مقدمة: مهندس اليسار الجديد في السودان

يُعد الخاتم عدلان (19482005) شخصية محورية في تاريخ الفكر السياسي السوداني الحديث. لم يكن مجرد سياسي أو كاتب، بل كان منظّراً جريئاً ومثقفاً نقدياً، قاد واحداً من أهم التحولات الفكرية في تاريخ اليسار السوداني. إن مسيرته، التي بدأت في قلب الحزب الشيوعي السوداني وانتهت بتأسيس أفق ديمقراطي جديد، تمثل رحلة فكرية وسياسية غنية تستحق التمحيص والتحليل.

يهدف هذا التقرير إلى تقديم دراسة استقصائية معمقة وموثقة لتجربة الخاتم عدلان، بالاعتماد على كتاباته ومقابلاته والشهادات المسجلة عنه، بالإضافة إلى المواد الأرشيفية المتاحة. سيتتبع التقرير مسار عدلان منذ نشأته وتكوينه الفكري، مروراً بنضاله ككادر شيوعي بارز، ثم يحلل بعمق أسباب قطيعته الفكرية مع الماركسية، ويستكشف تجربته في تأسيس حركة “حق”، ويختتم بتقييم إرثه الفكري والمؤسسي الدائم. إن فهم تجربة الخاتم عدلان ليس مجرد استعادة لسيرة شخصية، بل هو مفتاح لفهم أزمة اليسار التقليدي ومحاولات بناء بديل ديمقراطي في السودان.

الجزء الأول: التكوين والنضال (1948 1989)

1.1. من ريف الجزيرة إلى قاعات الفلسفة

وُلد الخاتم الهادي أحمد رجب، المعروف بالخاتم عدلان، في قرية “أم دكة الجعليين” بمنطقة الجزيرة عام 1948. نشأ في بيئة ريفية صقلت شخصيته وأكسبته صلابة في مواجهة مصاعب الحياة. كانت وفاة والدته وشقيقته في سن مبكرة تجربة قاسية شكلت وعيه المبكر بـ”عبث الوجود”. وجد في الدراسة ملاذاً وتفوق فيها، وصولاً إلى تخرجه بمرتبة الشرف الأولى في قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة الخرطوم. على الرغم من نبوغه الأكاديمي، تم منعه من التعيين كمعيد بالجامعة لأسباب سياسية، لكن أساتذته أصروا على منحه فرصة لنيل درجة الماجستير تقديراً لتفوقه.

1.2. كادر في الحزب الشيوعي: ثلاثون عاماً من الالتزام

انضم الخاتم عدلان إلى الحزب الشيوعي السوداني في عام 1964، وهو لا يزال طالباً في المدرسة الثانوية، مدفوعاً باعتبارات فكرية بحتة وإيمان بقدرة الإنسان على “إعادة صياغة الكون بعقله”. سرعان ما برز ككادر قيادي نشط في الحزب والجبهة الديمقراطية واتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وارتقى في المناصب الحزبية حتى أصبح عضواً في لجنته المركزية ومقرباً من سكرتيره العام التاريخي، عبد الخالق محجوب.

1.3. سنوات السجن والمقاومة

كان التزام عدلان السياسي مكلفاً. خلال فترة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، تعرض للاعتقال أربع مرات، قضى خلالها ما مجموعه ثماني سنوات تقريباً في سجون مختلفة مثل كوبر وشالا وبورتسودان. هذه التجربة القاسية، التي بدأت منذ عام 1971، لم تكسر إرادته بل عمقت التزامه بالنضال ضد الديكتاتورية.

الجزء الثاني: الزلزال الفكري والقطيعة (1989 1994)

شكل مطلع التسعينيات نقطة تحول حاسمة في مسيرة الخاتم عدلان الفكرية. فقد تزامنت أزمتان وجوديتان دفعتاه إلى مراجعة نقدية جذرية لمساره ومسار الحزب الذي قضى فيه ثلاثة عقود.

2.1. أزمة مزدوجة: انهيار عالمي وكارثة محلية

تمثلت الأزمة الأولى في “الزلزال” العالمي المتمثل في انهيار الاتحاد السوفيتي وتجارب الاشتراكية في أوروبا الشرقية، مما أدى إلى تقويض الأسس النظرية للمشروع الماركسياللينيني على مستوى العالم. أما الأزمة الثانية فكانت محلية، وتجلت في انقلاب الجبهة الإسلامية القومية عام 1989، والذي كشف عن عجز الحزب الشيوعي السياسي، رغم امتلاكه معلومات مسبقة عن التحضير للانقلاب. هذا الفشل المزدوج، العالمي والمحلي، خلق المناخ الملائم لطرح الأسئلة التي طال كبتها.

2.2. أطروحة “آن أوان التغيير”: تفكيك العقيدة

في عام 1991، طرح الخاتم عدلان ورقته التأسيسية بعنوان “آن أوان التغيير”، والتي نُشرت في مجلتي “الشيوعي” و”قضايا سودانية”. لم تكن الورقة مجرد نقد سياسي، بل كانت قطيعة معرفية مع أسس الحزب النظرية. ويمكن تلخيص حججها الرئيسية في ثلاث نقاط:

  1. نقد النظرية الماركسية: جادل عدلان بأن “المشروع الماركسي للتغيير الاجتماعي” قد انهار لأن فرضيته الأساسية الدور الثوري للطبقة العاملة (البروليتاريا) أبطلتها “ثورة العلم والتقنية”. فمع انتقال الإنتاجية من “اليد إلى الدماغ”، لم تعد البروليتاريا الصناعية هي القوة المنتجة الرئيسية، وبالتالي لم تعد حاملة لرسالة الخلاص الإنساني.

  2. نقد الفشل السياسي للحزب: رأى عدلان أن الحزب الشيوعي السوداني، بعد ما يقرب من نصف قرن، فشل في أن يصبح “قوة اجتماعية كبرى”. وظل نفوذه محصوراً في فئات ضيقة: “حزب للشماليين إزاء الجنوبيين، وللمدينة إزاء الريف، وللرجال إزاء المرأة”.

  3. نقد البنية التنظيمية: هاجم عدلان مبدأ “المركزية الديمقراطية” اللينيني، معتبراً أنه “عقّم الحياة الداخلية للحزب” بخنقه للخلاف، ومطالبته بالطاعة المطلقة، وتهميشه للمثقفين الذين كان يُنظر إليهم بشك دائم.

قوبلت هذه الأطروحة بعداء شديد من قيادة الحزب، مما جعل الإصلاح من الداخل مستحيلاً. وفي مؤتمر صحفي شهير في لندن عام 1994، أعلن الخاتم عدلان وثلاثة من رفاقه استقالتهم رسمياً من الحزب الشيوعي.

الجزء الثالث: بناء البديل الديمقراطي (1994 2005)

3.1. تأسيس حركة “حق”

بعد القطيعة، لم يعتزل عدلان العمل السياسي، بل شرع في بناء بديل. في عام 1996، أسس مع آخرين “حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق)”. كانت الحركة محاولة واعية لتجاوز الأطر الأيديولوجية القديمة وبناء تنظيم سياسي يهدف إلى تحقيق نهضة وطنية شاملة، وترسيخ الديمقراطية، وضمان العدالة الاجتماعية، وإقامة مجتمع مدني علماني يحترم التعددية وحقوق الإنسان. سرعان ما نمت الحركة وأصبح لها وجود محسوس، خاصة في الجامعات.

3.2. المنظّر في المنفى

قضى الخاتم عدلان سنواته الأخيرة لاجئاً سياسياً في المملكة المتحدة. خلال هذه الفترة، كرس نفسه للعمل النظري والكتابة، وأنجز عدداً من المؤلفات والترجمات. يُعد كتابه “ما المنفى، وما هو الوطن؟”، الذي نُشر بعد وفاته، وصيته الفكرية الأهم، وهو عبارة عن مجموعة من مقالاته وأبحاثه التي تعكس عمق تحليله ورؤيته لمستقبل السودان.

جدول 1: أبرز مؤلفات وترجمات الخاتم عدلان

3.3. شهادات حية: صورة المثقف

تصفه الشهادات العديدة بأنه كان “عميق الفكرة” ، و”مفكراً ذا فلسفة حياة متكاملة” ، وخطيباً مفوهاً قادراً على الإقناع. كما تؤكد هذه الشهادات على نزاهته والتزامه القوي بالحريات الشخصية وحق الأفراد في تقرير مصيرهم. ويُذكر له أنه وضع “إرثاً أخلاقياً حتى في الخلاف” ، مما يدل على رفعة أخلاقه في الممارسة السياسية.

الجزء الرابع: الإرث الدائم

توفي الخاتم عدلان في لندن في أبريل 2005 بعد صراع مع مرض السرطان. لكن تأثيره لم ينته برحيله، بل استمر من خلال أفكاره والمؤسسة التي تحمل اسمه ورسالته.

4.1. مركز الخاتم عدلان للاستنارة (KACE)

يُعد “مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية” (KACE) التجسيد المؤسسي لإرث عدلان الفكري. تتمثل رؤية المركز في العمل من أجل “سودان ديمقراطي وسلمي ومتعدد الثقافات حقاً، يتمتع فيه جميع الناس بالمساواة في الكرامة والحقوق والفرص”. يقوم المركز بأنشطة متنوعة تشمل:

  • نشر ثقافة حقوق الإنسان: من خلال المراقبة والتوثيق والمناصرة.

  • التنمية الثقافية: تنظيم قوافل ثقافية، ومعارض للكتاب والفن، وعروض سينمائية ومسرحية.

  • الحوار والنقاش العام: توفير مساحات للحوار البنّاء حول القضايا الشائكة مثل العنصرية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والإصلاح الثقافي والتعليمي.

  • الإنتاج المعرفي والتوثيقي: نشر كتب وإصدارات عدلان، وإنتاج أفلام وثائقية عن شخصيات سودانية مؤثرة.

4.2. التأثير على الخطاب السياسي

يكمن التأثير الأعمق للخاتم عدلان في تحريره لقطاع واسع من اليسار السوداني من قيود الماركسيةاللينينية الأرثوذكسية. لقد فتح الباب أمام “يسار جديد” في السودان، يسار يضع الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية في صميم مشروعه، بدلاً من دكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقي.

خاتمة: أسئلة لم تمت

تلخص مسيرة الخاتم عدلان رحلة جيل من المثقفين السودانيين الذين تشكل وعيهم في ظل الأيديولوجيات الكبرى للقرن العشرين، ثم وجدوا أنفسهم في مواجهة انهيارها. لم تكن قطيعته مع الحزب الشيوعي مجرد خلاف سياسي، بل كانت نتيجة لعملية نقد فكري شجاعة ومؤلمة.

إن إرثه لا يكمن فقط في حركة “حق” أو في مركز الاستنارة الذي يحمل اسمه، بل في الأسئلة الجوهرية التي طرحها ولا تزال تشغل الحيز العام في السودان: كيف يمكن بناء ديمقراطية حقيقية ومستدامة؟ ما هي علاقة الدين بالدولة؟ وكيف يمكن بناء هوية وطنية جامعة في بلد شديد التنوع؟ لقد رحل الخاتم عدلان، لكن جدله الفكري من أجل سودان جديد لا يزال مستمراً.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.