اخبار السودان

المرتب المترنح والتضخم المفرح!

حسن عبد الرضي الشيخ

 

وأخيرًا، وبعد طول انتظار، زحف المرتب الهزيل إلينا مترنحًا، وكأنه خرج لتوّه من معركة طاحنة، فقد جاءنا خائر القوى، يلهث من الإرهاق، وكأن رحلته إلينا كانت سيرًا على الأقدام عبر الصحارى والوديان، بلا زاد ولا سند. مسكين هذا المرتب، فقد أنهكته الحياة قبل أن يمنحنا الحياة! نظرنا إليه بعين الشفقة، فوجدناه نحيفًا، باهتًا، مرتجفًا، لا يقوى حتى على شراء جورب طفل، فكيف له أن يطعم أسرة أو يغطي احتياجات شهر كامل؟ يا له من مسكين، تأخر عامين وانكمش خمس مرات، ثم جاء يطلب منا حسن الاستقبال! .

 

مرتباتنا التي لم تُحدَّث منذ أزمنة غابرة، صارت أشبه بمخطوطات أثرية، تصلح للعرض في المتاحف أكثر مما تصلح للإنفاق على ضروريات الحياة. وفيما تتسلق الأسعار بلا خجل قممًا جديدة كل يوم، يظل المرتب متشبثًا بأسفل القائمة، كأنما هو في اعتكاف دائم! الدولار، ذاك العدو اللدود، قفز من ٥٠٠ جنيه إلى مشارف ٣٠٠٠، بينما المرتب ظل ثابتًا، أو بالأحرى متحجرًا، محتفظًا بقيمته كذكرى من زمن الرفاه المفقود.

 

أما منحة العيد، تلك المكافأة التي كانت تواسي الموظف على تعاسته، فقد اختفت، ربما لأنها تسببت في رفاهية زائدة عن الحد! فقد رأت الجهات المعنية أن المواطن السوداني كائن خارق، يمكنه العيش على الهواء وقليل من الأمل، وإن لم يكن هذا كافيًا، فليجرّب الصبر مع كوب من الماء! وهكذا لم يبقَ لنا سوى التساؤل، وفقًا للمثل السوداني العتيق: “المرتب … شن طعمه؟”، فحقًا، ما طعمه؟ لا أحد يعرف، لأننا لم نذقه إلا في أحلامنا! .

 

أما نظام بورتسودان، فمشغول بابتكار حلول “عبقرية” تنحصر في مطالبتنا بالمزيد من الصبر وإدمان الوعود. والجهات الرسمية، وكعادتها، لديها دائمًا الحل الأمثل لكل أزمة : “الصبر مفتاح الفرج!”، فإذا وصل المرتب كان أشبه بمنحة رمزية، وإن لم يصل، فعلى المواطن أن يتحلى بمزيد من الإيمان بأن الفرج قريب، رغم أن هذا “القريب” يتلوى منذ عقود دون أن يصل! أما الحديث عن رفع المرتبات لتناسب التضخم، فهذه رفاهية لا تخطر ببال المسؤولين، وكأن تحسين مستوى المعيشة جريمة يعاقب عليها القانون! .

 

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : ما مصير المرتب القادم؟ نخشى، والله، أن تصل بنا الأمور إلى أن المرتبات لن تأتي إلا في نعوش، وقد تُدفن قبل أن تصل إلى أصحابها. من يدري؟ ربما سيأتي يوم يصبح فيه استلام المرتب حدثًا استثنائيًا، يُحتفل به كما تُحتفل المناسبات الوطنية! لكن حتى ذلك الحين، سنظل نردد في كل شهر جديد: “المرتب … شن طعمه؟”.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *