خالد فضل

 

لزمن طويل , استغرق عقود الحرب الأهلية في السودان , ظلّ وهم النقاء العرقي يشكّل واحدا من أكبر الدوافع لتغذية الكراهية واثارة الحمية للقتال ضد المطالب السياسية التنموية التي ظلّت ترفعها حركات الكفاح المسلح في وجه السلطات المركزية , تلك المركزية ليست جغرافيا بل تمركز حول الذات الموسومة بصفتي (العروبة والإسلام) . كأنما ذلك سر الأسرار العليا , يجب السكوت عنه , فالإشارة إليه تدمغ صاحبه مباشرة بالعنصرية وإثارة الفتنة بين المجموعات الوطنية التي تعيش في نعيم متخيل من التلاحم والتناغم والود والصفاء . انظر إلى قيادة الجيش والدولة منذ الإستقلال , تجد فيها النوباوي والغرباوي والجنوبي المسيحي _زمان_ ألا يمثل ذلك قمة التسامح والتعايش , إنّ فرية التهميش والعنصرية وحرمان التنوع السوداني من التعارف والتثاقف والإنصاف هي دعاوى وأجندة عملاء دول الإستكبار والمنظمات المشبوهة .

في مطلع التسعينات من القرن الماضي عندما بدأت دعوات الجهاد المقدّس تحل محل خطابات دحر التمرد في الجنوب , كنت أعمل معلما في مدرسة الحوش الثانوية بجنوب الجزيرة , أقام إتحاد الطلبة _التابع للجبهة الإسلامية طبعا_ إسبوعا ثقافيا جهاديا . في البروفات الأولية قدمت مسرحية تصوّر مشهدا من مشاهد التضحية والجهاد , من ضمن خطاب التعبئة يقول الجندي المجاهد لرفيقه (أكُتل العب) أي أقتل العبد . الجندي المجاهد يصور هنا كمركز للنقاء العرقي بينما الجندي المتمرد يمثل نموذجا للعبودية المرتبطة بالعرق . استدرك أحد الزملاء المعلمين _ يرحمه الله _ تلك الجزئية , وقام بتعديلها لتخرج على خشبة المسرح بصيغة ( أكتل المتمرد) !!

عقب إستقلال/إنفصال ؛ جنوب السودان , وتسوية حقوق الموظفين الجنوبيين , كان المطلوب لدى إدارة التأمينات الإجتماعية في الخرطوم حضور شاهد شمالي من نفس المصلحة التي يعمل فيها زميله الجنوبي , بالفعل ذهب زميلنا (ر) رفقة زميله الجنوبي (ن) لإنجاز المهمة , الشاهد من أبناء جبال النوبة . أمام الموظف قدّم بطاقته الشخصية , نظر فيها الموظف بسرعة وقرأ الإسم ومرر بصره على الصورة ثم رفع رأسه قليلا قائلا : قلنا عاوزين شاهد شمالي . فاجابه ذلك الشمالي القح : متى فصلتم جبال النوبة عن الشمال ؟ اسقط بين يدي الموظف الضحية , ومرر الإجراء بسرعة ليتخلّص من حرجه . أتوقع أنّ ذلك الموظف المسكين ردد في سرّه (ما كلكم عبيد ح أعرفكم كيف ؟) .

ليس بعيدا عن ذلك ما أورده الراحل د. الترابي منسوبا للرئيس المخلوع البشير حول رايه في شرف (الغرباوية) كرد على (إفتراءات المنظمات المشبوهة بوجود إغتصاب في حرب دارفور) , وقديما انتشرت قصة الراحل داؤود يحي بولاد مع الراحل د. جون قرنق , ومصارحة الأول للثاني (رابطة العرق أقوى من رابطة الإسلام في تكوين الحركة الإسلامية) .

شهادات الناجين من مجزرة كمبو طيبة بمنطقة أم القرى شرق ود مدني تضمنت ما سمعوه على ألسنة بعض العناصر العرباوية _ بحسب وصفهم_ وهم يتوعدون العبيد بالويل والثبور .

في مناطق التعدين بالولايات الشمالية نشطت مليشيا مسلّحة مولودة من رحم المقاومة الشعبية , من ضمن مشروعها المطلبي طرد أبناء الغرب من مناطق التعدين . والمقاومة الشعبية هي إسم الدلع للمجاهدين منذ التسعينات حسبما أفاد د. عبدالحي يوسف . ومن شابه اباه فما ظلم !!

الآن , يقود ولاة ولايات الخرطوم والجزيرة والنيل الأبيض حملات (الكردنة) بوساطة القوات المشتركة لتصفية ما يصفونه الوجود (الأجنبي) والسكن العشوائي , وأوكار الجريمة لتصبح ولاياتهم آمنة مطمئنة عقب تحريرها من دنس مليشيا آل دقلو الإرهابية .ولتبدأ عمليات إعادة الإعمار وبسط الأمن وإندياح الخدمات والتنمية لبناء السودان الجديد (النقي)!! أخبار تلك الأعمال الجليلة تنقلها الوسائط الإعلامية المختلفة من قرية الخيرات في شرق النيل , إلى تنفيذ 25عملية كردنة لمناطق في ولاية الجزيرة عقب تحريرها بما في ذلك المنطقة الصناعية بالباقير بحسب تصريحات مدير جهاز الأمن والمخابرات بالولاية اللواء أمن عماد سيد أحمد ؛ منوها لإستمرار عملهم بسياسة النفس الطويل ليل نهار في ملاحقة المتعاونين والمندسين (سونا 20 مايو 2025م) . تترافق عمليات التنقية البشرية تلك مع حملة (بلّغ عن متعاون) والتي كان من حصادها الطازج , إكتظاظ سجن بورتسودان , وسجون ولايات سنار والقضارف والجزيرة ونهر النيل والشمالية بآلاف (المشتبه بتعاونهم ) مع الدعم السريع ؛ حسبما نشرت مجموعة (محامو الطوارئ) مؤخرا .

الصورة الزاهية للسودان ستكون مدعاة للفخر والكرامة بعد ذبح المتمردين الأوباش والمتعاونين , والحواضن الإجتماعية ؛ كما يحرّض الجهادي الداعشي الناجي عبدالله , وبعد القضاء على القوى السياسية والحركات المسلحة الحليفة للتمرد ..

من هم المستهدفون بحملات مدير جهاز الأمن في ولاية الجزيرة ؟ الإجابة تجدها حاضرة في خطابات الكراهية والتحريض التي تنتشر عبر الوسائط وفي قروبات القرى والأحياء , تطالب بتصفية الكنابي في الجزيرة , وعشش الخفراء في أحياء الخرطوم . وما لا يصرّح به علنا ويقال همسا ؛ تصفية الأحياء الطرفية التي تحيط بالخرطوم على شكل (حزام أسود) , هذا الحزام كان قد أشار إليه البروفسور حسن مكي قبل عشرين سنة تقريبا .

إنّ جهاز الدولة المنهارة فعليا هو من يقود حاليا عملية التصفية والتشفي والتنقية ليشكّل مجتمع دولته المرجوة , فقد قالها الضابط الإداري في وحدة الدندر الإدارية وهو يهتف (براؤؤون يا رسول الله) موجها خطابه بالقبض على أي متعاون .. هم معروفون لديكم ؛ كل قحاطي وتقزمي . وجاء إكمال القصة عبر دعوات جاهلية من روابط مناطقية بترحيل وطرد قرى معينة في تلك الأرجاء من ولاية سنار .

وقفت سيّدة شجاعة في أطلال القرية المتهدمة لتلقي قولا ثقيلا , لماذا هدم قريتنا بزعم احتضانها الدعامة ؟ الدعامي عندما جاء لم يك يحمل بيتا على رأسه لقد احتضنتهم البيوت في شارع الستين وسوبا والثورة الحارة 6 وكل أحياء الخرطوم فلماذا لا تهدم .. لأنها بيوت العرب ؟ ثم استدركت ؛ (أنا لا أتحدث بالقبائل) وهم يفرحون بالعودة بفضل تضحيات أولادنا وأخواننا في الصفوف الأمامية يقاتلون , رسالتي لهم , لا تقبلوا أن تكونوا عبيدا يتم إغراءكم بالقروش , أنتو ونحنا سودانيين وسنظل سودانيين لن نقبل مقولة ضرب العبد بالعبد .(ده الكلام الأنا سمعتها قالو لي زول أنحنا إودونا الغرب نفضل نحارب النوبة العبيد ديل لحد كاودا) .

في حين كانت البيوت في قرية الخيرات تهدم على أسس تنقوية , والكوليرا تقضم آلاف المواطنين في ست ولايات , كانت إحدى القاعات بمدينة بورتسودان تستضيف لفيفا من الصحفيين والإعلاميين يتقدمهم وزير الثقافة والإعلام خالد الإعيسر , ويشرفهم القائد مالك عقار رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال/ الجبهة الثورية , نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي العسكري , بالإضافة إلى عدد من القادة العسكريين والأمنيين , ومن أبرز توصيات الورشة المشهودة , منح السلطات العسكرية حق فرض الرقابة على الصحف والمواقع الإلكترونية وتكوين جسم مختص بذلك يضم عناصر أمنية , وذلك تمشيا مع روح المرحلة التي تستوجب فرض هيبة الدولة على الفضاء العام في البلاد !!!!

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.