اخبار السودان

النشوء وتحديات الارتقاء السودانية , اخبار السودان

الباقر العفيف

مقدمة

أنجزت لجان المقاومة ثورة ديسمبر بصورة جعلتها محل إعجاب العالم. وهي إنما حققت تلك الثورة بخصيلتين أساسيتين هما الوحدة والاستعداد للتضحية. أما الخصيلة الأولى فتعني وحدة اللجان والشعب حول إرادة التغيير، والالتفاف حول مباديء الثورة وشعاراتها. وقد صاغت اللجان تلك المباديء في شعارات بسيطة سهلة وجامعة، “حرية سلام وعدالة”، و”الثورة ثورة شعب” و”السلطة سلطة شعب”، و”الحكم المدني” أو “مدنياووو”. وهي كما أسلفنا شعارات بسيطة وسهلة الاستيعاب لكنها جمعت فأوعت كل معان وقيم الثورة السامية والنبيلة. كما أنها شعارات مبدئية، مطلبية غائية، وعمومية الطابع. لم تحفل اللجان في ذلك الوقت بتحديد كيفية تحقيق تلك الشعارات، أو كتابة وصفات علاجية أو إرشادية حول الوسائل التي يجب اتباعها لتحقيق تلكم الغايات. لأنه ببساطة ليس هذا من مهامها. بل بالعكس، فإن التورط فيه يعني الانشغال بما ليس هو أولى.

أما الاستعداد للتضحية فقد كانت مأثرة الشباب الحقيقية والتي رفعتهم لمقام التقديس والأسطرة. لقد دلَّلَت ثورة ديسمبر المجيدة على أنها ليست ثورة شبابية وحسب، بل ثورة شباب نادر المثال، اقتحم ساحة الفعل الثوري وهو يحمل أرواحه في أياديه، وهو يدرك أنه يواجه السلطة الأكثر دموية في تاريخ السودان، والأكثر استهانة بالحياة البشرية. على يديها قُتِل ما يقارب المليونين من المواطنين في الجنوب، ومئات الألوف في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وعلى يديها ذاق غالبية مواطني الشمال والوسط أبشع صنوف الذل والهوان المنطلق من الحقد الحقود، والرغبة المريضة في التَّشَفِّي والانتقام. أما إذا تساءلنا لماذا كل هذا الحقد، فسوف نجد أن كل جريرة أهل الشمال والوسط هي أنهم رفضوهم، باعتبارهم تجار دين، ونفروا من طرائقهم المتعارضة مع كل الإرث والتراث الأخلاقي والاجتماعي لأهل السودان قاطبة، وكذلك لأهل الشمال النيلي ووسط السودان على سبيل التخصيص، باعتبار أن الغالبية المطلقة من قياداتهم العليا ذات التأثير الحقيقي تنتمي لهذا الإقليم من السودان. لذلك رفع أهل الشمال والوسط في وجوههم شعار “منهم ومتبريء منهم”، مما صاغته عبقرية الطيب صالح في مقاله الذي تساءل فيه “عمن هم هؤلاء الناس ومن أين جاءوا”. والدليل على ذلك أن عراب تنظيمهم وكبيرهم الذي علمهم السحر، الترابي، سقط في جميع الانتخابات الحرة التي خاضها في السودان، ولم يصل للمناصب العليا التي تنسمها في الدولة إلا نتيجة تحالفات سياسية أتت به للوزارة رغم سقوطه، أو في ظل دولة عسكرية استبدادية مثل دولة مايو في مرحلة غروب شمسها، أو بعد انقلابهم العسكري الذي أدخل البلاد في هذا النفق المظلم الذي ما زالت تغرق فيه. لكل ذلك أخذ أهل الشمال والوسط نصيبهم من ا لمجازر مثل مجزرة العيلفون، وكجبار، وبورتسودان. هذا إلى جانب نسبة عالية من ال ٦٠٠ ألف موظف وعامل تعرضوا للتشريد من الخدمة والفصل التعسفي وقطع الأرزاق. أما الناشطون في العمل العام من جميع أنحاء السودان فقد ابتكرت لهم عبقرية الشر ما عرف في تاريخ البلاد “ببيوت الأشباح”، وهي بيوت كما كان يقول زبانيتها أمام ضحاياهم “لا يوجد فيها الله”. لذلك أهدرت فيها الدماء إهدارا كاملا، واهدرت فيها الكرامة المتأصلة في كل إنسان إهدارا كاملا. لم يقتلوا ضحاياهم وحسب، بل قتلوهم بأشد الطرق بشاعة، مثل دق مسمار في نافوخ إنسان. ولم يعذبوا وحسب، بل كانوا يتشفون وينتشون وهم يهدرون كرامة ضحاياهم، مثل أن تغتصب رجلا ثم تأتي بملابسه الداخلية لتعرضها أمام زملائه من الضحايا وتتساءل بسخرية، “دي حقت منو؟ وحصل ليه شنو؟”  والنتيجة هي أن فقد الرجل عقله لدرجة ارتكاب جريمة داخل أسرته.

هذه هي السيرة الذاتية المختصرة لسلطة الكيزان التي تحولت إلى آلة عملاقة للقتل وسفك الدماء وإهدار الكرامة. وبالرغم من إدراك الشباب من الجنسين للدموية المتأصلة في هذه السلطة لم يأبهوا لها، بل تحدوها واستهانوا بها. تقدموا الصفوف بصدور عارية في مواجهتها بسواعد مرفوعة في وجهها، وهتاف يشق عنان السماء. شباب أوصله حكم الكيزان لحالة وجودية، وجد بموجبها ظهره على الحائط، ليس لديه ما يخسره سوى القيود. فما كان أمامهم منذ الوهلة الأولى سوى أن يحفروا بأظافرهم في الصخر مستقبلا لأنفسهم، ينتزعونه من بين أسنان قوم قساة جفاة قتلة مَيِّتي الضمير، أو يسقطوا على الأرض ويموتوا كما تموت العير. لذلك لم يعبئوا بالعنف والبطش والقتل. بل كانوا يدفنون شهدائهم ويعودون للميدان أكثر قوة وعزما لمواجهة القَتَلَة من جديد، وهم ينشدون الموت الذي يخوفونهم به. وما زلنا نذكر هتاف شباب وردية الليل: “ماشين لي وين؟ ماشين للموت، الموت بي شنو؟ بالدوشكا كمان. وفي رمضان”، مما أطار صواب الكيزان وأفقدهم توازنهم وأدى لهزيمتهم معنويا وسياسيا، إضافة لسقوطهم الأخلاقي. هذه هي معايير نجاح الثورة التي تحققت وكانت شرط الانتصار، والتي كان من الواجب المحافظة عليها بواسطة الجميع والعض عليها بالنواجز، وعدم السماح بالتفريط فيها مهما كانت الأسباب أو الحوافز والإغراءات.

لم تُفْهَم اللجان على الوجه السليم

كتب الكثيرون حول نشأة اللجان. وبالرغم من أن الدعوات لتأسيس وبناء لجان ثورية في الأحياء قديمة نسبيا، ربما ترجع إلى ما قبل العام ٢٠٠٧، إلا أن هناك شبه إجماع أن بداياتها العملية ترجع للعام ٢٠١٣، وتحديدا بعد انتفاضة سبتمبر التي جرى قمعها بلا رحمة. وقد تفاخر البشير يومها بأنه قضى عليها دون الحاجة لإنزال كتائبه الخاصة. لقد تبلور رأي وسط الناشطين والعاملين من أجل التغيير أن الأسلوب القديم في الاحتجاج من مراكز المدن لم يعد يجدي. فقد طَوَّر الأمن استراتيجية فَعَّالة لإحباط هذه الاحتجاجات قبل أن تبدأ. وتنامت دعوات بأن تكون الاحتجاجات لا مركزية، وأن تتمركز في الأحياء. فأهل الحي أدرى بشعابه، وهم يعرفون بعضهم بعضا، حيث التنظيم والاتصال أكثر سهولة، وكذلك تفادي الأجهزة الأمنية والحماية المجتمعية أكثر يسرا، بينما يصبح اختراق الأجهزة الأمنية للقيادات الشبابية أكثر صعوبة. في تلكم السنين نشطت المئات من منظمات المجتمع المدني في جميع أقاليم السودان في تدريب آلاف الشباب من الجنسين في مهارات القيادة، من تنظيم واتصال، وتحليل للسياق، واتخاذ القرار. كذلك جرى تدريب الآلاف في الحماية، الجسدية والرقمية، وما الذي يمكن أن يُقال في مواجهة التحقيق بواسطة الأجهزة الأمنية. كذلك جرى تدريب آلاف الشباب في الرصد والتوثيق للانتهاكات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية لحقوق الانسان. لقد كان الوعي وسط الشباب يتزايد بوتيرة كبيرة وصلت مرحلة “نقطة التحول” أو ال tipping point. وقد لمسنا كيف تغيَّرت مفاهيم أعداد مقدرة من الشباب بالذات في مسألة الهوية و”فهم الذات” و”إدراك الآخر”. هذا بينما اطمأن النظام وظن أنه سوف لن يَقدِر عليه أحد، فلم يعبأ قادته بتكشف عوراتهم وتواتر فضائحهم الأخلاقية، ونشر فسادهم على الملأ. ولم لا؟ فالدولة مملوكة للحركة الإسلامية كما صرح رئيسهم المخلوع، والشعب يمثل بالنسبة إليهم صفرا كبيرا على الشمال، أسقطوه تماما من حساباتهم، نتيجة لسكرة السلطة الطويلة التي ظنوا أنها ستدوم لهم إلى الأبد. وهذا ما يؤكده سلوكهم تجاه الثورة منذ مسرحية أبنعوف الذي تحدث عن “اقتلاع النظام”، وعمر زين العابدين الذي تحدث عن أن “هذا التغيير حقيقي”، مرورا بمرحلة إطلاق المجرمين المعروفين باسم  “تسعة طويلة” ليخلوا بالأمن وينسبوا ذلك لفشل الدولة المدنية، وقد شاعت في دوائر البوليس تحديدا لدى أي بلاغ يصلهم تعبير “دي المدنية الدايرنَّها”، مرورا بنظرية “الطرف الثالث” الذي يقتل المتظاهرين، وغزوات الأجهزة الأمنية وكتائب الظل للاعتصام، مرورا بمجزرة القيادة، و”الانقلابات المحبطة”، ثم انقلاب البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، وهذه الحرب التي تمثل آخر سهم في جعبتهم، وهي الآن تدخل مرحلة الإرهاب الداعشي، وبيع السودان في المزاد العلني.

النشوء والتطور

كانت السنوات التي أعقبت مجزرة سبتمبر ٢٠١٣ مرحلة تأمل ومراجعة لما مضى من تكتيكات المقاومة، وكانت أيضا مرحلة كمون وانكماش استعداد للوثبة القادمة. إنها أيضا مرحلة تغيير التكتيكات والانسحاب من المركز للأحياء حيث جرى تكوين مجموعات صغيرة من النشطاء تسمت باسم لجان الأحياء. صارت لجان الأحياء تنمو في الفترة ما بين نهاية ٢٠١٣ ونهاية ٢٠١٦. في العام ٢٠١٦ كنتُ ضمن مجموعة من النشطاء قرروا تكوين مجموعات شبابية في الخرطوم ومدني تحت مسمى “لجان المقاومة السودانية” كانت ذات هيكل هرمي، لها أمانة عامة ومكاتب. وقد شهد هذا العام والعام الذي تلاه، ٢٠١٧، انتشار اسم “لجان المقاومة” ورسوخه، وظهر شعار “خُشْ اللجنة وخشي اللجنة”. أصبحت اللجان ظاهرة انتشرت انتشار النار في الهشيم، mushroomed في جميع الأحياء والقرى والدساكر. وعندما بدأت المظاهرات في نهاية ٢٠١٨، خرجت اللجان من تحت التيار إلى السطح كعملاق مكتمل النمو.

لقد أخطأ الكثير من المثقفين والمحللين فهم الطبيعة الحقيقية للجان المقاومة. وبطبيعة الحال، ما عدا بعض الاجتهادات الفردية، لم تتصدَّ الأكاديميا السودانية لدراسة هذه الحالة الاجتماعية المذهلة التي حققت واحدة من أعظم الثورات في تاريخ العالم المعاصر بشهادة قادة العالم الحر. لقد أصبحت لجان المقاومة محل اهتمام العالم كله، ومحل اهتمام السودانيين وبالذات القوى السياسية. وقد رُفِعَت اللجان بحق لمقام الاحترام والتبجيل. بل قد جرى تقديسها وأسطرتها. كانت التنسيقيات والمركزيات في الأحياء تنسق وتقود كل الثوار في المنطقة بلا خلافات جوهرية، إذ أن الشعارات والأهداف مبدئية ومتفق عليها بين الجميع رغم اختلاف فئاتهم وطبقاتهم وخلفياتهم الثقافية والفكرية والسياسية المتنوعة. لقد كانوا يجسدون مبدأ “الوحدة في التنوع” تجسيدا حقيقيا. فلماذا لم نحافظ على هذه الحالة؟ ولماذا سمحنا بشرذمتها؟ الإجابة العامة على هذا السؤال هي لأننا لم نفهم طبيعة اللجان فهما سليما. ففي ظل غياب المعلومة العلمية الصحيحة لطبيعة أي ظاهرة اجتماعية ينفتح الباب على مصراعيه للاجتهادات الفردية غير المؤسسة على شغل بحثي أو علمي فيه اجتهاد حقيقي. فمثلا هناك بعض المثقفين الذين ينطوون على مواقف سلبية من الأحزاب السياسية والذين يحملونها على الأقل جزءا من مسؤولية فشلنا كدولة، هؤلاء رأوا في اللجان طوق نجاة من الأحزاب السياسية القديمة وحاولوا تحويل اللجان لحزب سياسي شبابي ظنوا أنه سيكون الأكثر تأهيلا لقيادة البلاد نحو المستقبل. وهذا أمر مدهش حقا. مدهش لأنه ببساطة يمثل المستحيل عينه. إذ من المستحيل تحقيق هذه الفكرة عمليا، لأن أحد أهم شروط نجاح اللجان هو تنظيمها الأفقي المناهض للهيكلة الرأسية التي تقوم عليها الأحزاب، مما خفَّف أو أزال سبب رئيسي من أسباب الصراع، وهو الصراع على القيادة. وثانيا أنه من المعلوم بالضرورة أن شباب اللجان ينحدرون من خلفيات ثقافية، وفكرية، واجتماعية، وطبقية مختلفة، ومتنوعة. والمنتمون منهم سياسيا، إنما ينتمون لجميع الأحزاب الموجودة في الساحة. ففكرة أن تجمع كل هؤلاء، أو غالبيتهم، لتبني منهم حزبا سياسيا اسمه “حزب اللجان” إنما هي فكرة عجولة، تبسيطية، وربما ساذجة. وهي أيضا تنطلق من وتدل على الجهل بطبيعة اللجان.

أما الأحزاب السياسية فقد تحركت غرائزها للسند الجاهز وشرعت تُجَنِّد الشباب في صفوفها وتخترق تنسيقيات ومركزيات اللجان بكوادرها المتمرسة وتحركها لخدمة أجندتها السياسية. فضربت أهم صفة من صفات اللجان في مقتل، وهي كونها “فوق حزبية”. والمعني بهذا التعبير هو أنه داخل كل لجنة المتوقع من العضوية المنتمية حزبيا أن تضع هويتها كلجان فوق هويتها الحزبية. فإذا تعارض موقف اللجنة مع موقف الخزب فالانحياز يجب أن يكون للجنة وليس للحزب. وبعبارات أخرى فهذه العضوية المنتمية حزبيا لا تمثل أحزابها داخل اللجان لأن هذا من شأنه أن ينقل الصراع الحزبي إلى داخل اللجان. هذا المثال بكل أسف لم يصمد طويلا فقد نشبت الأحزاب مخالبها في اللجان، وكانت النتيجة المأساوية هي ضياع وحدة اللجان وانقسامها وفق برامج سياسية تمثلت في الميثاقين المتنافسين، (الميثاق الثوري لسلطة الشعب) والذي يُعَبِّر عن قوى التغيير الجذري، ويحتوي على برنامج الحزب الشيوعي، و(ميثاق تأسيس سلطة الشعب) الذي صاغته لجان مقاومة الخرطوم، والذي يقوم على رؤى قوى الوسط عموما، ويُعَبِّر عن تصورات قوى الحرية والتغيير. وبذلك أصبحت للجان المقاومة مواثيق سياسية دون أن تعلن عن نفسها كأحزاب سياسية، ودون أن تهيكل نفسها رأسيا.  فصارت كل واحدة من المجموعتين كحصان طروادة، بداخل أحدها يختبئ الحزب الشيوعي وحلفائه وواجهاته النقابية المتعددة مما أُطْلِقَ عليه اسم “قوى التغيير الجذري”، وفي الآخر تختبئ أحزاب الحرية والتغيير والمهنيين الذين يتحالفون معها. هذا ما انتهت إليه اللجان حتى انفجار حرب الخامس عشر من أبريل 2023.

وكما ذكرتُ أعلاه فإن هذه واحدة من كوارث الحياة السياسية في السودان كونها لا تقوم على أي دراسات علمية للظواهر الاجتماعية، بل تعتمد على روح الكسب السياسي السهل والسريع. إذ لم تتريث هذه الأحزاب لفهم الظاهرة حتى تحسن التعامل معها، بل تحركت غريزتها الافتراسية predatory instinct نحو اللجان واعتبرتها لقمة سائغة للابتلاع، لتُجَيِّرها لصالح أجندتها الضيقة وتكبير كومها، دون أن تحفل بالخراب الذي يمكن أن تلحقه بها وبالوطن. وهكذا انتهينا إلى أن صار لكل حزب لجانه، وبما أنه “ما في حد أحسن من حد”، فحتى جماعة الموز والكيزان والبرهان صارت لهم لجان مقاومتهم الخاصة بهم. ولياسر العطا لجانه التي تحمل معه السلاح، إذ صرح بأن مجموعة غاضبون قد انضمت للجيش وتحارب تحت إمرته[1]، وصرنا نرى ممثلين يجلسون تحت مسمى لجان المقاومة في اجتماعات المجموعات السياسية المختلفة في أديس أببا والقاهرة. وحتى الاتحاد الإفريقي أصبح يتصل مباشرة مع شباب من لجان المقاومة يدعوهم لاجتماعاته، وكذلك تفعل بعض السفارات، والكثير من المراكز والمنظمات الدولية. هذا هو المآل الذي آلت إليه لجان المقاومة في أبلغ تجسيد للآية القرآنية “يُخَرِّبون بيوتهم بأيديهم”.

ماهي طبيعة اللجان؟

إن الطبيعة الحقيقية للجان المقاومة في السودان هو أنها حركة اجتماعية تحمل كل ملامح حركات الإصلاح الاجتماعي حول العالم. فحركة الحقوق المدنية الأمريكية التي نشأت في الخمسينات من القرن الماضي وبلغت قمة زخمها وقوة دفعها في الستينات من ذات القرن إنما هي حركة اجتماعية، تدعو للإصلاح الاجتماعي، عبر المطالبة بالحقوق، سلميا. فهي ليست حركة سياسية، ولكنها شَكَّلت ضغوطا سياسية هائلة على السياسيين في مراكز القرار، أجبرتهم على إجراء إصلاحات قانونية أدت إلى إنهاء التمييز العنصري والفصل العنصري ضد الأمريكيين الأفارقة، وضمان حقوقهم المدنية الأساسية، بما في ذلك حق التصويت، والتعليم المتساوي، والوصول إلى المرافق العامة. كما أجبرت شركات النقل الخاصة على إجراء إصلاحات تمنع التمييز ضد المواطنين السود في حافلات النقل العام.

التنوع والتعدد الذي اتسمت به الحركة

ظلت حركة الحقوق المدنية الأمريكية موحدة رغما عن أنها تحالف واسع من المجموعات والفئات الاجتماعية المدنية العلمانية والدينية التي تَوَحَّدت بهدف إنهاء التمييز العنصري وتحقيق المساواة. هذه الحركة شملت العديد من الشرائح الاجتماعية التي كانت تعاني من التمييز والظلم، كما تضمنت حلفاء من خلفيات مختلفة لم تعاني من التمييز كالمجموعات البيضاء الليبرالية. فبالإضافة لمؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية الذي تأسس بقيادة مارتن لوثر كينغ جونيور، ضَمَّت الحركة منظمات مدنية مثل الجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنِين، ولجنة التنسيق الطلابية المناهضة للعنف. وحركات نسوية متعددة كانت ألهمتها قيادة روز باركس كرمز للمقاومة ضد الفصل العنصري. وكذلك النقابات العمالية والطلاب. وحركة الحلفاء البيض التي كان يقودها رجال دين ومثقفون ليبراليون بيض مُعَبِّرين عن دعمهم للمساواة والعدالة الاجتماعية. وحركة الأمريكيين الأصليين وذوي الأصول اللاتينية. هذا بالإضافة للكنائس بجميع أنواعها سوداء وبيضاء. وقد انضم للحركة ماكولم إكس ومسجده، خصوصا بعد انشقاقه من “أمة الإسلام” بقيادة أليجا محمد. هذه المجموعات والفئات شكَّلت نسيجًا متنوعًا ومتعدد الطبقات من الأفراد والمنظمات، محافظين وليبراليين وراديكاليين، مُنظَّمين وغير مُنظَّمين، منتمين سياسيا وغير منتمين.

السِّمَات المشتركة

تشترك حركة الحقوق المدنية الأمريكية وحركة لجان المقاومة في السودان في ثلاث سِمَاتَ رئيسية، السمة الأولى هي تنوع وتعدد المجموعات المنخرطة في الحركة، والسمة الثانية هي الانشغال بالمبادئ والغايات وعدم الولوج الي آليات التنفيذ مما أسميته بعمومية المطالب وغائيتها. والسمة الثالثة هي وسائل تحقيق المطالب بالاحتجاج السلمي ومناهضة العنف.

التنوع والتعدد في لجان المقاومة

ضمت لجان المقاومة في السودان قطاعات واسعة من المجتمع السوداني واستطاعت أن تحرك بقية قطاعات الشعب بصورة كادت أن تحقق إجماعا شعبيا، بل في الحقيقة نستطيع أن نقول أنها بالفعل حقَّقَت إجماعا شعبيا إذا استثنينا الفئات التي قامت الثورة ضدها. فالشباب من الجنسين شكَّلوا مركز اللجان وقواها الدافعة، وقد جاءوا من مختلف شرائح المجتمع وطبقاته الاجتماعية في المدن والأرياف. استطاعت لجان المقاومة أن تصنع من الثورة حركة اجتماعية وثقافية وفنية ضخمة استقطبت الشعب بكل قطاعاته الفئوية والعمرية والجندرية، وكل منظماته المدنية والمهنية والسياسية، مع ظهور واضح لعدد من الطرق الصوفية والإدارات الأهلية، ولم يَشِذُّ عن هذا الإجماع الشعبي سوى الذين قامت الثورة ضدهم، أي دولة الإنقاذ بمؤسساتها الأمنية والمدنية والإسلاميين والمنظمات المنتفعة منها، مما جمعتهم الثورة تحت مسمى “الكيزان”.

وسائل النضال

تشترك لجان المقاومة مع حركة الحقوق المدنية في آليات ووسائل نضالها السلمية. فمثل حركة الحقوق المدنية نَظَّمَتْ لجان المقاومة المظاهرات السلمية الحاشدة والاعتصامات والعصيان المدني، ولم تستخدم العنف مطلقا، بالرغم من العنف الفظيع الذي استخدمته الدولة ضد المتظاهرين السلميين والذي أدى إلى قتل وتعويق آلاف المتظاهرين بالسلاح الناري. فمثلما أدى نشاط حركة الحقوق المدنية إلى تمرير قانون الحقوق المدنية لعام 1964 بواسطة الحكومة الأمريكية، وقانون حق التصويت لعام 1965، وهما قانونان كانا حاسمين في إلغاء التمييز العنصري وضمان حقوق التصويت للأمريكيين الأفارقة، كذلك أدى نشاط لجان المقاومة إلى تغيير سياسي تم بموجبه الإطاحة برأس النظام وكبار مساعديه، وتكوين حكومة مدنية انتقالية، واستمرت في مقاومة الدولة العميقة حتى بعد الإطاحة برأس النظام لتستكمل انتصارها الأوَّلي المتمثل في التغيير السياسي الفوقي.

الانشغال بالمبادئ والغايات النهائية

السمة الثالثة المشتركة بين لجان المقاومة وحركة الحقوق المدنية هي الانشغال بالقضايا المبدئية وصياغتها في شكل مطالب عمومية دون الخوض في آليات تحقيقها. فقد صاغت اللجان مطالبها في شعارات عامة وبسيطة هي “حرية سلام وعدالة”، ونادت “بالحكم المدني”. وكان هذا أحد أهم شروط نجاحها. لأنه ببساطة عندما يتحقق المطلب سيعرف الجميع أنه تحقق بممارسته عمليا. فمثلا نادت حركة الحقوق المدنية بإنهاء التمييز ضد السود وتمكينهم من المشاركة في الانتخابات وقد حدث ذلك وبالفعل تمكن الأمريكان السود من ممارسة هذا الحق. أما الكيفية التي تمكنوا بها من ممارسة هذا الحق فقد تُركت لمتخذي القرار. لم تحتاج الحركة لكتابة مشروعات القوانين في مواثيقها لتُبَيِّن لمُتَّخذي القرار “الروشتة” التي بموجبها تتحقق مطالبهم، كما تفعل تلكم المواثيق العجيبة التي أصدرتها اللجان وأدت لشرذمتها.

وبنفس القدر فقد قررت حركة الحقوق المدنية الأمريكية مقاطعة الحافلات في مونتغومري عام 1955، التي بدأت بعد اعتقال السيدة روزا باركس عندما رفضت التخلي عن مقعدها لشخص أبيض، كما كانت تقتضي القوانين.  واستمرت المقاطعة أكثر من عام وأسفرت عن إنهاء الفصل العنصري في الحافلات العامة في مونتغومري، ومن ثم في أمريكا كلها. أيضا لم تحتاج الحركة لاستصدار روشتة بالكيفية التي بها يتم الإصلاح.

خطر المواثيق على اللجان

من المعروف أنك إن أردت أن تُكَرٍّس لخلاف أبدي بين أي مجموعات مختلفة، فاصنع لها عجولا مقدسة ليعكفوا عليها عابدين. وقد صارت هذه المواثيق عجولا مقدسة للموقعين عليها. كل مجموعة تثق أنها جاءت بالوصفة الشاملة والشافية الوافية لمشكلات السودان. لذلك ظللنا نرى تمسك كل فريق بكل كلمة وردت في مواثيقها كما سنرى لاحقا، فأتخذ الخلاف شكلا مؤسسيا، بالنسبة لكل فريق، يسنده ميثاق أصبح إنجيلا مقدسا بالنسبة لها.

كان الانشغال بالقضايا المبدئية والاهتمام بالغايات والنتائج النهائية هو ديدن اللجان قبل أن تخترقها الأحزاب. وهو ما ساهم في وحدتها ونجاحها في الإطاحة بالنظام وتكوين الحكومة الانتقالية. وكان بإمكانها المواصلة في ذلك الطريق حتى تتحقق جميع المطالب، والمحافظة على وحدتها دون الخوض في العمل السياسي الصريح، أو التدخل في تفاصيل عمل الحكومة المدنية، أو كتابة الوصفات التي ترشدها حول كيفية تحقيق مطالب الثورة. ولكن بكل أسف أدى اختراق الأحزاب للجان المقاومة إلى وقوعها في فخ الوسائل والآليات والوصفات. وهذا ما أدى لانشقاقها وشرذمتها وفق أجندة سياسية صريحة، فضربتها في أقوى مراكز قوتها.

الرجوع للقواعد والأصول

فما لم ترجع اللجان لأوضاعها الأولى، أي العودة لشعارات الثورة التي تتسم بالمبدئية والغائية والتركيز على النتائج والغايات، دون أن تلقي بالا للوسائل والآليات، فسوف لن تسترد عافيتها ولا وحدتها. ولذلك فهناك ضرورة قصوى أن تتحرر اللجان من تلك المواثيق وأن ترمي بها في المكان الذي تستحقه وهو سلة النفايات. فالبداهة والحس السليم يقولان إنه ليس من عمل اللجان الخوض في تفاصيل مثل شكل الحكم، أو عدد الوزراء وعدد المفوضيات، ولا الموقف من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وليس من مهامها وضع روشتة للحكومة توجهها حول كيفية حكم البلاد. بل من واجبها النضال حتى تحقيق المطالب فعندما تتحقق الحرية سوف نعرفها، وعندما تتحقق العدالة سنعرفها ونمارسها، فاذا لم تتحقق فالنضال يستمر، وهكذا. أما كيفية تحقيق هذه الشعارات والطرق والآليات التي بموجبها تترجمها لقوانين وسياسات ومشروعات فمتروك للحكومة وللحراك السياسي، الذي تديره الأحزاب السياسية، ومراكز البحوث، والأكاديميا، والمفكرين السياسيين.

أما لجان المقاومة فيجب أن تتعالى عن الخوض في هذه التفاصيل، وذلك لسبب بسيط هو أن الشيطان يكمن فيها. والدخول فيها يعني إثارة الخلافات وذلك لتعدد الخلفيات الثقافية والفكرية والسياسية لأعضاء اللجان. ولأنه من طبائع البشر تعدد المسالك والطرق المؤدية للغاية الواحدة، لذلك قيل “تتعدَّد طُرُق الوصول إلى الحق بتعدد أنفاس الخلائق”. لذلك ليس من المنطق أن يُصِرَّ الناس على أن الوسائل التي اختاروها هي الصواب المطلق الذي لا يأتيه النقص البشري من بين يديه ولا من خلفه، والتي يجب على الكل اتباعها.

وحدة الغايات واختلاف الوسائل

القارئ لمواثيق اللجان يلاحظ أنها تتَّفِق في الغايات بالرغم عن اختلافها في وسائل تحقيق تلكم الغايات. فمثلا يتفق الميثاقان في ضرورة تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. ولكنهما يختلفان في الآلية التي تتحقق بها تلكم الغاية. فبينما يرى الميثاق الثوري أن ذلك لن يتحقق إلا بمحاربة المؤسسات المالية الدولية، وخصوصا البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يرى ميثاق تأسيس سلطة الشعب أن ذلك سوف يتحقَّق بالتعاون مع هذه المؤسسات الدولية. فقد ورد في صفحة 13   من “الميثاق الثوري لسلطة الشعب” الفقرة التالية: “لضمان التركيز على التنمية والعدالة الاجتماعية يجب التراجع الكامل عن برامج التكييف الهيكلية أو ما يسمى بسياسات التقشف ورفع الدعم المتبعة من قبل صندوق النقد الدولي”. (تضخيم الحروف والخطوط تحت الكلمات من وضعي).

في المقابل يدعو ميثاق تأسيس سلطة الشعب للتعامل الإيجابي مع المؤسسات المالية الدولية حسب ما ورد في صفحة 8   من الميثاق في الفقرة التالية: “بناء برنامج اقتصادي وطني يوازن بين إدارة الدين العام (مراجعة ومراقبة الدين العام ومرجعيات التفاوض مع المؤسسات المالية الدولية)، وبين برامج التنمية الاقتصادية المبنية على حشد الموارد الداخلية. وترجمته الى سياسات ورؤى وخطط اقتصادية وتنموية استراتيجية متكاملة تراعي التوزيع العادل للثروة والسلطة وإدارة الموارد وحماية البيئة والعمالة المحلية“. (تضخيم الكلمات والخطوط تحت الكلمات من وضعي).

وهذا صحيح بالنسبة لبقية القضايا. فمثلا يتفق الميثاقان في الغايات والنتائج النهائية بالنسبة لطبيعة ودور المنظومة الأمنية. فالميثاقان يتفقان في أن في تكوين جيش مهني وطني واحد، لا يتدخل في السياسة ولا الاقتصاد وتحت سيطرة الحكومة المدنية “. وفي جهاز أمن   “تنحصر مهامه في جمع وتحليل المعلومات“. ولكن كما هو متوقع يختلف الميثاقان في المصطلحات المستخدمة في التعبير عن ذلك الموقف وكذلك في وسائل تحقيق تلك الغاية. فالميثاق الثوري ينادي “بإعادة هيكلة الأجهزة النظامية” بينما ينادي ميثاق تأسيس سلطة الشعب “بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية”. وأيضا بينما يتبنى الميثاق الثوري آلية “حل جهاز الأمن ومحاسبة عناصره وبناء جهاز جديد“، ينادي ميثاق تأسيس سلطة الشعب “بإعادة بناء جهاز المخابرات الوطني”، دون الإشارة لحل الجهاز، ولكنه يدعو لإنشاء محاكم ونيابات متخصصة لمحاكمة كل المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب والإبادة الجماعية وجريمة فض الاعتصام وجرائم ما بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021.

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن رؤى الميثاقين حول تحقيق السلام. فكلا الميثاقين يناديان بتأسيس سلام شامل للسلام لكل السودانيين عبر مؤتمر للسلام. ولكنهما يختلفان في الوسائل والمقاربات والسبل المؤدية لذلك. فمن جانب نجد أن الميثاق الثوري لسلطة الشعب يهمل اتفاق سلام جوبا تماما ولا يشير إليه مجرد إشارة، بل يتجاوزه ويدعو لمؤتمر السلام وفق ما ورد في الفقرة التالية من صفحة 4 والتي تقول: “تِأسيس سلام شامل لكل السودانيين عبر مؤتمر للسلام يضمن العودة الطوعية للنازحين واللاجئين والمُهَجَّرِين إلى قُراهم الأصلية ضمن خطة تنموية ثورية توفر الأمن وتُؤمِّن الخدمات الأساسية وحق العمل لجميع السكان، كما يلزم الشروع في عمليات تشاور واسعة مع جميع المكونات الاجتماعية في ِ الريف حول مشكلة الأرض والحيازات التاريخية، والتوافق على سبل حلها ومن ثم تقنين التوافق في شكل تعديلات على قانون الأراضي والحواكير”، انتهى. تضخيم الحروف والخطوط تحت الكلمات من وضعي).

أما من الجانب الآخر فنجد أن ميثاق تأسيس سلطة الشعب يدعو لمراجعة اتفاق جوبا حسب هذه الفقرة من صفحة 6 والتي تنص على الآتي: “مراجعـة اتفـاق سـلام جوبـا كليـا في اطار وطني أشمل، لمعالجة القصــور الــذي شــابه نتيجة عــدم اشراك أصحــاب المصلحــة فــي الســلام بمناطــق النــزاع المختلفــة كجــزء مــن العمليــة التفاوضيــة، وتجزئــة القضيــة الوطنيــة الواحــدة الي مسارات مختلفة بالصــورة التــي قــادت لتفجــر الأوضــاع فـي مناطـق مختلفـة مـن البـلد وصولا للانسداد السياسي والدستوري الذي شكل غطاء للتحركات الانقلابية. قيام مؤتمر قومي للسلام يؤسس لحوار سودانيسوداني يشمل كل القوى السياسية، والمهنية والمدنية والاجتماعية والأهلية، ينطلق من داخل معسكرات النازحين واللاجئين والوحدات الإدارية والمحليات لمخاطبة قضية الحرب والسلام بشكل جذري، ويشمل الجميع كشركاء في مداولاته وتنفيذ ما يتم التوافق عليه.” انتهى. (تضخيم الحروف والخطوط تحت الكلمات من وضعي).

الخلاصة

وهكذا نرى أن اللجان متوحدة في الغايات مختلفة في الوسائل. وحدة الغايات هو ما أدى لوحدتها ونجاحها عندما كانت ترفع الشعار العام وتطالب بالتغيير، وتعلن أنها سوف لن تبرح الشوارع ما لم يتحقق التغيير. لم تكن تهتم بالكيفية التي يتحقق بها التغيير، ولم تغرق بعد في شبر ماء الآليات والمناهج والتفاصيل. فالاختلاف في الوسائل أمر طبيعي نسبة لاختلاف البشر، ولكن تقديس الوسيلة أمر خطير جدا وهو الذي يؤدي للتعصب والشرذمة والعداء. فمن المعلوم مثلا أن للأحزاب اليسارية معركة وجودية ضد الرأسمالية والإمبريالية وأذرعها كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وقد أنفقوا أعمارهم يرددون هتاف “لن يحكمنا البنك الدولي”. وكان من الممكن أن يصبح موقفهم ذلك واحد من المقاربات مكانه الطبيعي منابر الحوار المجتمعي والسياسي بين الأحزاب المختلفة، ولكن أن يقدسوا تلك الوسيلة ويصروا على أنها السبيل الأوحد الصمد الذي يستحيل علينا إصلاح اقتصادنا ألا عبره هو الأمر الخطير. والأخطر منه هو نقل هذه الحرب غير المقدسة للمواثيق وللِّجان التي أثروا عليها.

ولعكس هذه الحقيقة المؤسفة لابد من ذكر أننا عندما كنا نعد مسودة “أسس ومبادئ إنهاء الحرب وإعادة تأسيس الدولة السودانية” في اجتماع تقدم الذي انعقد في أديس أببا في أكتوبر من العام الماضي، وعندما استعرضنا صياغة الفقرة السادسة حول الإصلاح الأمني، رفض ممثلو اللجان في المؤتمر استخدام تعبير “إعادة بناء” أو “إعادة هيكلة” القوات الأمنية رفضا قاطعا. وأصروا إصرارا أعمى على استخدام كلمة “إصلاح” الأجهزة الأمنية”. ولقد أنفقنا وقتا مقدرا من زمن المؤتمر في محاولة لإقناعهم باستخدام التعبيرات الواردة أعلاه، ولكن بلا جدوى. لذلك جاءت صياغة الفقرة السادسة من الوثيقة على هذا النحو:

“سادسا، أن مسألة الإصلاح الأمني والعسكري شرط أساسي من شروط التأسيس والانتقال، عليه يجب تنفيذ برامج شاملة لإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية وفقا للمعايير المتعارف عليها دوليا، على أن تفضي هذه العمليات للوصول الى جيش مهني قومي واحد خاضع للسلطة المدنية و مدرك لواجباته ومهامه وفقا للدستور، لتضع حدا قاطعا و ملزما لظاهرة تعدد الجيوش (القوات المسلحة والدعم السريع و الحركات المسلحة و المليشيات) خارج إطار الجيش المهني القومي الواحد.” تضخيم الكلمات والخطوط تحتها من وضعي).

نلاحظ أن الغاية متفق حولها، وهي الجيش المهني القومي الواحد الذي يخضع للسلطة المدنية، ولكن السبيل المفضي إليها هو المختلف عليه. أن تفسير هذا الإصرار العجيب من جانب الشباب على استخدام تعبير “إصلاح”، ورفض تعبير “إعادة هيكلة”، إنما لأنهم يتماهون مع ميثاق تأسيس سلطة الشعب الذي استخدم هذا التعبير، ويرفضون استخدام التعبير الذي استخدمه الميثاق المناوئ، أي الميثاق الثوري لسلطة الشعب. هذا هو التخندق داخل أسوار الدُّغمائية الضيقة، وهذا هو جحر الضب الخرب الذي حشرنا فيه اللجان. لقد صنعنا لهم عجولَ مقدسة تُكَرِّس للشقاق والاختلاف الأبدي فيما بينهم. فأي نفق مظلم أدخلنا فيه اللجان وأي كارثة ماحقة تسببنا فيها وأي تخريب لأعظم بارقة أمل في تاريخنا على إطلاقه. سوف لن يرحمنا التاريخ وسوف لن يغفر لنا الشعب ما لم نعمل بجد لإصلاح ما أفسدنا.

التوصيات

توصيتي الأساسية للأحزاب السياسية: غلِّبُوا مصلحة الوطن ومستقبله، ومصلحة اللجان ومستقبلها على المصلحة الحزبية، والكسب الحزبي قصير النظر والفادح الثمن. تَصَرَّفوا بمسؤولية، وارفعوا أيديكم عن اللجان. بل تقتضي المسؤولية الوطنية أن تعملوا على توحيدها وتقويتها، بدل العمل على شرذمتها وإضعافها.

توصيتي الأساسية للجان المقاومة خارج إطار الميثاقين: حافظوا على موقفكم هذا ولا تسمحوا بالانجرار لأي من الميثاقين. كونوا خميرة الوحدة التي توحد اللجان كحركة حقوق مدنية. أشجعكم أن تعلنوا عن أنفسكم كحركة حقوق مدنية واعملوا على اجتذاب اعضاء اللجان عموما داخل وخارج الميثاقين.

توصيتي الأساسية للجان الموقعة على الميثاقين: أعيدوا النظر في الثمن الغالي الذي دفعته اللجان على حساب وحدتها وقوتها. لابد من أن تديروا حوارا عقلانيا فيما بينكم تنظروا فيه للفوائد والخسائر الناتجة عن هذه المواثيق. هل أضعفتكم أم زادتكم قوة؟ هل وحدتكم أم شرذمتكم؟ فإن كانت النتيجة هي كما أزعم من كونها أضعفتكم وكرَّست لشرذمتكم، هل تتحملون هذه المسؤولية التاريخية في تخريب بيوتكم بأيديكم؟ وَحِّدوا أنفسكم في حركة حقوق مدنية سودانية شاملة.

توصيتي الأساسية للمثقفين وقادة الرأي والأكاديميا السودانية: قدموا الدراسات العلمية عن حركة اللجان كحركة اجتماعية، وساعدوا المجتمع على فهمها على طبيعتها الحقيقية، واضطلعوا بدوركم في توعية اللجان والمجتمع السوداني عموما حول أهم حركة اجتماعية في عالمنا المعاصر، حققت أكبر انجاز في القرن الواحد والعشرين.

توصيتي للشعب السوداني الذي ينشد التغيير: نَظِّموا أنفسكم مع اللجان في حركة حقوق مدنية وطنية سودانية شاملة لها فروع ومكاتب في كل إقليم ومحافظة، ومدينة، وقرية، وحي. فالحركة الإقليمية تنظم أولويات مطالبها في كل إقليم حسب الوضع الاجتماعي والحقوقي فيه، والحركة القومية تنخرط في ترتيب الأولويات القومية للبلاد قاطبة. وكما ذكرنا سابقا فحركة الحقوق المدنية تهتم بالغايات والحقوق ولا تتدخل في الآليات والوسائل وتفاصيل السياسات التنفيذية. فالمعركة طويلة ومتعددة المسارات، والمظالم كثيرة ومتنوعة، منها ما هو قومي يتعلق بشعارات الثورة حرية سلام وعدالة والحكم المدني. ومنها ما هو إقليمي مثل استخدام السيانيد في مواقع التنقيب عن الذهب وما يحدثه من خراب للبيئة، من أرض ومصادر مياه، وما ينتج عن ذلك من إضرار  بالإنسان، والحيوان، والنبات. ومنها ما يتعلق بغياب الخدمات الأساسية في المحليات من تعليم وصحة وبنية تحتية، إلخ. وهذه الحركة يمكن أن ينخرط فيها الجميع منظمين وغير منظمين، سياسيين وغير سياسيين، نساء ورجال، شيب وشباب، متعلمين وغير متعلمين، مشاهير وأناس عاديون، فهي حركة كل فرد منا، تخصه شخصيا، وتؤثر على حياته مباشرة، وتجعله سيد نفسه، ممسكا بمصيره، ومهتما بمستقبل أجياله. كما أنها حركة تعليمية وتثقيفية يتعلم خلالها الشعب ضرورة المشاركة في العمل العام وترفيع الوعي المجتمعي سمتا فوق سمت.

تُحرِز وتَحرِس

يمكن إجمال دور حركة الحقوق المدنية في كلمتين، أن تحرز الحقوق وتحرسها. فهي تناضل من أجل ان تحقق حقوقا مُضاعة، وبعد أن تُحرِزها تَحرِسها. فثمن الحرية هو دوام سهر كل فرد على حراستها كما قال الأستاذ محمود محمد طه. هذا صحيح حتى في المجتمعات المتحضرة، دع عنك مجتمعاتنا المتخلفة التي عاشت مجمل عمرها مقهورة ومحكومة بالقوة والبطش، وعانت الظلم وإهدار الحقوق. فقد أثبتت ثورة ديسمبر أن الحقوق لا تحرز إلا بثمن باهظ مضرج بالدماء. كما أنها معرضة دوما للردة والانقلاب عليها وتحتاج لمن يحرسها ويبذل في سبيل حمايتها كل غالٍٍ ونفيس. وقد أثبت الشباب السوداني بالتجربة أنه مؤهل تماما لهذا. إن ما قدمه شباب اللجان من تضحيات قبل مجزرة القيادة، أثناءها وبعدها، وهزيمتهم الساحقة لانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، أثبت أنهم قادرين على إنجاز التغيير وحراسته. لقد نجحت تلكم لتضحيات في طي صفحة الانقلابات العسكرية في البلاد إلى الأبد. وما هذه الحرب التي تستهدف الشعب السوداني وثورته إلا دليل على ذلك النجاح. هذه الحرب التي أشعلها الكيزان في الخامس عشر من أكتوبر إنما هي آخر سهم في كنانتهم، بعد أن صُدِموا بإبطال مفعول انقلابهم، وها هم قد رموا به الشعب متسببين في كل هذا الموت والدمار والتشرد والقهر والفقر والمجاعة وغيرها من العذابات التي يعانيها الشعب. ليس هناك أدنى شك أن حربهم هذه ستعود عليهم بالخسران المبين جزاء وفاقا.

إن ما قدمه شبابنا من تضحيات تجعلهم أنموذجا يقتَفى وتجعل من عبارة (الاستعداد للتضحية) عنوانا للمرحلة. لابد من اعتبار هذه القيمة شرطا أساسيا لمن يتصدى للعمل العام وقيادة الجماهير. لقد ضحى الاف الشباب بأرواحهم، وفقدوا أطرافهم وبذلوا الكثير من الدماء والعرق والدموع. هذه البطولة الملحمية يجب أن تجعلنا جميعا قادرين على التضحية بما هو أقل من النفس. يجب أن تجعلنا قادرين على التضحية بالمال وبالوقت وبالموقع. أي أن نتراجع للصفوف الخلفية وتقديم الآخرين. إن منظر الذين يتزاحمون على مواقع التمثيل في مكاتب (تقدم) والإصرار على ذلك لدرجة تعطيل العمل لمنظر مخزي لا يشبه الثورة وشبابها في شيء. فالذين يدخلون العمل العام بدون استعداد للتضحية بالنفس، وبالمال، وبالموقع، يجب أن يخجلوا من أنفسهم، وينسحبوا للصفوف الخلفية.

 

 

[1] تصريح ياسر العطا ليس صحيحا. فنحن نعرف هذه المجموعة جيدا جدا وقد دربنا غالبيتهم، ونعلم أن هناك قسم صغير منهم حمل السلاح مع الجيش وقسم صغير آخر حمل السلاح مع الدعم السريع، ولكن المجموعة الرئيسية ما تزال على مبدأ السلمية.

 

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *