زهير عثمان حمد
منذ أن انبثق أولُ صوتٍ من إذاعة أم درمان عام 1940م، دخل السودان عهدًا جديدًا من التعبير الجمعي والحوار مع الذات والآخر. شكّلت تلك الإذاعة، في فجرها، حجرَ الزاوية في صرحٍ نسمّيه اليوم “القوة الناعمة السودانية”؛ تلك المقدرة الفريدة على التأثير في الداخل والخارج، عبر آفاق الثقافة والإعلام والفنون، بعيدًا عن أدوات الإكراه أو القسر.
كانت الإذاعة صوتَ الأمة النابض في سنوات التطلّع إلى الاستقلال، وحاضنةً رحبةً للفلكلور والألحان والتلاوات الربانية، وللمضامين التربوية والصحية. وسرعان ما تحوّلت إلى نافذةٍ كبرى للتنوير، تُعلي شأن الحسّ الوطني وتغذي الوعي العام، في حقبة كانت تتوق إلى مشروع نهضويٍّ يذلّل دربَ الحرية.
ومع تعاقب السنوات، تبلورت تجلياتُ هذه القوة الناعمة عبر وسائطَ شتّى: الصحافةُ النابهة، والشعرُ المتفجّر، والروايةُ المتأمّلة، والأغنيةُ الصادقة، والسينماُ الحالمة، والخطابُ الديني المستنير. حملت جميعُها رسائلَ إنسانيةً وسياسيةً واجتماعيةً، نَسجت صورةَ السودان في مرآة ذاته، وأمام أنظار العالم.
مظاهر القوة الناعمة السودانية إشعاع الإعلام ووهج الإبداع
سيمفونية التعدد والثراء الثقافي : من خلال برامج الإذاعة التي حاكت أطرافَ السودان، وإبداعات روّادٍ كالطيب صالح وعبد الله الطيب، ترسّخت صورةُ السودان كواحةٍ ثقافيةٍ تزخر بتنوّع الأعراق واللهجات والتقاليد، حيث ينصهر التعدّد في نسيجٍ اجتماعيٍّ متماسك.
صوت الوعي وصدى المقاومة السلمية من ثورة 1964م المجيدة إلى انتفاضة 2019م العظيمة، كان الإعلامُ السوداني والأغنيةُ الثائرة والشعرُ الحماسيُّ وقودًا للحراك الوطني. وشعاراتٌ كـ”حرية، سلام، عدالة” تجاوزت الحدود، لتصير أيقوناتٍ عالميةً لقوةٍ ناعمةٍ
تُجسّد تطلّعات شعبٍ أبيّ.
نسيج التسامح والإشعاع الصوفي : عبر ترانيم المديح وبرامج الإذاعة الدينية، وقصص الأولياء والصلحاء، تشكّلت صورةُ السودان كحاضنةٍ للتصوّف المعتدل، ناشرًا لواء التسامح الديني، ومنفتحًا على حوار الثقافات والأديان.
الانتماء الأفريقيّ الجذور والبوابة الثقافية في خطابات مثقفين عمالقةٍ أمثال جون قرنق وفرانسيس دينق، وفي احتفاء الإعلام بالفنون الأفريقية الأصيلة، برزت رسالةُ السودان كدولةٍ ذات جذورٍ أفريقيةٍ عميقة، وكجسرٍ ثقافيٍّ يصل العالمَ العربي بأفريقيا.
قيم الكرم والنبل الاجتماعي جسّدت الدراما والمقالات الأدبية وحتى النكتة الشعبية، صورةَ السودانيّ الإنسان : طيبَ القلب، جوّادَ الكف، صادقَ العهد. صورةٌ نادرةٌ، سعت القوى الناعمة لترسيخها في الوجدان العالمي.
دعوة العدالة في ظلّ المظلومية في خضمّ الحروب والعقوبات الدولية، رفعت القوى الناعمة السودانية لواءَ العدل، لا الشفقة. تجلّت هذه الرسالةُ الجليلة في صحافة المنفى ورواياته، كما في أعمال أدباءٍ كعبد العزيز بركة ساكن، حيث تحوّلت المعاناةُ
إلى صوتٍ يدوّي بالمطالبة بالحق.
الشتات إبداعٌ في مهبّ الريح : في عواصم العالم من لندن إلى باريس، ومن الدوحة إلى القاهرة، ولدت أصواتٌ سودانيةٌ جديدة، حاملةً همومَ الوطن بلغةٍ كونيةٍ وأسلوبٍ عالمي، مؤكدةً أن الإبداعَ لا يُقهر، وأنّ الروحَ السودانيةَ لا تعرف الحدود.
دعائم السلام والتعايش السامي : أكّدت القوى الناعمة، خاصةً في أعقاب الحرب الأهلية، على قيم المصالحة الوطنية واحترام التنوع وبناء وطنٍ يتّسع للجميع، كما تجلّى في كتاباتٍ فكريةٍ رصينةٍ كأعمال أبي القاسم حاج حمد والنور حمد،
وفي مبادرات الإعلاميين الشباب الواعدة.
التحديات الراهنة : حين يُهدَّد الوهج
رغم ما راكمته القوى الناعمة السودانية من مجدٍ ورمزية، إلا أنّها اليوم تقف أمام تحدياتٍ قاسية تهدّد استمراريتها وفاعليتها. فالحرب الداخلية المدمّرة تسبّبت في تدمير البنى التحتية للإعلام والثقافة، وشردت الصحافيين والفنانين والمبدعين. توقّفت دور النشر، وتحوّلت المسارح والمراكز الثقافية إلى أطلال، واختنق الفضاء العام بخطاب الكراهية والاستقطاب الحاد.
أضعفت الرقابة والقمع المتزايد دور الكلمة الحرة، وتراجعت جودة المحتوى الثقافي لصالح منصات سطحية أو منحازة. كما أن الشتات المتزايد، رغم ثرائه، خلق قطيعة بين الداخل والخارج، وجعل من الحفاظ على “نغمة سودانية موحّدة” أمرًا عسيرًا
في ظل تشتت المنابر وتضارب الرسائل.
إنّ القوى الناعمة، بطبيعتها، تحتاج إلى مناخٍ من الاستقرار، وحرية التعبير، ودعم المؤسسات الثقافية، وهي مقوّمات باتت شحيحة في السياق السوداني الحالي. غير أنّ التاريخ يُظهر أن الإبداع السوداني لم يمت حتى في أحلك الظروف، وأن جذوة الروح الثقافية ما تزال قادرةً على الاشتعال متى ما توافرت لها الحاضنة.
من استوديو أم درمان إلى ضمير الإنسانية
لقد كانت تلك الشرارةُ الأولى، انطلاقُ البثّ من إذاعة أم درمان عام 1940م، هي الميلادَ الحقيقيّ لمشروع القوة الناعمة السودانية. ومنذ ذلك الحين، ظلّ السودان على الرغم من صروف الأزمات ونكبات الحروب قادرًا على أن يقدّم للعالم صورةً ناصعةً
عن إنسانيته وثرائه الثقافي وسموّ أخلاقه.
ذلك الصوتُ الذي خرج ذاتَ يومٍ من استوديو صغيرٍ على ضفاف النيل، ها هو اليومَ يتردّد صداه في أرجاء المعمورة، بلغاتٍ متعددة، لكنه يحتفظ في أعماقه بـ”النبرة السودانية” الخالصة: نبرةً تنادي بالحبّ، وتنشد العدالة، وتتوق إلى العيش الكريم لكل بني الإنسان. إنه إرثٌ ثقافيٌّ وإنسانيٌّ مستمرّ، يثبت أن قوةَ الكلمة والجمال والفكر، أقوى أثرًا وأبقى ذكرًا.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة