المغتربون.. من بناء المستقبل إلي ترميم الحاضر
الخرطوم: العفراء
(ليتنا نسيطيع أن ندفع المال لنؤمن على حياة أهلنا من الموت) هكذا ابتدر حديثه عثمان بعد أن شردت الحرب زوجته وأبناءه وأهله وفقدوا كل مايملكون في الخرطوم، ولحقت بهم في مدني فنزحوا من جديد إلي مدينة كسلا، عانوا ما عانوا في الطريق حتى استقر بهم الحال في أحد بيوت الإيجار.
حال عثمان هو حال كل المغتربين اليوم الذين نسوا هموم الغربة بعد أن طالتهم الحرب، فاليوم هم يخوضون حربين رغم بعد المسافات، حرب نفسية تدار بسؤال من نجى ومن مات، وحرب مادية سلاحها سؤال كيف يغطون كل هذه المصاريف، هكذا قال محمد أيضا: ( نحنا والله بنتقطع كل يوم ونحنا حاسين بالعجز، وماقدرين نقيف مع كل قريب وكل صاحب في الوضع ده، بنخجل لما نسأل الناس من حالها وما ملحقين نساعد الكل، القاعد في الخرطوم محتاج إعانة والنزح برضو محتاج، لأنه حال الناس كلها اتلخبط وفقدوا اشغالهم ومدخراتهم، بنرسل كل المعانا وما بكفي وكل يوم بمر على أهلنا وضعهم ماشي أسوأ، ونحنا ما عارفين نسوي شنو الله يعين بس).
هذا هو الشق الآخر من الصورة، ففي خضم كل هذه الفوضى وتداعيات الحرب وما يعانيه المواطنين من كثير من التحديات التي سلطنا عليها الضوء، لا يفوتنا أن نسلط الضوء على هذه الأيدي التي تعمل من خلف الكواليس. فبين ليلة وضحاها رمى المغترب أجندة بناء مستقبله وعش زوجيته إلي مشروع سد الحوجة فقط لأهله وأقاربه.
وهذا ما نلمسه في حديث يعبر عن ذات السياق إذ تقول سمية (ربة منزل)، التي لجئت إلي مصر مع أسرتها وأسرة زوجها أنهم اليوم يعيشون على راتب زوجها فقط الذي استأجر لهم شقتين وتكفل بدفع رسوم إجراءات الإقامة لهم ولم يستطيع إدخال أبناءه للمدارس بسبب ضغط الصرف عليه، فاكتفوا بمكان يأويهم ولقمة تسد جوعهم حتى تفرج ويعودون إلي وطنهم.
وفي ظروف مشابهة قال محسن أنه مغترب منذ أكثر من عشرة أعوام وكل ما بناه في السنين الماضية ذهب ادراج الرياح، عش الزوجية الذي جعله مكتمل من جميع الاثاثات والأجهزة المنزلية والسيارة، كل هذا تعرض للنهب في الخرطوم.
اسنادا لوصفنا للمغتربين بأنهم أيادي تعمل في الخفاء يقول معاوية وهو شاب يعمل في أحد غرف الطعام الخيري بمنطقته التي تسمى ب “التكيه” وهي عادة معروفة لدى الشعب السوداني في تقديم الطعام بشكل يومي للمحتاجين، واليوم هذا النظام فرضته الحرب بعد أن جارت على من يملك ومن لا يملك فيقول: ( ربنا يبارك فيهم، والله ماقصروا شباب الحلة المغتربين مانسوا أهلهم في الحاره دي و وقفوا وقفة رجل واحد، وساهموا في فتح التكية بأنهم برسلوا المبلغ المالي ونحنا هنا بنجيب بيه البنقدر عليه ، بنوزع فول وبليلة وعدس، لأنه الناس وضعها صعب شديد بقى وفي أطفال وكبار ما بتحملوا، اليوم العلينا ده في ناس بتجي تشيل الفول تأكله زي البليله عشان ما عندهم حق الرغيف، الحاجة دي ما ساهلة خففت عن ناس كتيرة ربنا يقويهم ويجعلها في ميزان حسناتهم ويصلح حال البلد وتنزال الغمة عن الشعب كله).
شباب هذا الوطن يقومون باسعافه منذ عام، بسواعد خضراء تعمل بلا كلل حتى لا تحيل نيران الحرب أهلهم إلي رماد، وليسوا بمعزل عن من هم داخل مناطق الاشتباك، فاليوم أبناء هذه الأحياء لهم الفضل في سد جوع الكثيرين، ويعملون كالنحل جماعات وأفراد لسد دين الوطن و واجبه حتى ينقشع هذا الظلام عن البلاد والعباد.
المصدر: صحيفة الراكوبة