القبيلة كرافعة سياسية.!!

إسماعيل عبدالله
القبيلة ككيان اجتماعي استغلها الساسة في تحقيق مآربهم المتعلقة بسباق الوصول لكرسي السلطة ، تماماً مثل استغلالهم للدين ، ونظام الحكم الإخواني في السودان ، يعتبر من أكثر الأنظمة استغلالاً للقبائل في تنفيذ أجنداته السياسية ، فمع بزوغ فجر حكمهم الكاذب طفقوا يضربون في الأرض شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً ، يستقطبون شيوخ ونظّار وعمد وسلاطين وملوك ومكوك القبائل ، حتى أن جهاز أمنهم المشؤوم قد خصّص شعبة كاملة متكاملة لغرض حشد القبائل في صف الحزب ، أسماها شعبة القبائل ، وما يعتبر جريمة في الإضرار بنسيج الحكم الأهلي في ولايات السودان المختلفة ، ذلك السلوك الشائه الذي سلكه دهاقنة الإخوان ، بخلقهم لبؤر التوتر داخل البيت الواحد للإدارة الأهلية المعيّنة ، فطفا على السطح الخلاف بين الشقيق وشقيقه ، وبين الابن وأبيه في إدارة شئون النظارة والعمودية والمشيخة ، فازداد التوتر القبلي بين القبائل خاصة في دارفور ، واندلعت الحروب القبلية الطاحنة فمات فيها خيرة الشباب ، بالأخص بعد ما تمردت شريحة من صفوة الإقليم ، أصبح ضرب القبائل بعضها ببعض منهاج للحكام الجدد الذين (أتوا لرفعة الدين) ، واستخدام القبيلة كرافعة سياسية لم يكن وليد النظام الاخواني وحده ، بيد أنه النظام الوحيد الذي ترعرعت فيه جرثومة الصراع القبلي ، فمن قبل درج الحزبان الكبيران الأمة والاتحادي على الاعتماد على طائفتين كبيرتين أحداهما تضم غالبية قبائل شرق السودان ، والأخرى ينتمي لها السواد الأعظم من قبائل غرب السودان ، ثم جاء دور الحركات المسلحة المتمردة على النظم المركزية المتعاقبة ، وعلى رأسها الحركة الشعبية ، فاعتمدت على القبيلة كحاضن شعبي ، ولا تنفصل عن ذلك حركات دارفور المسلحة المنطلقة من الأساس القبلي الصارخ في تكوينها.
في حقبة الاستعمار كانت القبيلة تمثل الوحدة الإدارية المتناغمة مع قمة الهرم الإداري ، الذي يجلس على رأسه الحاكم العام الأجنبي بخلاف الحقب المسماة بالوطنية ، التي خرجت فيها القبيلة عن الدور الاداري الصرف المنوط بها إلى الانحياز السياسي ، حتى وصلنا لمحصلة فاضحة يصرح فيها ناظر القبيلة بتضامنه الواضح مع الحزب السياسي المحدد ، أو ولاءه للنخبة الحاكمة المعيّنة ، ما فتح الباب واسعاً أمام عمليات شراء الذمم بين من يملك السلطة والمال وبعض ضعاف النفوس من الزعامات الأهلية ، ففي عهد الاستعمار لعبت القبيلة دوراً محورياً في تسهيل مهام المنظومة الإدارية للدولة ، وقللت العبء الإداري الثقيل من كاهل الحاكم العام ، خلافاً لحال الحكومات التي رأسها (أولاد البلد) ، التي أصبح فيها السياسي يفاخر بقبيلته ابتداءً من لقبه المزيل لتوقيعه في خطابه الرسمي، فلكم سمعنا بفلان الجعلي وعثمان الرزيقي تماهياً مع مفاخر القبيلة ، وتفاخراً بموروثها التاريخي واستغلالاً له في صناعة البرستيدج الشخصي ، ومما يؤسف له حقاً أنه وبعد تفجّر ثورة ديسمبر المجيدة عاد الزخم القبلي اسماً ورسماً ، ليرسل رسالة بليغة تؤكد تجذّر داء القبيلة في أنفس الناس ، فحدث أن تكونت حكومة الانتقال من أجسام بعضها مسلح وآخر مدني ، جميعها اعتمد على القبيلة كرافعة سياسية للوصول للقصر ، ثم اشتعلت الحرب فخرج شيطان القبيلة الذي كان يراوح مكانه داخل أقنعة النفاق السياسي الذي مارسته النخبة ، فاصطف الشيوعي والاخواني والبعثي والجمهوري مع الفصيل المختطف لقرار الدولة، وانخرط نفس المثقف العضوي والسياسي النخبوي في صف الفصيل الآخر ، فاتضحت ملامح اللوحة التي كانت مختبئة خلف الصمت الخجول ، وكشفت الحقيقة عن ملامح وجهها القاسي.
والآن الناس يبحثون عن ذلك المُصلِح الذي يناشد الجميع ويقول الذي منكم بغير خطيئة فليرمها بحجر ، والخطيئة الكبرى هي استمرار الصفوة في جعل القبيلة وسيلة لبلوغ الغايات السلطوية ، والجميع قد ساهم في هذا الخطأ التاريخي ، أحزاب سياسية وحركات مسلحة ، والخروج من مأزق هذا النفق المظلم هو الالتفاف حول عقد سياسي يخرج القبيلة من منضدة الساسة ، ليضعها في موقعها الصحيح الجدير بها، وهو دورها الاجتماعي وإمساكها للحمة الوطنية ، وضبط إجراءات تسجيل الأحزاب والتنظيمات السياسية ، بحيث لا يعتمد تسجيل الحزب الذي ينطلق من الخلفيتين القبلية والدينية ، فالقبيلة والكنيسة والمسجد يجب أن لا تستغل في تحشيد الناخبين ، لكونها مؤسسات اجتماعية ودينية صرفة ، وقد هلكت أمم من قبل عصور النهضة الصناعية بسلوك ساستها وأمراءها الذين أدخلوا الكنيسة في دهاليز السياسة ، ففسدت المجتمعات وحكمها أناس لا يقيمون للجهد البشري وزن ، فغرقوا في غياهب جب الغيبيات ، وها نحن اليوم ومن بعد قرون من نهوض المجتمعات الأوروبية من قمقم تخلف المنطلقات العرقية والدينية والنوع الاجتماعي ، فنعود لنقع في ذات الفخ الذي خرجت منه شعوب القارة العجوز بعد عصر الاستنارة ، فجعلنا من القبيلة رافعة سياسية لكل عاطل موهبة ، وسند لكل صاحب طموح غير مشروع للسطو على سلطة الشعب ، ودفعنا ثمناً باهظاً جراء التغول القبلي والعرقي ، الذي أنتج أطول حرب بالقارة ، وقسّم البلاد ، وعزم على تقسيم ما تبقى منها لزرائب اجتماعية ضعيفة لا تقوى على حراسة نفسها، إن لم يتدارك العقلاء عواقب سوء مسلك الحمقى ، الذين وجدوا أنفسهم يملكون قرار الدولة في غفلة من غفلات الزمن الأغبر.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة