةً ليست لها، ومن ثم الإبقاء عليه في السلطة مدعومًا بثُلَّةٍ من أعوان مصر في السودان؛ من تجار السياسة والحروب من الإخوان المسلمين وغيرهم، جرى تجهيزها أصلاً لهذا الغرض، منذ تكوين تجمع “الحرية والتغيير التوافق الوطني”، الذي غير اسمه لاحقًا فأصبح “الكتلة الديمقراطية”. فالرسالة التي ركز الوزير على يوسف على ترديدها في هذا اللقاء، وهي أن كل الحروب تنتهي بمفاوضات، لم أفهم منها في سياق لقائه هذا، سوى أنه يعني مفاوضاتٍ وفقًا للرؤية المصرية. وإذا سارت المفاوضات وخطة التنفيذ وفقًا للرؤية المصرية فلن تقف الحرب، ولن يخرج السودان من دائرة الخراب والهيمنة المصرية المدمرة.
لقد تبنت الدول العربية المشاركة في الرباعية الخطةَ التي أتى بها مستشار ترمب مسعد بولس. وواضحٌ أن الدول العربية الثلاث المشاركة في الرباعية لا تريد أن تضع نفسها في مواجهةٍ سافرةٍ مع الرئيس ترمب، الذي لا يقبل سوى أن يُسمع وأن يطاع. قبلت مصر الخطة مع كلٍّ من السعودية والإمارات مجبرةً، لكنها ستستميت، في تقديري، لكي تحرف الخطة عن وجهتها وتدفع بها في وجهة خطتها الجاهزة، التي لم تحد عنها قط منذ اندلاع الثورة السودانية في عام 2018. وهي: إما بقاء البرهان أو أي عسكريٍّ آخر موالٍ لمصر، في السلطة، مع حكومةٍ مدنيةٍ صوريةٍ، كحكومة كامل إدريس، وإما أن تستمر الحرب في السودان. فكل واحدٍ من هذين الخيارين يمثل الضمان الأكيد لهيمنتها على السودان ونهب ثرواته واحتياز مياهه. ولسوف تتكشف كل صبحٍ جديدٍ محاولات النظام المصري لتخريب جهود الرباعية. وما كان للولايات المتحدة أن تقبل، أصلاً، بمصر عضوًا في الرباعية. فمصر هي التي سعت منذ البداية لإجهاض الثورة، والانقلاب على الحكومة المدنية. بل، هي التي شجعت على إشعال الحرب. خلاصة القول: مصر هي الجهة الوحيدة ضمن مجموعة الأربع دول التي لن ترضي بأي حلٍّ لا يخدم رؤيتها للسودان كحديقةٍ خلفيةٍ. فوجود حكمٍ مدنيٍّ وطنيٍّ، مالكٍ لقراره، سوف يوقف نهبها لموارد السودان، وسوف يقفل الباب أمام خطتها التي هندستها مع الفريق البرهان، ونالت بها الحق الحصري في مقاولات إعادة الإعمار.
المصدر: صحيفة التغيير