المشروع الوطني السوداني بين رغائبية «دولة البحر والنهر» وأشواق «ثورة ديسمبر عائدة راجحة»
في أغسطس 2, 2025

بقلم:وزير المالية والتخطيط الاقتصادى السابق بروفيسور إبراهيم أحمد البدوي

المقال الأول: مقدمة تمهيدية

في تصريح له عام 2015، أعرب الروائي والفيلسوف الإيطالي الراحل أومبرتو إيكو عن قلقه بشأن الطريقة التي أدت بها وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على الخطاب العام بطريقة قد تكون ضارة، حيث اشتهر بقوله:

” تمنح وسائل التواصل الاجتماعي جحافل من الحمقى الحق في التعبير عن آرائهم، في حين أنهم كانوا في الماضي لا يتحدثون إلا في الحانات بعد كأس من النبيذ، دون أن يضروا بالمجتمع. ثم سرعان ما تم إسكاتهم، أما الآن فهم يتمتعون بنفس الحق في التعبير عن آرائهم مثل الفائزين بجائزة نوبل. إنها غزو الحمقى“.

أدلى إيكو بهذا التعليق أثناء تلقيه درجة فخرية من جامعة تورينو الايطالية. لم يكن يقصد من ذلك معارضة حرية التعبير في حد ذاتها، بل كان يشير إلى تآكل دور الرقابة والخبرة في الخطاب العام بسبب ظهور منصات مثل فيسبوك وتويتر (والتى أعيد تسميتها ب اكس). بالطبع فقد أثار هذا التصريح من شخص بحجم هذا الكاتب الكبير الكثير من الجدل حول النخبوية ودور وسائل الإعلام الرقمية وقيمة التعليقات المستنيرة مقابل الضجيج الشعبوي.

فبينما أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لكتاب ومفكرين سودانيين وطنيين النهوض باستحقاق نشر الوعى والاستنارة عن هذه الحرب الكارثية ومخاطرها الوجودية للسودان ومستقبله، الا أنها أيضاً قد وفرت منابراً لبعض هؤلاء الحمقى لإغراق الحالة السودانية المأزومة جراء الحرب بالمخاطبات التقسيمية الغرائزية في سياق مقاربات بائسة تسعى للقفز فوق جذور أزمة المشروع الوطني السوداني ومحاولة بيع فكرة أن دار فور هي المشكلة وأن معالجة أزمة البلاد، حسب زعمهم، تتطلب فصل هذا الإقليم لكى “يرتاح أهل دارفور ويريحوا ما تبقى من السودان”. أكثر من ذلك، ذهب البعض الى فصل كامل غرب السودان اذا لزم الأمر، بما في ذلك أجزاء من إقليم كردفان، لكى يتسنى بناء “جنة” دولة “البحر والنهر”.

وهنا لا بد من التوقف عند مقال للكاتبة الصحفية الأريبة الأستاذة رشا عوض، حيث وصفت هذه الطروحات ذات النفس العنصري الفج التي يتبناها الناشط مصطفى عمسيب بـ”المشروع العمسيبي” الذي لا يستند إلى أي رؤية سياسية أو أخلاقية، بل إلى أوهام سلالية لا تليق إلا بـ”عالم الحيوان”:

“فهل بلغ بنا الانحدار لدرجة المضي في طريق حيونة أنفسنا عبر المشروع العمسيبي في سبيل الحفاظ على السلطة والامتيازات التاريخية لطبقة سياسية فاسدة؟… هذا الهراء العمسيبي ليس بحجم دولة النهر والبحر! دا بالكثير ممكن يعمل دولة الخور والترعة التي ستنقسم إلى دولتين: جمهورية الخور وجمهورية الترعة!”

قد يعتقد البعض أن مثل هذه الطروحات لا تعدو أن تكون مجرد ظواهراً سطحيةً كأحد افرازات الحرب يمكن أن تنزوي في غياهب النسيان اذا قدر للشعب السوداني، بعون الله وتوفيقه، انهاء هذه الحرب الماحقة. الا أنني أعتقد أن من الغفلة بمكان النظر الى هكذا طروحات بأنها منسحبة فقط على “حمقى” وسائط التواصل الاجتماعي كما وصفهم الكاتب الإيطالي المشار اليه آنفاً أو كما صنفهم بصورة أكثر بلاغة الامام على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، حين قال في احدى وصاياه لكُميل بن زياد النخعي، والذى كان من خاصته وأصحابه المقربين وواليه على مدينة هيت بالعراق (رواها أبو نعيم في الحلية والخطيب في تاريخ بغداد):

” ان هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها للعلم احفظ عني ما أقول لك يا كُميل، الناس ثلاثة: عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق …”

الا ان الأمر أخطر مما يبدو لأن مثل هذه الدعاوى الحمقاء في ظاهرها قد تكون بمثابة حصان طروادة، توظف من فبل القوى الشمولية عند الضرورة اذا لم تسفر هذه الحرب عن انتصارٍ كاملٍ لأي من طرفيها كما هو متوقع، خاصة وأن مشروع معسكر الحرب الشمولي هذا تتسيده فئة قرمطية مجرمة معلومة للشعب السوداني، حكمت هذا البلد المنكوب لثلاثة عقود من الزمان وعندما أطيح بها جراء أعظم ثورة في تاريخ السودان الحديث، لم تكتفى بإعاقة مشروع الثورة في تحقيق شعارها الأيقونة في “الحرية والسلام والعدالة”، مجترحة في سبيل ذلك مختلف الوسائل الهدامة بما في ذلك انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر المشئوم، بل أشعلت هذه الحرب الكارثية عندما أفشل شباب الثورة بتضحياتهم الجسام مشروع الردة الشمولية لذلك الانقلاب، وأصبح وقتها إعادة مسار الثورة نحو الانتقال المدني الديمقراطي قاب قوسين أو أدنى.

بلا شك ستلجأ هذه القوى الى تبنى المشروع التقسيمي للحفاظ على سلطةٍ ما ولو كان ذلك على حساب تفتيت ما تبقى من أشلاء هذا البلد الجريح، ولهم سوابق في ذلك حيث فرضوا فصل الجنوب باستخفافهم ببنى الوطن في ذلك الجزء العزيز من السودان، اذ لم يلقوا بالاً لحقوقهم المشروعة في المواطنة في وطن متصالح مع تنوعه الديني والاثني. بل لقد ذهب رئيس النظام البائد لأبعد من ذلك، حيث أعلن متباهياً بأن السودان الشمالي قد أصبح الآن دولة متجانسة عرقياً ودينياً وبالتالي ليس هناك مجالاً “للدغمسة”.
في سياق محاولة شيطنة دارفور لتبرير مشروع دولة “البحر والنهر” أو بالأحرى دولة “الخور والترعة”، كما تفضلت الأستاذة رشا عوض، اشتكى دعاة هذه الدولة عن الاستغلال الجائر والنهب لموارد ولايتي نهر النيل والشمالية بواسطة الشركات والأفراد المرتبطين بقوات حركات دارفور المتحالفة مع الجيش. طبعاً، هذه بمثابة دعوة حق أريد بها باطل، حيث أن هذا الذى يجرى في ولايتي الشمال وغيرها من ولايات السودان هو مشروع استباحة شاملة لكل البلاد كثمن لبناء التحالفات العسكرية، مجازٌ ومتفقٌ عليه من الكل وليس تغولاً أحادياً من حركات دارفور وحدها.
في المقال التالي سنورد بعض الأدلة والشواهد عن مشروع الاستباحة المليشياوى لموارد البلاد والذى هو بالضرورة أحد ركائز مشروع الحرب ووسيلته الرئيسة لتمويلها وتسبيك تحالفاتها. بالمقابل، سأستعرض فى المقالات الثلاث اللاحقة آفاق التحولات الاقتصادية الكبرى التى كانت تنتظر البلاد اذا قُدِّر للثورة أن تمضى فى تحقيق أهدافها، خاصة انفاذ “استراتيجية مكافحة الفقر من منظور بناء السلام وأهداف التنمية المستدامة في السودان”، والتى تحتوى على المنهج الذى اعتمدته حكومة الثورة لتخصيص الموارد، خاصة لجهة التمييز الإيجابي للأقاليم المتأثرة بالحروب والنزاعات بما في ذلك إقليم دار فور وذلك حتى يتبين لأهل السودان قيمة الفرصة التي أضعناها. فى المقال السادس نفند أباطيل محاولات “الشيطنة” و “التطفيف” التى تعرضت لها وما تزال حكومة الثورة الانتقالية وأهمية الدفاع عنها وابانة انجازاتها الوطنية الهامة رغم مؤامرات الثورة المضادة وتحديات الانتقال.

فى المحور الثانى من هذه المقالات، نقدم فى المقال السابع تحليلاً مرجعياً لتجارب الأمم التي خاضت الحروب الانفصالية وماذا كان كسبها من الاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي، بينما نعرض في المقال الثامن لتجربة السودان وأزمته الاقتصادية والسياسية جراء تقسيم البلاد. أخيراً، فى المحور الثالث نستعرض فى المقالين التاسع والعاشر ملامح مشروع وطني سوداني لإنهاء الحرب وبناء السلام وتحقيق الانتقال المدني الديمقراطي النهضوي.

خاتمة:

في مواجهة الحرب الأهلية الكارثية التي يشهدها السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تبرز من جديد رواية خطيرة تتمثل في تقسيم البلاد بالقوة عن طريق اقتطاع دارفور وأجزاء من كردفان، باعتبار أنهما معقل قوات الدعم السريع. يؤطر هذا الاقتراح، الذي ينادي به بعض المتشددين من أنصار القوات المسلحة السودانية وبعض منسوبي ما يسمى بـ”الحركة الإسلامية”، الانفصال كطريق مختصر مفترض للخلاص الوطني.

ولكن هذه ليست فكرة جديدة ولا فكرة سليمة. فقد جرب السودان هذا المسار من قبل. ولم يؤد ذلك إلا إلى تعميق التجزئة والانهيار الاقتصادي والانحدار الحالي إلى وضع الدولة الفاشلة. الأدلة الأكاديمية والتاريخية واضحة لا لبس فيها: التقسيم ليس حلاً. إنه سراب سيغرق السودان في فوضى أعمق.

تكرار خطأ 2011 سيكون كارثة لا تغتفر. أقاليم السودان أيً كانت ليست “مشاكلاً يمكن بترها” كما يقول البعض، بل كل تراب الوطن ومكوناته جزء لا يتجزأ من الوطن ومن أي حل مستقبلي له. السودان الذي نحلم به ليس السودان الذي نُصغّره حتى يتسع لطبقة مستبدة فاسدة، بل السودان الذي نتسع نحن له جميعاً بتنوعنا وأحلامنا واختلافاتنا وأصواتنا

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.