المشنقة لا تشيخ.. من محمود محمد طه إلى هباني

إبراهيم هباني

في السودان، لا تموت المشنقة، فقط تغير اسم ضحيتها. قبل اربعة عقود علقت السلطة جسد مفكر في ساحة عامة لتقتل الفكرة. واليوم، تعيد المشهد نفسه بحكم اعدام يصدر في حق زعيم اهلي، لتقتل الرمز. تتبدل الوجوه، وتتغير اللافتات، لكن عقل الدولة الذي يخاف الحرية لم يتغير.

محمود محمد طه لم يقتل بسبب جريمة، بل بسبب فكرة. ومأمون إدريس هباني لا يُحاكم اليوم بسبب فعل جنائي مثبت، بل بسبب موقف. الفارق بين الرجلين زمنيا، لكنه واحد سياسيا واخلاقيا: سلطة لا تحتمل صوتا خارج طاعتها، ولا نموذجا لا يخضع لمنطق السلاح.

الناظر مأمون لم يكن قائدا عسكريا، ولم يحمل سلاحا، ولم ينخرط في مليشيا. كان زعيما اجتماعيا في اقليم النيل الابيض، ادرك باكرا خطورة عسكرة المجتمع، فاختار طريق المصالحات، وحماية النسيج الاجتماعي، وفض النزاعات القبلية، ودعم التعليم الاهلي، وتأمين طرق الرعاة، وربط المجتمع بما تبقى من مؤسسات الدولة. في زمن الانفلات، كان يمثل ما تبقى من معنى الادارة الاهلية كحائط صد اخلاقي في وجه الفوضى.

حين انسحب الجيش من منطقته، لم يهرب، ولم يختبئ خلف السلاح، ولم يساوم على موقعه الرمزي. بقي وسط اهله، يدير الازمة بالحكمة لا بالرصاص، وبالكلمة لا بالبنادق. وهنا تصبح جريمته واضحة: انه لم يخضع لمنطق القوة، ولم يتحول الى تابع.

حكم الاعدام الصادر بحقه لا يمكن قراءته بعيدا عن هذا السياق. انه ليس اجراء قضائيا، بل رسالة سياسية واجتماعية: كل من يحاول ان يقف خارج اصطفافات السلاح مهدد. كل من يتمسك بدور المجتمع في وجه المليشيات قابل للازالة. انها محاولة لكسر ما تبقى من مناعة المجتمع.

كما ارادت مشنقة محمود محمد طه ان ترهب جيل المفكرين، يراد اليوم لحكم اعدام مأمون هباني ان يرهب زعماء المجتمع. الرسالة واحدة: لا صوت يعلو فوق صوت السلطة، ولا رمز يبقى خارج مسارها.

في لحظة عالمية تتصاعد فيها الدعوات لمحاصرة التنظيمات المتطرفة ومليشيات العنف، يقدم هذا الحكم صورة فادحة عن مأزق الدولة في السودان، حيث تختلط سلطة الامر الواقع مع خطاب الدين، ومع سطوة السلاح، لينتج ذلك عدالة مشوهة وقضاء مسيسا ومشانق جاهزة.

لن تعيد هذه الاحكام هيبة الدولة، بل تسحب منها آخر ما تبقى من اخلاقها. ولن تصنع امنا، بل تفتح ابواب ثأر طويلة في مجتمع مجروح. وكما لم تنجح مشنقة محمود في قتل فكرته، لن ينجح حكم الاعدام في قتل رمزية مأمون ولا في محو سيرته وسط اهله.

في السودان، المشنقة لا تشيخ. لكنها ايضا لم تنتصر يوما على المعنى.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.