اخبار السودان

المؤسسة العسكرية بين مطرقة الإصلاح وسندان التفكيك(١)

مجديعبدالقيومكنب

 

مجدي عبد القيوم(كنب)

*أن قوات الأمن لم تقدم تحذيرا فعالا يذكر وفتحت النار علي حشود كبيرة ولم تترك مخارج امنة لمدة تقترب من ١٢ ساعة وأنها أطلقت النار علي المرافق الطبية الميدانية ووضعت قناصة لاستهداف أي شخص يسعي للدخول أو الخروج من المستشفي الميداني في ميدان رابعة
ودخلت قوات الأمن من كل المداخل بالمدرعات والجرافات والقوات البرية والقناصة وذكر يعتصمون أنها أطلقت الغاز المدمع والذخيرة الحية فور دخولها *

*من تقرير هيومن رايتس ووتش حول فض اعتصام ميدان “رابعة”

*توطئة*

*لا جدال في أن تناول موضوع المؤسسة العسكرية ينبغي أن يرتكز علي معرفة نظرية شأنه في ذلك شأن أي موضوع علي درجة من التعقيد والحساسية ليس لجهة كونه تكتنفه محاذير تتصل بالأمن القومي بل معرفة مكانيزم حركة هذه المؤسسة*
*صحيح أنه وفي إطار تناول تاثير هذه المؤسسة يمكن طرح راي سياسي لكنه في مجال التقييم والتدقيق يظل رأيا سياسيا محضا إلا حالة كونه كان مدعوما بتخصصية وحرفية*
*ان الدعوة لإعادة بناء المؤسسة العسكرية في الأدب السياسي السوداني ليست جديدة لكنها اكتسبت زخما بعد ثورة ديسمبر وتحديدا بعد مجزرة فض الاعتصام
رفعت الثورة شعار “العسكر للثكنات والجنجويد يتحل”
الثابت الذي لا خلاف عليه حتي داخل هذه المؤسسة نفسها هو أن الحكم بمعني ممارسة السياسة بشكل مباشر ليس من شأن أو مهام المؤسسة العسكرية سواء كان ذلك بذرائع مدنية الحكم والدولة أو لطبيعة المؤسسة نفسها وفلسفة انشاءها كمؤسسة مناط بها حماية الدولة وحدودها وامنها القومي بالمعني المطلق لكلمة امن وتعرف أو تعتبر في العلوم السياسية “القوة الصلبة للدولة”
هذه الدعاوي تطرح أسئلة متعددة هل فعلا الهدف هو إصلاح المؤسسة نفسها ومعالجة ظاهرة تعدد الفصائل المسلحة بحيث تحتكر الدولة ادوات العنف أم أن هناك اهدافا اخري خفية ؟*
أن التجارب في المحيط ابتداء من تجربة تفكيك الجيش العراقي ثم الليبي ومؤخرا السوري الذي تم تدميره بواسطة اسرائيل تدميرا كاملا
أن هذه التجارب تنبيء بأن الهدف الحقيقي هو تكسير القوة الصلبة للدولة توطئة لتفكيكها وتقسيمها ولا نجد أي حرج أو خشية من الابتزاز السياسي ونقول بلا مواربة أو الاختباء خلف عبارات حمالة اوجه اننا ندعم ونساند الجيش لانه أحد اضلاع الدولة ويمثل القوة الصلبة المناط بها حمايتها
أننا وفي السياق ندعو لتشكيل تيار ثوري ديمقراطي داعم للدولة التي تتعرض لمؤامرة تستهدف كيانها ومساند للقوات المسلحة الوطنية والتصدي الهجمة الشرسة التي تتعرض لها.
الثوابت عندنا هي أنه لا ينبغي للجيش أن يحكم ولا نقول الا يتدخل في السياسة والفرق جوهري لأن مفهوم الأمن القومي يتداخل مع السياسة أن لم يكن أهم ركائزها وانه ينبغي أن يحتكر العنف ولا مجال لقبول أي فصائل أو تشكيلات مسلحة خارج سلطته
أن الحملة الشرسة والممنهجة التي تقودها وتروج لها دوائر الليبرالية بغية تفكيكها أمر مرفوض تماما ويجب أن نقول بوضوح أن اغفال العامل الخارجي في هذه الحرب رغما عن الشواهد وقرائن الأحوال والادلة المادية حول ضلوع اطراف خارجية إقليمية ودولية وتصوير الحرب أو تعريفها كصراع علي السلطة أو أنها لأجل استكمال ثورة ديسمبر وللحيلولة دون عودة الاسلاميين للسلطة .
في تقديرنا أن هذا ليس تبسيطا مخلا فحسب بل هو يندرج تحت محاولات تغبيش الوعي وان مساواة القوات المسلحة بالمليشيا أمر يجافي المنطق حتي وان لم تحتشد بالمرتزقة من كل انحاء المعمورة كما هو الحال

ان الحملة الممنهجة التي تستهدف تفكيك القوات المسلحة ارتكزت علي قضيتين اساسيتين هما التجريف الذي طال المؤسسة العسكرية جراء سياسات نظام الانقاذ واستمراء الجيش الانقضاض علي السلطة وتعويق المسار المدني الديمقراطي علاوة علي قضايا اخري كجريمة فض الاعتصام
نركز هنا علي قضايا اساسية وهي
*الانقلابات العسكرية ومزاعم تعويق المسار المدني الديمقراطي
*قضية أو جريمة فض الاعتصام
في البدء لا بد من تفنيد مزاعم اختطاف قرار المؤسسة العسكرية ونعني بذلك الانقلابات العسكرية التي تنظمها وتقوم بها الأحزاب السياسية او اي تيار سياسي أو فكري فالتاريخ السياسي في المنطقة العربية وفي السودان يقول بأن كل محاولات السيطرة علي المؤسسة العسكرية من قبل الأحزاب السياسية فشلت فشلا ذريعا وانتهت في “الدروة” أو بين جدران السجون ولا اعتقد ان تناول الأمر بوجهة نظر موضوعية يمكن أن يقود إلا غير هكذا نتيجة ابتدأء من تجربة ما عرف بجماعة علي صبري أيام عبد الناصر انتهاء بتجارب السودان في حقبه المختلفة
أن الحديث المكرور حول أن الجيش ظل ينقلب علي الأنظمة المدنية في السودان وبالتالي تسبب في إيقاف تقدم البلاد علي كل الأصعدة حديث غير دقيق ويجافي الحقيقة فالشاهد أن الأحزاب نفسها هي التي تقف خلف الانقلابات واستدعاء التاريخ يقول ذلك
لنستعرض تجارب الانقلابات في السودان منذ أن حمل عبد الله خليل السلطة ووضعها بين يدي الفريق ابراهيم عبود نكاية في خصومه السياسيين ولم تلبث أكتوبر إلا واعادت الكرة إلي الميدان الاصلي
ثم إن التاريخ يقول لنا أن تحالف اليسار الماركسي والعروبي حين احتدم وغي الصراع السياسي وخرقت الأحزاب التي تدعي الحرص علي الديمقراطية قواعد اللعبة ورفضت حتي حكم المحكمة الدستورية ايضا “دك اللعبة” في مايو ١٩٦٩ وكانت ثاني المحاولات تاريخيا في اختطاف قرار المؤسسة العسكرية والتي سرعان ما انتهت أيضا في ١٩٧١ في الدروة التي لم يسلم منها حتي بعض المدنيين وفي ذروة ذلك العنف والدماء التي اريقت والاشلاء والدموع كان هتاف الحزب الشيوعي ونشيده “لن ترتاح يا سفاح” ولم يتجاوز حدود شخصية نميري ولم يقل لنا التاريخ أن شيوعيا رأي في أحداث يوليو ١٩٧٦ او ما عرف اعلاميا بأحداث المرتزقة فرصة لتحطيم القوات المسلحة علي طريق تحطيم جهاز الدولة القديم!!!!!!
هذا قبل أن تستعيد الانتفاضة في ١٩٨٥ المسار المدني الديموقراطي الذي لم يصبر عليه الاسلاميين كثيرا فاطاحوا به فيما عرف بثورة الانقاذ وحاولوا كذلك ليس فحسب اختطاف قرار المؤسسة العسكرية بل اختطافها هي نفسها وتجريفها وتفكيكها لصالح مليشياتها الأمر الذي لم يرق للبعثيين الذين حاولوا مداواة الامر بالتي كانت هي الداء فيما عرف بانقلاب رمضان ١٩٩٠ بمزاعم انهم يرغبون في استعادة المسار المدني
واستمر اختطاف الاسلاميين للمؤسسة العسكرية قبل أن تقلب عليهم المؤسسة الطاولة و”تشتت الورق” أيضا في ١٩٩٩ فيما عرف بصراع القصر والمنشية واستمر الحال بما عليه من تناقضات تمور حتي تمكنت الجماهير من اقتلاع النظام ورميه في سلة المهملات في ثورة ديسمبر ٢٠١٩
ومن ثم انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ اتي بعد احتدام الصراع السياسي بين الأطراف المختلفة فدفع طراف منها القوات المسلحة إلي التدخل وطالبها بالانقلاب علي السلطة المدنية ورددت باحة القصر أشهر الشعارات في تلك الأيام “الليلة ما بنرجع إلا البيان يطلع”
اذن مسالة انقضاض الجيش علي السلطة وتعويق المسار الديمقراطي وان صح في شكله الاجرائي إلا أن جوهره هو أن الاحزاب هي التي تحاول حسم صراعاتها السياسية عبر تجيير مواقف المؤسسة العسكرية وبالتالي فان اعتبار الانقلابات العسكرية سببا للمطالبة باصلاحها هو نوع من التدليس والاحري أن توطن الاحزاب نفسها علي الاحتكام لقواعد اللعبة السياسية وعدم اللجوء لللجيش.
فيما يتصل بالجزئية المتعلقة بجريمة فض الاعتصام التي حملت القوي السياسية مسؤليتها السياسية للجيش باعتبار أنها حدثت في حرم مركز قيادته وتبعا اعتبرت ذلك احد اهم الاسباب التي توجب اصلاح المؤسسة العسكرية.
دون التقليل من فظاعة الجريمة البشعة إلا انها تندرج في عداد الجرائم السياسية والتي يتقاطع فيها السياسي مع القانوني.
استغلت الدوائر الدولية والإقليمية التي أدخلت أصابعها في الشأن الداخلي حادثة فض الاعتصام التي ليس لدينا أي شك في أن ذات هذه القوي هي التي نسجت خيوطها لتحقيق اغراض أساسية واخري ثانوية في سياق احداث سيناريو التغيير المتحكم فيه أو ما عرف بالهبوط الناعم حتي لا يصل منتهاه كثورة تحدث تغييرا اجتماعيا أو بالتعبير الاكثر شيوعا جذريا لذلك كان لابد من أنهاء “البؤرة الثورية” التي مثلت منصة لصياغة الشعارات الثورية القحة والتي ترتبط ايدولوجيا باليسار الماركسي من جانب واستخدامها لاحقا كذريعة لضرب وتفكيك القوات المسلحة من جانب آخر
صحيح أن جريمة فض الاعتصام جريمة نكراء هزت الضمير الإنساني علي امتداد العالم لكنها قطعا ليست حادثة فريدة في السياق السياسي لا في المحيط ولا علي مستوي العالم
هذه الحادثة لم تكن إلا جزءا من سيناريو التحكم في المشهد والحفاظ علي سخونة الشارع ولعل حادثة فض اعتصام ميدان “رابعة” غي ١٤ أغسطس ٢٠١٣ التي راح ضحيتها وفقا لتقارير رسمية نحوا من ٨١٣ ضحية وما يقارب الألف جريج تدلل علي ان الامر له علاقة بسيناريو الأحداث هنا وهناك الفارق الوحيد ان عملية فض اعتصام رابعة استهدفت الاسلاميين حين استهدف فض اعتصام القيادة المجموعات الثورية وهذا يؤكد أن المسالة ليست ذات صلة ببرنامج أنما هي عملية في السياق الكلي تهدف إلي الابقاء علي مناخ سياسي معين سماته الابرز الانقسام المجتمعي فشتان ما بين برنامج “النهصة” الذي طرحه الاسلاميين في مصر وميثاق قوي الحرية والتغيير وما تفرع منه من اهداف فهما علي طرفي نقيض وان تشابهت التفاصيل إلي حد التطابق في العمليتين من حيث العنف المفرط وادواته ولعل المقتطف الذي تصدر المقال يبين اوجه التطابق وربما لولا ورود كلمة “رابعة” لظن القاري للوهلة الاولي أن المعني” اعتصام القيادة” ونقتطف من تقرير لقناة الجزيرة ” وقال شاهد عيان للجزيرة “دخلنا الميدان حيث صوت الجرافات والرائحة الكريهة المنبعثة من الميدان نتيجة الحرائق والدماء والجثث المحترقة والجثث التي بدأت تتعفن إلي جانب بدء حرق كل الخيام المتبقية”
لا يحتاج المرء لكثير عناء ليلاحظ ملامح التشابه حتي في شكل العنف.
الأمر الأكثر إثارة في شأن هذا التماثل هو مسألة الزمن الذي استغرقه الاعتصام كمدي ففي حين تم فض اعتصام القيادة في ٣ يونيو ٢٠١٩ أي بعد شهرين من الثورة كذلك تم فض اعتصام ميدان رابعة الذي بدا في ٢٨ يوليو في ١٤ اغسطس ٢٠١٣ اي بعد شهرين ايضا ولا اعتقد ان هذه محض صدفة فمنطق التحليل لا يعرف الصدفة
إذن جريمة فض الاعتصام التي يتذرع بها التيار اللبرالي الذي يمثل طلائع الاستعمار واليسار اللبرالي الذي تربي في كنف الرأسمالية المتوحشة لا صلة لها بعقيدة الجيش القتالية كما يزعمون انما هي كما راينا في مقاربتها مع حادثة ميدان رابعة عملية لها اهدافها الاستراتيجية والتاكتيكية في سياق الاحداث إلا أن بلغت بهم المزاعم للقول ان العقيدة العسكرية لدي الجيشين السوداني والمصري تتماثل ايضا
لاحقا سرعان ما كشف التيار الذي ينادي باصلاح المؤسسة العسكرية عن اهدافه الحقيقية أو بالاحري اهداف رعاة المشروع الاستعماري وانتقل من الحديث عن (الاصلاح) إلي الدعوة لتكوين (جيش جديد)عماده الفصائل المسلحة وعندما تستخدم مصطلح جديد فهذا يعني الغاء أو حل أو تفكيك القديم
في المقال الثاني نتناول شعار إيقاف الحرب والغرض من طرح الشعار عند التيار اللبرالي ومدي صدقية تلك الدعوة ولماذا ينبغي ألا تتوقف الحرب الا بعد الانتصار الكاسح للجيش والهزيمة الساحقة للمليشيا التي تمثل آلية تنفيذ المشروع الاستعماري العسكرية.

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *