على وقع الدفوف، وبين خيام الذكر المضيئة في قلب أم درمان، استعاد السودانيون هذا العام تقليداً ضارباً في عمق تاريخهم، حين عاد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف إلى ميدان الخليفة بعد توقف دام عامين بسبب الحرب.

أم درمان: التغيير

جمع المشهدين التناقضات، آثار الخراب والنزوح لا تزال ماثلة، لكن أصوات المدائح والتهليل بدت وكأنها محاولة جماعية لمداواة الجراح وإعلان أن الحياة أقوى من الموت.

و يُعَدّ ميدان الخليفة أحد أكثر الساحات رمزية في السودان، ليس فقط لكونه مركزاً دينياً، بل لأنه ارتبط منذ عقود بالذاكرة الشعبية والطقوس الجماعية المرتبطة بالمولد.

وكان توقف الاحتفال لعامين متتاليين بفعل الحرب حدثاً صادماً للناس، إذ بدا وكأن المدينة فقدت قلبها النابض.

غياب الزفة

غياب الزفة والموكب وحلقات الذكر في تلك الفترة جعل المشهد أكثر قسوة، حيث بدت الساحة التي اعتادت أن تضج بالحياة خالية وصامتة، تتجاور فيها المآذن مع أصوات المدافع.

عودة الطقوس هذا العام جاءت لتكسر هذا الصمت وتعيد التوازن بين الروح والمكان. في المساء، اكتظت الساحة بالنساء والأطفال والشيوخ. ارتفعت أصوات الزغاريد مع دخول المواكب، فيما دوّت المدائح النبوية التي تردّدها الطرق الصوفية المتعددة.

حلقات الذكر اصطفّت متجاورة، وألوان الأزياء الصوفية أضفت على المكان بهجة بصرية قلّ نظيرها.

لكن المشهد لم يكن مكتمل البهاء؛ فالمباني الملاصقة للميدان ما تزال تحمل ندوب الحرب: جدران مثقوبة بالقذائف، نوافذ مكسورة، وأبواب متروكة مفتوحة بعد أن هجرتها العائلات.

وسط هذا المشهد العمراني المثخن بالدمار، كان الاحتفال بمثابة إعلان صريح بأن المكان لا يزال قادراً على احتضان الحياة. ملامح الحاضرين نفسها حملت آثار الحرب، وجوه متعبة، وأجساد أنهكها النزوح والحرمان.

ابتسامات الأطفال

ومع ذلك، فإن لحظة دخولهم الميدان بدت كأنها تزيل بعض الأثقال، ابتسامات الأطفال عند سماع المدائح، دموع النساء التي اختلطت بالزغاريد، وانحناءات الشيوخ في حلقات الذكر.

بدا وكأن الساحة تمنحهم استراحة قصيرة من القسوة اليومية، وفرصة لتجديد الصلة بما تبقى من الروح.

ورغم أن المولد في السودان اشتهر دوماً بالحلوى الملوّنة التي يحرص الأطفال على اقتنائها، إلا أن الأزمة الاقتصادية جعلت كثيراً من العائلات عاجزة عن شراء ما اعتادوا عليه.

باعة الحلوى في أطراف الميدان يشكون من ضعف الإقبال، وأطفال كُثُر وقفوا يتأملون ما لا يستطيعون حمله.

غير أن غياب الحلوى لم يمنعهم من مشاركة الأهازيج والجري بين الخيام، فالمكان وفّر بديلاً روحياً يوازن الفقد المادي، وأعاد لهم بعض الفرح المفقود.

علاقة وثيقة

منذ العهد المهدوي في أواخر القرن التاسع عشر، ارتبطت أم درمان والمولد النبوي بعلاقة وثيقة خيث اتخذ الخليفة عبد الله التعايشي من الميدان المحيط بمسجده مركزاً لتجمعات المريدين والأنصار، ومنها انطلقت تقاليد الزفة والاحتفال.

ومع مرور العقود، تحوّل المولد إلى مناسبة لا يقتصر حضورها على الجانب الديني، بل يشمل البعد الاجتماعي والثقافي أيضاً، فهو فرصة للقاء العائلات، ولتفاعل الأسواق الصغيرة التي تنشط في محيط الميدان، ولإحياء التراث الشعبي من أناشيد وممارسات فلكلورية.

الطرق الصوفية في السودان، من القادرية والتيجانية والختمية وغيرها، تلعب دوراً محورياً في إحياء المولد.

وتحضر كل طريقة  بموكبها المميز وراياتها وألوانها الخاصة، لتصنع لوحة جامعة تعكس التدين الشعبي السوداني.

ومع أن الحرب فرّقت كثيراً من الطرق وأضعفت نشاطها في بعض المناطق، فإن حضورها في المولد هذا العام كان رسالة واضحة بأن التصوف ما يزال أحد أبرز مصادر التماسك الروحي والاجتماعي في البلاد.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.