د.عزالدين فضل آدم إستشاري الوبائيات والصحة العامة

في ظل الاستقطاب السياسي المحموم، الناس عادة لا يصدقون التصريحات الإعلامية للمؤسسات الرسمية، مهما كانت وضعيتها الاعتبارية؛ ولا يلقون بالاً لحديث الخبراء، مهما علت مؤهلاتهم وخبراتهم الموسومة بصفة إستراتيجية ؛ لأنهم فقدوا المصداقة في مصادر المعلومات وبدأوا رحلة البحث عن أدلة مقنعة من جهة مستقلة.
في كل المجتمعات البشرية غالبًا ما تظهر الشائعات (Rumors) قبل التقارير الرسمية عن التفشيات (Outbreaks) الوبائية والمخاطر الصحية. هذا إذا سلمنا بوجود نظام صحي شفاف يتعاطى مع المخاطر الصحية بمسئولية ويتدخل في الوقت المناسب لحماية حياة الناس؛ وإذا افترضنا وجود مجتمعات واعية صحياً، وتتعامل بأمانة وصدق مع المستجدات. حيث أن الأنظمة الصحية الشفافة وذات المصداقية العالية يهمها أن تقدم الحقيقة عارية حتى تحافظ على سلامة الناس وتتحكم في المخاطر الصحية، وأن المجتمعات الواعية تعمل كخط دفاع أول يساعد الأنظمة الصحية بإرسال معطيات استشعار مبكرة لكل خطر محتمل. ومن الضروري أن نعلم بأن بعض الشائعات تعكس تفشياً حقيقياً لمرضٍ او خطرٍ صحي ماثل أو مهددٍ بيئيٍ خطر؛ والبعض الآخر من الشائعات يدعم التهويل والتخويف عبر نشر ضار للمعلومات المضللة.
التحدي في مثل هذا السيناريو هو: إذا استجبنا لكل شائعة، فإننا نخاطر بإضاعة الموارد وهز الثقة العامة نتيجة معلومة كاذبة؛ وإذا تجاهلناها، فإننا نخاطر بالتعرض لتفشي وخطر صحي وبيئي حقيقي. وكلكم يعلم قصة راعي الأغنام (شهاب الكذاب) في كتب المطالعة الابتدائية الذي كذب في نجدة اهل قريته وهو يستنجدهم بنداء كاذب وهو يصرخ (هجم النمر … هجم النمر ) وعندما ينجدونه في كل مرة كان يضحك ويقول (كنت أمزح عليكم) ولكن عندما هجم النمر بصورة حقيقية لم يجد شهاب من يستجيب لندائه وينقذه.
السؤال البديهي: “لماذا لا تقدم الأجهزة الرسمية الاستجابة اللازمة بشكل علمي كامل وفوري عندما تصدر الشائعة؟”
والإجابة على هذا السؤال تكمن في التباين الرئيسي في تحقيق التوازن بين الضرورة (urgency) في وجود خطر حقيقي يستدعي التدخل، والكفاءة (efficiency) المتمثلة في وجود موارد كافية لتقديم الاستجابة.
حيث أن الكثير من الشائعات يتبين أنها كاذبة، وتحريك الموارد وفرق الاستجابة لمجابهة التفشيات والمخاطر الصحية في كل مرة تكون مكلفة ومزعجة وتؤدي إلى تآكل المصداقية واستنزاف النظام الصحي. ولكن قد ينطبق هذا التعليل الذي ذكرناه على إشاعات روتينية لبعض الأوبئة مثل الكوليرا التي نكتفي أحيانا بتسميتها (إسهالات مائية) والتي تلازم مجتمعاتنا في موسم الامطار؛ ولكن الأمر يختلف اذا كانت الإشاعة بحجم استخدام سلاح كيميائي في ظروف حرب، وفي ظل وجود تقارير لجهات عالمية مشهود بقدرتها في الحصول على المعلومات بواسطة أجهزة استخباراتية ومعدات رقابية ذات تقنية متطورة؛ وفي ظل ترتيبات حكومية تستهدف نقل بعض المنشآت العامة من مكانها المشتبه تأثره بتلوث كيميائي الى مكان آخر.
إذاً ما هو المدخل المناسب للتعامل مع هذا الوضع؟:
لا بد من وجود جهة تحقيق مستقلة مشهود لها بالمصداقية والشفافية،وتقصي بقيادة فريق محققين ذو كفاءة علمية ومهنية عالية، ومحمي بحصانة كاملة من أي تدخل سياسي او فني، وتتوفر له الحماية الأمنية والتسهيلات الكافية في الحركة؛ واستخدام أدوات وقياسات تحقيق ميدانية موثوقة وفاعلة.
ما هي منهجية التحقيق المناسبة:
هناك عدد من المنهجيات العلمية للتحقيق في مثل هذه الظروف مثل:
النمط الأول: دراسة الاتراب (cohort study): وهي ان ندرس الأفراد في مجتمعين أحدهما تعرض للخطر والآخر لم يتعرض. مثلا نأخذ مدينة بها إشاعة تعرض لسلاح كيميائي وكانت ساحة حرب ومعارك، ومدينة أخرى آمنة لا توجد بها إشاعة ولم تتعرض لحرب. ثم نراقب سكان المدينتين لفترة طويلة ونقيد ونقارن بينهما في المشاكل الصحية المتعلقة باستخدام الأسلحة الكيمائية مثل ظهور الأعراض التالية:
السرطانات،
إجهاض الأجنة،
ظهور أمراض الجهاز التنفس المزمنة،
الأمراض الدماغية،
أمراض الكلي،
أمراض الكبد،
الأمراض الدماغية،
الأمراض القلبية والوعائية،
موت الطيور،
تلوث وتسمم الأسماك،
نفوق الحيوانات وغيرها.
ولكن عيب هذا النمط من الدراسات أنه يستغرق زمناً طويلاً؛ ومكلف من ناحية مادية؛ ويحتاج لرقابة وقياسات صحية للأفراد المعرضين للمخاطر لفترة طويلة.
النمط الثاني: دراسة الحالات والشواهد (casecontrol): وفيها ندرس الأفراد المشتبهين وهم حالات (case) ظهرت عليها أعراض وعلامات الإصابة في مدينة محددة تعرضت للخطر ونقارنهم بحالات من الأفراد الأصحاء (control) يسمون بمجموعة التحكم ولكنهم يتشابهون مع مجموعة المشتبهين في نفس الخصائص الديمغرافية والجغرافية والمجتمعية.
ونسبة لان الأمراض الناتجة من التعرض للمخاطر الكيمائية والإشعاعية تأخذ زمناً طويلاً في الظهور فإنه يمكن إدراج الذين تظهر عليهم أعراض مثل تحسس في الجلد،
إلتهابات في العيون،
سعال (coughing)،
ضيق في التنفس (shortness of breath)،
صفير في الصدر (wheezing)،
النعاس (drowsiness)،
الدوار (dizziness)،
الخدر (numbness)،
الغثيان (nausea)، فقدان الوعي (loss of consciousness)،
الم في البطن (abdominal pain) وغيرها من الأعراض الأخرى.
هذا النوع من الأنماط الدراسية أقل كلفة من ناحية مادية ويتم في فترة قصيرة ولكنه يتجاهل تقييم المخاطر البيئية التي تحتاج لنمط ايكولوجي.
النمط الثالث: الدراسات البيئية (Ecological study): وهو نمط درسي مزيج من دراسة الحالات والشواهد ودراسة البيئة. وهو قليل التكلفة، وسريع النتائج، وتكون وحدة الدراسة فيه هي البيئة المجتمعية بدلاً من التركيز على الأفراد فقط. ويمكن أن نسمي هذا النوع دراسة الحالات والشواهد البيئية (ecological casecontrol study) .
حيث يمكننا هنا المقارنة بين مدينتين؛ الأولي تمثل المدينة المنكوبة وظهرت فيها شائعات تزعم بان المجتمع تعرض لخطر الأسلحة الكيمائية (RC) والمجموعة الثانية تمثل مجتمع التحكم (CC) للمقارنة. ونقوم بأخذ عينات عشوائية من مجتمع كل مدينة وإجراء قياسات شاملة للتربة والهواء والماء . ثم نحسب نسبة الأرجحية البيئية (EOR) التي تقيس احتمالية المرض او المخاطر الصحية في المجتمع الذي تعرض لخطر استخدام الأسلحة الكيميائية مقابل المجتمع الذي يسكن مدينة أخرى آمنة خارج نطاق الحرب.
مثال افتراضي لتوضيح قراءة النتائج:إذا شملت الدراسة مجتمعين:
مجتمع لمنطقة في مدينة الخرطوم التي يقطنها 500,000 مواطن وقت الحرب، وأخذنا منهم عينة تمثل 300 شخص يعانون من أعراض تنفسية ومعوية، ودوار، وخدر، وغثيان، وفقدان للوعي، وتحسس في الجلد، وتفشت شائعة تخص تعرضهم لخطر سلاح كيميائي، وقمنا بقياس نسبة تلوث المياه والتربة والهواء في المنطقة.
وكان لدينا مجتمع آخر في مدينة أمدرمان يتكون كذلك من 500,000 مواطن وقت الحرب، وأخذنا منهم عينة تمثل شخص300 وقمنا بنفس القياسات السابقة. وطبقنا معدل ثقة (CI) 95% وكانت نتائج القراءة للمخاطر المذكورة كالآتي:
في مدينة الخرطوم كانت نسبة ظهور الاعراض المذكورة 45 مقابل 15 حالة في امدرمان. فهذا يعني بان نسبة التعرض في الخرطوم 45/300 وهي تساوي 15% مقابل 15/300 في امدرمان وهي تساوي نسبة 5%. ثم نحسب الأرجحية (OR) تساوي 3.4 حسب المعطيات الافتراضية.
التفسير: إذا استبعد معدل الثقة 95% الرقم 1، فإن احتمالات التعرض لسلاح كيميائي تكون أعلى بشكل كبير في المجموعة الأشاعة (الخرطوم) مما يبرر الادعاء ويؤكد بأن الإشاعة ليست إشاعة وهي تخوف حقيقي من خطر قد وقع بالفعل. إذا كان نطاق الثقة قد شمل الرقم 1، فهذا يعني عدم وجود فرق ذو دلالة إحصائية بين المجتمعات في الخرطوم وامدرمان، مما يشير إلى أن الشائعة تفتقر إلى الدعم بالدليل المادي والإحصائي والوبائي.
لذلك من المهم جداً تفادي التصريحات الإعلامية النافية او المؤكدة بهذا الخصوص، وتشكيل فريق مستقل من جهات معتمدة وخبراء مشهود لهم بالمصداقية والنزاهة حتى يتم عمل تحقيق شامل لدراسة الحالات والشواهد البيئية (ecological casecontrol study) بمنهجيات علمية محكمة ونشر النتائج لعامة الناس.
مكاسب هذا الإجراء سيكون لها فوائد عديدة منها:
دحض الشائعات بأسلوب علمي موثوق وبناء الثقة مع المواطنين وتشجيعهم على العودة لمنازلهم لتطبيع الحياة
وإذا ثبت وجود تلوث فإننا نكون قد قابلنا الحدث بكل شجاعة وتحملنا مسئوليتنا في المحافظة على صحة مواطنينا من التعرض لمخاطر فادحة في المستقبل قد تكلف النظام الصحي نفسه أعباء كبيرة لا يستطيع مواجهتها.
ونسأل الله ان يحفظ بلادنا من كل شر وينعم على كل مواطنينا بالصحة والعافية وأن يعودوا لديارهم سالمين غانمين ويبقوا في بيوتهم آمنين.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.