محمد بدوي
كشفت حرب أبريل السودانية بين الجيش والدعم السريع وحلفائهما من القوات أن إغفال نظام الحكم الفدرالي في إدارة دولة ما بعد الاستقلال، مهد الطريق لغياب دستور دائم للبلاد يعزز من حصانة الحكم الراشد ويقصي شهوة الانقلابات العسكرية بترسيخ مفهوم مهنية المؤسسات العسكرية بما فيها الجيش وقوميتها، الأمر الذي يفضي إلي خلق المساحة الطبيعية بين المؤسسات العسكرية، الانتماء السياسي كمعادلة ظلت تحفز قطع الطريق على الفترات الديمقراطية.
تراتبية عدم اتساق نظام إدارة الدولة بما يتوائم وطبيعة التكوين التاريخي والاجتماعي لدولة ما بعد الاستقلال، والسيولة الدستورية وقفزات المؤسسة العسكرية نحوالسلطة، راكمت لتراجع فكرة الدولة في الواقع العملي كانعكاس لتآكل فكرة المواطنة في أذهان السودانيين والسودانين/ات.
جاء الأثر الأكبر من سياسات النظام السابق “الحركة الإسلامية السودانية”، ولا سيما أن طبيعة بنية التنظيم التي حملت تناقضات داخلية ظهرت في مفاصلة العام ١٩٩٩، فضلا عن الأثر السالب لقطع الطريق على الفترة الديمقراطية الثالثة في فترة حساسة ظلت تشهد تطور مد الحقوق الفردية وحقوق الإنسان، حيث تمثل ذاك الثقل في تطابق فكرة التنظيم والدولة لدي الإسلاميين كنتيجة لظاهرة التمكين بأذرعه المختلفة، ولعل من أبرز نتائج ذلك هو انفصال/ استقلال دولة جنوب السودان في٢٠١١،لأن منظار التمكين مداه الطبيعي كفاءته اقصر من الإحاطة بفكرة الدولة وعناصرها وما يلتصق بها من سيادة ، من ناحية ثانية لعل تلك الحالة تكشف أسباب ارتقاء خطاب الكراهية بشكل مزعج خلال حرب ابريل ٢٠٢٣ فالتمكين يقابله إلغاء الأخر والسلطة المطلقة وانعدام المساحة الفاصلة بين دولاب الدولة والتنظيم والملكية المطلقة للموارد العامة، وربط بقاء الدولة وسيادتها بالبقاء في السلطة وفقا لشروط الاسلام السياسي..
بقاء التنظيمات العقائدية بالسلطة لفترات طويلة، تبرز صراعات السلطة داخلها، وهو ما حدث داخل الحركة الاسلامية السودانية واذرعها السياسية ولا سيما المؤتمر الوطني باعتباره الجسم الذي إنفرد بالحكم عقب ١٩٩٩.
نهج التنظيم في حسم المطالب السياسية والتنموية ومواجهتها بالقوة العسكرية، كما أعاد تطوير فكرة القوات الرديفة لأغراض الردع العسكري للمطالب المشروعة، لكن لم يتحسب التنظيم إلي دخول تلك القوات الرديفة ” المليشيات” إلي معادلة الصراع، ولاسيما منذ العام ٢٠١٣ حيث بدء الصراع يعمد منظاره نحو إثناء الرئيس السابق البشير من الترشح للانتخابات العمومية في ٢٠١٥، كانت مسياق التحالفات حينها بلغ مرحلة إدراج الموارد في العلاقة بين المؤتمر الوطني وقوات الدعم السريع في ذات العام.
مضي عام وفي ٢٠١٤ كانت عائدات صادرات الذهب المستخرج من دارفور لصالح القوات الرديفة قد بلغت ٥٤ مليون دولار بأسواق دبي فقط ، قبل انطلاق الانتخابات العامة في ٢٠١٥ بأشهر وفي خضم استقطاب التحالفات داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك، دفع بقوات الدعم السريع نحو خطوة ثانية فتحت له منفذ للعلاقات والخارجية والموارد، عبر القتال في اليمن، حيث كانت فترة الانتداب للقتال هي سته أشهر لكل ١٠ الف مقاتل من المفترض أن يتقاضى فيها الفرد مبلغ٣٠ الف دولارا أمريكيا، تقل بنسب بين ٠٦% للضباط و٠٨% للجنود بعد بعض الخصومات .
في ٢٠١٧ وعقب حادثة مدير مكاتب رئيس الجمهورية الفريق طه الحسين الذي سيذكر التاريخ رجلا جمع في غفلة من الاسلاميين وانشغالهم بصراعاته ارفع مناصب بالدولة وهي “مدير مكاتب رئيس الجمهورية بمعني أنه مخزن أسرار الدولة السياسية، وفريق بجهاز الامن بما يجعله ملما بكل المعلومات الامنية الداخلية والخارجية، وسفير بوزارة الخارجية حيث ملفات العلاقات مع الدول”، حاول البشير تجريد الدعم السريع من سلاحه عبر حملة جمع السلاح، الا أن المنشور الذي حوي الدعم السريع ضمن القوات المستهدف الغي واستعاض بمنشور آخر تحول فيه وضع الدعم السريع من مستهدف بجمع السلاح الي احدي القوات المكلفة بجمع السلاح، في محاولة لتأجيل المواجهة، وهنا تنبه الدعم السريع وبدء بتشييد قاعدة الزرق في بشمال دارفور، التي خزن فيها اول مجموعة من الدبابات التابعة للجيش والتي تم تحريكها من الخرطوم الي دارفور أثناء الحملة، وهي ذات الدبابات التي حركها الدعم السريع للخرطوم عقب بدء التوترات بينه والجيش في مطار مروي في ١١ أبريل ٢٠٢٣.
في ظل هذا الواقع ومع اندلاع حرب أبريل ٢٠٢٣،ظهرالطرفان الرئيسيان للحرب في استعداد اعلامي للحرب، الخطة الأولي للمراقب يكتشف انها وجهت للمدنيين بشقيهم، الديسمبريون او قوام الشارع المسنود بتطلعات ثورة ديسمبر ٢٠١٨،والسياسيين المساندين للتغيير السياسي من قوام الاحزاب المعارضة بما يشمل تحالف الحرية والتغيير، وعزز الاستهداف الاعلامي بالقمع الامني لاشتراكهما في المناداة بوقف الحرب الخطاب، الثاني خصص للإعلاميين المستقلين بالاستهداف والتخوين، فيما ظل خطاب من اطلق الرصاصة الاولي، سؤال قصد به حجب ومعادل لإقصاء خطاب وقف الحرب، والاستدراج المعلن نحو عزل المدنيين بفئاتهم المختلفة الوقوف في منصتهم الطبيعية كطرف اصيل في الحالة له الحق في التدخل سواء مطالبة اطراف الحرب بوقف القتال او مخاطبة المجتمع الدولي الذي بدء بالتدخل عبر منبر جده حينها.
تقلص المساحات الآمنة، والقمع الممنهج لفئات المدنيين من لجان مقاومة، أحزاب، نقابات ومهنيين الي اخرهم، جعل من خطاب ومساحة اطراف الحرب على وسائل الإعلام المختلفة يتسع انتشاره، فيما عادت تحالفات اطراف اتفاق سلام السودان ٢٠٢٠ ” اتفاق جوبا” تشهد تطور من ليس معنا فهو ضدنا، فتقسمت المسارات بين الاطراف، الأمر الذي تعمق بإقالة رئيس المجلس السيادي والقائد العام للقوات الفريق أول عبدالفتاح البرهان لبعض أعضاء المجلس السيادي والولاة من مناصبهم، ليسهل حسمهم للانضمام لاحقا إلي تحالف نيروبي الذي يتراسه قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، استناد الجيش على ردود الافعال السياسية مثل لقاء تقدم وقائد الدعم السريع باديس أبابا وشن خملة تخوين وبلاغات جنائية في مواجهة قادة تحالف الحرية والتغيير مهد لذات الدافع لحمل بعضهم اعضاء تحالف للانضمام الي تحالف نيروبي ايضا ، فيما بقي آخرون في تحالف صمود لن يشملهم ذات العداء من قبل قادة الجيش، الامر الذي يجعل التحليل يصل الي ان جهود الجيش في عزل الدعم السريع نتج عنه تمهيد المسار لكسبه تحالف نيروبي الذي يمثل خطوة سياسية في تعقيد الأزمة وخطوها نحو النموذج الليبي .
لعل النموذج الليبي الذي يمثل دولة جغرافية بسلطتين، نتاج لانسداد افق الحل الوطني، ومسايرة المجتمع الدولي للحالة لخلق سيطرة امنية، لانعكاس الحالة على استقرار شمال افريقيا والساحل، ويمثل عنصر الموارد عامل حاسم في خلق ذلك النموذج، فمنذ ٢٠١٤ بدأت ظاهرة استبدال النفط الليبي بسيارات مستخدمة تخلصت منها دول اهري، لتجد سوقا رائجا في السودان وبعض دول غرب افريقيا، اضافة الي اقتصاد المليشيات التي نشط في تكوينها قادة العشائر، اضافة الي القوات الأجنبية المقاتلة، بالنظر الي كل تلك العناصر نجدها في الواقع السوداني الحافر بالحافر، بل سيكون هنالك ارتباط في تكامل استمرار كلا النموذج الليبي والسوداني الذي يمضي في طور التشكل المشابه بعامل الحدود السودانية المفتوحة ولا سيما عقب سيطرة قوات الدعم السريع على المثلث الحدودي بين السودان ، ليبيا ومصر كاهم منفذ للإمداد الاستراتيجي .
عطفا على خطاب الكراهية وأثره، أنه يعمل على سلب التنوع السكاني قيمته وقوته الاضافية والدفع به نحو لتحمل فشل الرغبة السياسية في ادارة البلاد، هذا دون النظر إلي التحولات التي حدثت خلال الحرب والحروب السابقة في علاقات الانتاج، فالكثير من المجتمعات منذ نوفمبر ١٩٨٩ بداية تكوين الدفاع الشعبي مضت نحو تحولات من علاقات انتاجها الرئيسية سواء الزراعة او الرعي الي انشطة اخري أوسعها الانخراط في القوات الرديفة والحركات المسلحة الي التحولات الجوهرية التي شهدتها حرب أبريل ٢٠٢٣ والمتمثلة في الانخراط في الانتهاكات للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مما ينتج عنه تكوين ثروات غير مشروعة، لن يخرج استثمارها عن دائرة الانشطة غير المشروعة مثل تصنيع، وتهريب والتعامل في المخدرات. الاتجار بالبشر والتهريب عبر الحدود ” الجرائم العابرة للحدود” بما تشمل الاسلحة والمال المنقول القيم.
إن سحب الشرعية من أطراف الحرب لن يأتي الا بتنسيق صوت المدنيين السودانيين الراغبين في التغيير، وذلك للنهوض في وجه خطاب الكراهية الذي يمثل محركا لاستمرار الحرب، تعرية خطاب الكراهية يقطع نصف الطريق على روافع استمرار الحرب، فهذه الحرب ليست للكرامة، ليست لاستعادة الديمقراطية، وليست من أجل الانسان السوداني، انها اعلي مرحلة في تطور الصراعات السودانية، الدعوة لمؤتمر لمائدة مستديرة من القوي السياسية” بالضرورة عدا المؤتمر الوطني” والنسوية والنقابية والشبابية، والحركات المسلحة التي لم تنخرط في القتال لتوحيد المركز الوطني، والإدارات الأهلية التي حافظت على استقلاليتها، للخروج برؤي حول قضايا الحرب والسلام، من البديهي وقف الحرب في قمة اجندتها، ونظام الحكم الفدرالي كنموذج يمكنه هزيمة التقسيم للسلطة داخل الدولة بين أطراف الحرب، قضايا العدالة والاقتصاد والخدمات وغيرها، ووضعها كمنفستو امام الشعب السوداني، والشعوب المحبة للسودان واستقراره لدعمه، والمجتمعين الاقليمي والدولي قد يفتح الافق نحو مخرج وطني يقي الوطن كيد البارود، الاسلاميين، والمليشيات .
المصدر: صحيفة التغيير