عبدالله رزق أبو سيمازة


عبدالله رزق أبو سيمازة

بعد عقدين من الزمان، اكتشف المهندس عادل محمد سيد أحمد الحسن،  الكاتب ينبض في إهابه .  وعلى وقع : ” وجدتها .. وجدتها ” ، غادر عالم الهندسة، ومن ثم توجه نحو حرفة الكتابة، مؤلفا وناشرا، مدرعا بما ورثه من والده من عصامية، ومن اجتهاد ومثابرة . ولأنه لم يحدد، ابتداء، أي الأجناس يجدر بمواهبه الإبداعية، فقد طوف في آفاق الكتابة إلى أن أثراها بأكثر من عشرة كتب، تتوزع على  حقول مختلفة من الفولكلور والتراجم والتاريخ  حتى القصص والروايات، من بينها ثلاث مجموعات قصصية : ” أزاميل الزمن ” و ” كلب طيفور” و ” رواكيب الخريف ” ،  وروايتان : ” من حكاية المال والعيال” و ” ريحة الموج والنوارس ” . وتبعا لتنوع موضوعاته، اتسمت كتاباته بتنوع الأساليب . غير أن ما يلفت الانتباه ، أن تجاربه في البحث عن الذات المبدعة، ذاته، قد انطلقت  من خبراته، ومن تجارب حياته الخاصة، ومن محيطه الأسري، ومن واقعه المعاش، بصوره عامة، كمصادر لإلهامه.

ربما كان ذلك محدد منحاه الواقعي في كتابة القصة، بالذات، حيث يمكن تتبع  بعض من حياته، أو تلمس ملمح من شخصيته (كما في  المهندس باسل في قصة “المأمورية “، ص ١٠٠) . من هذا المستودع الشخصي والعائلي للخبرات والتجارب، معينه الأول، افترع المهندس عادل مأثرة للبر بأحد والديه، حين دون سيرة والده، القائد النقابي والمناضل الشيوعي، السابق ، المرحوم، محمد سيد احمد الحسن، والتي أملاها عليه، خلال مؤانسات مطولة بينهما، حافظ  عادل على طابعها الحواري، عند إصدارها في كتاب . ولعله تقصد، وإن بطريقة مختلفة، ربما، أخرى مماثلة،  في البر بحبوبته، ” حاجة العافي “، بتدوين الأحاجي التي سمعها منها ، في بعض أمسيات من سبعينات القرن الماضي، كما سمع من عماته، ومن أخواته، الأكبر سنا منه .

ويجسد مؤلف” في الضواحي، وطرف المدائن “، مرحلة من مراحل التجريب، واللايقين، والتنقل بين جنس أدبي وآخر، ويبرز  كرواية لم تكتمل، أكثر من كونها ” قصصا قصيرة وذكريات “، كما يفصح العنوان . يحيل عنوان الرواية، القاريء إلى أغنية ذائعة، إلى مستهلها، فيخدعه، ربما، أو يضلله، إن لم يكن العنوان، نفسه، قد فقد جاذبيته، ابتداء، بفضل الإستخدام، أو الإعتياد . وتحتل الرواية  ثلاثة من أجزاء/ فصول الكتاب الأربعة، وتتوفر على تكنيك عال، من حيث السرد واللغة، والعناية بالتفاصيل، ما يشحنها بطاقة من التشويق . ومع تبلورها، كرواية  لم تكتمل، فإنها لا تكف من  أن تفصح او تشي ببعض سيرة ذاتية، أو مجزوء سيرة ذاتية، منذ أن جعل المؤلف من حياته وتجاربة، مادة ومصدر كتاباته، وإلهامه . تدور أحداث  فصول/اجزاء الرواية  الثلاثة، بين طرمبة ميري، في جنوب الخرطوم، الكلاكلة، وبيت العزابة، في أبوروف، بأم درمان . ويحفل النص بالتفاصيل . تفاصيل الأمكنة والشخوص والوقائع العادية اليومية، خصوصا، تلك المتمحورة حول ” القعدات “، الجلسات العامرة بصنوف المشروب وانواع المطعوم ، وبالشجون . للرواية، التي تجسد حالات هروب من  قسوة واقع معاش، لآخر مصطنع، حاشد بالمسرات، أكثر من ذروة صغيرة  . بدء من وفاة تمبوشة،الجميلة، التي كانت تساعد اختها “ميري “، في بيع الخمور البلدية، وتشحن المكان بالفرح الغامض، وهي تلهم الزبائن وبالطاقة الايجابية . وانتهاء بتدهور هذه التجارة،  ما دفع ميري، للعودة للجنوب،  ثم رحيل الراوي/ البطل، من الكلاكلة إلى ابوروف، من الضواحي وإليها. ويتوقف النص عن ملاحقة مصائر البطل، كذروة كبرى للرواية.

ليس للفصل الرابع (الجزء  الرابع، حسب تقسيم المؤلف )، علاقة وثيقة بما سبقه من فصول / أجزاء ثلاثة . ربما كان  هذا الجزء / الفصل هو الذكريات، التي أشير إليها العنوان . وهي طرف، أو ما يشبه الطرف والمفارقات   المنتقاة، لا يجمع بينها رابط سوى حدوث وقائعها في بيت الاشباح / المعتقل، حيث قضى المؤلف ثلاثة اشهر، وتتصل بعدد من الأشخاص، للمؤلف معرفة بهم، وصلة . غير أنه لم يشأ أن يضع تلك الشذرات  من الذكريات في قالب ادبي، كما سيفعل في حكايات (رواكيب الخريف ). لذا تفتقر تلك اللقطات الانتقائية للتسلسل الزمني، والتكنيك، والعناية باللغة، التي ترتقي بها فنيا لمستوى القصص، كما في الفصول السابقة . تمثل مجموعة ” رواكيب الخريف “، تمثل سجلا واقعيا، لأشخاص حقيقيين، يقول  المؤلف في تقديمه للكتاب أنه قد  تعرف علي اغلبهم،  وعلى طموحاتهم وآمالهم واشراقاتهم،من ناحية،وعلى  همومهم وآلامهم واخفاقاتهم،من الناحية الأخرى ، كما يقول في تقديمه للكتاب ص (١١). ومن ثم رصد مكابداتهم وصراعاتهم النفسية، وبطولاتهمم، وهم يقاومون ظروف حياتهم الصعبة، قريب أسفل المدينة، ليتحرروا وينهضوا، وألبسها الثوب الأدبي، على حد قوله،  بما يشير لإمتلاكه لفن القص وتقنياته، كما يتبدى  ذلك في: ” البطيخة ” ص (٩٧) و ” شطة وعم بطة ” ص (٣٤) و ” لمعة ودمعة ” ص (١١٠)،على سبيل المثال.

غير أن تقيده الصارم بالحادثات الواقعية، قد حرمه من إعمال الخيال، في إعادة البناء السردي،  بصيغة أكثر درامية ، كما في ” الأرملة ” ص (٣٩)، ومن التخلص من التفاصيل غير الضرورية، في البناء الفني للقصة، كما في ” طارقو الأبواب ” ص (١٤٩) . وقد أظهر المؤلف، قبيل نضج تجربته  الإبداعية، واكتمالها، شيئا من  التردد في تصنيف أعماله في جنس محدد : قصص وذكريات، رواية قصيرة، مجموعة قصصية …الخ . غير أنه  يتقدم خطوات،إلى أمام، في مجموعته  ” رواكيب الخريف “، قياسا بتجاربه السابقة، ومنها : ” في الضواحي وطرف المدائن “، والتي وسمها بالقصص والذكريات، معا ،  وذلك من حيث قدرته  على متابعة مصائر أبطال قصصه، التي لا ينقصها الصراع والدراما،  كما يتراءى  في رواية  “من حكاية المال والبنون”، اول عمل سردي للمؤلف، سبق  في ترتيب الصدور، مجموعة ” رواكيب الخريف ”  . وكما هو شأن البدايات، عادة، حين الشخصيات لا  ترتسم بالوضوح الكافي،  كما خطوط الصراع . فبدون صراع، كما يقول أوسكار وايلد، لا دراما، بالمعنى العريض، للمفردة.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.