الموت لا ينهي وجود الباقر العفيف بيننا السودانية , اخبار السودان
![](https://alarabstyle.com/wp-content/uploads/2025/02/فاطمةغزالي.jpeg)
لا انحناء
فاطمة غزالي
الموت لا ينهي وجود الباقر العفيف بيننا
ليس سهلاً على الإنسان أن يعبر بالكلمات عن حجم الحزن على الراحل المقيم الذي يشكل رمزاً من رموز الاستنارة والمعرفة الباقر العفيف .. ليس سهلاً لأن الحروف لا تقوى على حمل رحيله المر الذي تنوء الجبال بحمله تصدعا. نحزن كثيراً على رحيل الأعزاء مع أن الموت لا ينهي وجود الذين نُحبهم فهم موجودين بيننا لأن لحياتهم التي اختاروها قبل الرحيل معنى في الوجود فهم رجحوا كفة الخير بما كانت تحمله نفوسهم من قيم سامية وتقدمه أيدهم من أعمال جليلة ونبيلة تظل حاضرة في كل الأزمنة.. نعم هؤلاء حضور بيننا لأنهم نقشوا معني الإنسانية بمواقفهم وأخلاقهم ومبادئهم على جدران حياتنا فالأيام وحدها تجيد صناعة الفُلك للنجاة من طوفان الحزن عليهم. الباقر العفيف من هؤلاء الذين زينوا الحياة السياسية والحقوقية والثقافية والاجتماعية بدرر الفكرة والمعرفة وجواهر العطاء فالحزن على رحيله كالكأس الطافحة يصُعب حملها. الباقر الإنسان لم يحزن عليه أهله وأخواته واخوانه الجمهورين وزملائها وزميلاته وأصدقائه وصديقاته ولا أخواته اللائي لم تلدهن أمه فحسب، بل حزن عليه وطنه الجريح السودان.. تتراكم الأحزان .. حزن على حزن ويربط الله على فؤاد من يشاء من عباده وينزل برحمته الصبر على من يشاء. رحيل الباقر العفيف عزّ على المدافعين عن حقوق الإنسان، والسلام، والحرية، والعدالة.. غيوم من الحزن غطت على سماء العديد من زملائه وزميلاته وصديقاته وأصدقائه من الشعوب الأخرى لأن المبادئ التي ظل يعمل من أجلها تشكل قاسماً مشتركا بينه وبينهم. كان العفيف يقاوم وجع المرض ليمنحنا ابتسامة الأمل بأن القادم أفضل للسودان وأهله. أخرس نوبات ألم المرض اللعين (السرطان) من أجل أن يقطع المسافات الطويلة بين القارات للمشاركة بالرأي والفكر والنقاش والحوار أملاً في أن يخرج السودان من ظلمات الحرب اللعينة . الباقر المعلم لم يكن مشغولاً بالذات والتفكير في تفاصيل مرضه الذي ينهش جسده، بل كان غارقاً في بحر هموم الوطن يقاوم الأمواج بحثاً عن المرسى. الباقر العفيف كان الوطني الغيور الذي يجد في الوصفات والحلول التي تقترح لتضميد جراح الوطن مسكناً لأوجاعه وآلامه لذا يتحمل شقاء السفر والجلوس لساعات طويلة في الاجتماعات وورش العمل.. حبه للسودان وأهله فوق التصور والخيال لا تمضي دقيقة وإلا كان السودان محور حديثه واهتمامه كيف لا وهو من رموز الاستنارة وعمل على ترسيخها عبر مركز (الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية) كما أسس الإلكترونية التي أصبحت منبراً للتعبير عن قضايا التمييز العرقي وظل يطرح أفكاره ودراساته حول الهوية وقضايا المركز والهامش.. ظل يكتب عن السلام والحرب ويخطط ويفكر من أجل السودان
بمقدار الحزن على رحيله كانت سعادتنا وفرحتنا بوجوده بيننا في الأشهر الأخيرة من حياته في مدينة فرجينا في هذه الفترة كان الباقر العفيف أيقونة للمحبة ورمزاً للتلاقي وعلامة للتواصل بين الذين لا تتألف قلوبهم فمن أجله كانت أياديهم تتصافح ويتجاذبون أطراف الحديث محبة وتقديراً لجلسة تجمع بينهم والباقر العفيف. أشرقت أيامنا بوجوده معنا وكان يشعرنا بمعزته لكل فرد منا ويفرح بزياراتنا كأنما هذه الزيارات تخفف عنه الوجع وتنسيه المرض فيتحدث بطريقته الهادئة وسرده القصصي الممتع ويدهشنا بمعرفته وقصصه وتجاربه وتنهال عليه الأسئلة من هنا وهناك ويرد بابتسامة لا تفارقه أبداً .. وتارة يطوف بنا حول حياته وأسرته ومجتمع منطقته الحوش بولاية الجزيرة ودور والده في سينما الحوش تلك المنطقة التجارية المفتون بحيويتها.. الكثير من المحطات في حياته يتوقف قطار السرد عندها لأن الموضوعات والنقاش والذكريات تتطلب وقوفه في محطة جامعة جامعة الخرطوم وأستاذاً بجامعة الجزيرة. ويذكر بعض المواقف في بيت الجمهوريين. وقصص أخرى عن تجاربه العالمية خاصة حينما كان مسؤولاً في منطقة الشرق الأوسط لدى منظمة العفو الدولية.. المملكة المتحدة من المحطات التي صقلت تجاربه وله قصص وذكريات مع أصدقائه من السودانيين في لندن.. حديثه كان حياته كان مبرأ من الغرور والتفاخر والتباهي بالعلم والمعرفة بل كثيراً ما تتحول الجلسة إلى حلقة نقاش وحوار عن قضايا التنوع وتاريخ السودان وثقافاته وأزمة الهوية وحرب دارفور والحرب الدائرة الآن وتداعياتها. يعرف الباقر العفيف الكثير عن كل أقاليم السودان ربما يعرف بعض الأقاليم أكثر من أهلها لأن تجربته مع الجمهوريين منحته فرصة التعرف على السودان مبكراً وما زاد المعرفة عمله الميداني في تلك المناطق. الباقر العفيف يحب أن يتحدث عن شخصية شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه ويستشهد بفكره وأقواله وبعض الجمهورين يرون أن الباقر جسد الكثير من قيم الأستاذ محمود محمد طه في سلوكه وتعامله. في أصعب لحظات المرض وتطوراته وأوجاعه التي كان يصفها بقطعة من النار كتب الباقر العفيف أقوى المقالات ورد على بعض الذين يختلفون معه في الرأي بكل موضوعية، لم يترك للمرض فرصة أن يقف سداً منيعاً بينه وبين حبه للوطن والعمل من أجله وكان يقول سأظل أعمل من أجل السودان حتى تصعد روحي إلى السماء.. حقاً كان العاشق للوطن إلى أن اختاره الله إلى جواره.
بعض البيوت في فرجينا لا شك أنها تتلفح بالحزن لأن أي ركن من أركانها يذكرنا بالحضور الأنيق للباقر العفيف الذي يخلق من كل لمة وجلسة منبر للتحليل العميق والحوار المفيد.. في كل زاوية من وزوايا منزل الأستاذ فائز عبد الرحمن وشريكة حياته دكتور أسماء محمد الحسن ترك الباقر العفيف بصماته، نتخيل حضوره أو نسمع صدى صوته هذا الشعور جاءني عندما زرت دكتورة أسماء وهي مريضة لا شك إنه الحزن الذي نحاول تقاسمه بمواساة بعضنا البعض .. ذات الشعور سنجده عندما ندخل أول مرة بعد رحيله إلى منزل دكتورة عزة الشيخ إبراهيم وزوجها عبد الله الشيخ وهذا المنزل أيضاً كالنادي السياسي وهو ساحة للنقاش والتحليل السياسي بحضور أعضاء المؤتمر السوداني دكتور عزت خيري وعادل وصحافيين منهم عبد الرحمن الأمين وساسة كثر ، كما ترك الباقر العفيف لصديقه الأمريكي ستيف العديد من الذكريات. قطعاً الكثير من الذكريات في منزل شقيقته عفاف وزوجها دكتور أمير وشقيقته قيته نجاة في ولاية ديلاوير ويستقبلنا الباقر العفيف وهو وأسرته من الشارع وهو فرحاً جداً بزيارتنا له في ديلاوير في منزل عامر بالخير والمحبة لكل زائر .. حقيقة ترى لطف الباقر وطيبته في وجوه كل أفراد أسرته الكبيرة والصغيرة .ربنا ينعم عليهم وعلينا بنعمة الصبر.. يصبر زوجته حنان وبنته أمل وأبنه محمود.. الموت لا ينهي وجود الباقر بيننا فهو حاضر بكتاباته ومشاريعه وأفكاره ووصيته وطيبة أخلاقه.
. لم تترك الدموع مجالاً للكتابة.
نواصل
المصدر: صحيفة التغيير