الفيتو الروسي على مشروع قرار مجلس الأمن عن السودان: هل ربح البيع؟
كانت واقعة الفيتو الروسي ضد مشروع القرار البريطاني السيراليوني لحماية المدنيين في جلسة مجلس الأمن الدولي الإثنين الماضي الشغل الشاغل في الخطاب السوداني خلال الأسبوع الجاري كما هو متوقع. واصطفت مكونات تنسيقية القوى التقدمية المدنية “تقدم” وخصومها الإسلاميون اصطفافهم المعروف حول الواقعة في حربهم التي تجري من وراء الحرب في الميدان بين القوات المسلحة وقوات “الدعم السريع”. وهي معركة تاريخية منقولة من مدارج السياسة في المدارس والجامعات، ومن بدائع صنعها في يومنا هذا أن تخلصت هذه السياسة من الأطراف المتحاربة في ساحة الوغى نفسها لكي تخلص لها حربها القديمة. فتخلصت “تقدم” من الجيش بدمغه بأنه “ميليشيات الفلول”، ومن الجانب الآخر، تخلص الإسلاميون من “الدعم السريع” بأنها “ميليشيات القحاطة”، فلا تحلو المعركة بينهما إن عكرتها أطراف أخرى.
وحجاج الجماعتين عكارة لا نريد لها، بعد العلم بها، أن تحول بيننا وبين أن نثمن مشروع القرار في حد ذاته حتى بعد فوات الأوان بسقوطه بالفيتو الروسي.
شراكة حقيقية؟
رأى الإسلاميون، “الفلول” في لغة خصومهم في “تقدم”، في الفيتو الروسي بداية شراكة حقيقية مع روسيا تمنح الدولة السودانية حرية بناء نظامها السياسي وفق رؤية سودانية لا تخضع لابتزاز الأجندتين الإقليمية والعالمية. فقال الصحافي زين العابدين صالح إن “الفيتو دفع قضية الحكم وشرعيته في السودان إلى المقدمة ومثّل “تحولاً جديداً في المسار الاستراتيجي العالمي للسودان، بعيداً مما فرضته القوى الاستعمارية الهادفة إلى تفتيت البلاد”. وارتفع مقدار روسيا بالفيتو في أعين “الفلول”، فقال أحدهم إنها كسبت به الاحترام بوصفها “الدولة التي تناهض هيمنة الدول القوية وتدخلها في شؤون الدول الأخرى”.
وعاد بعضهم إلى تاريخ بريطانيا الاستعماري في السودان وغير السودان. فذكّر الصحافي راشد عبدالرحيم بخطة “سايكس بيكو” بعد الحرب العالمية الثانية التي جزأت البلاد العربية وزرعت إسرائيل في المنطقة، ورأى أن من وراء المشروع خطة مبيتة من القرن الـ19 لتقسيم السودان إلى دويلات تلقى قبول “تقدم” وتعاونها. ووصف القيادي في الحركة الإسلامية أمين حسن عمر مشروع القرار المُفْحَم (vetoed) بأنه بمثابة إعادة تأهيل للميليشيات عسكرياً وسياسياً وهو ما سعت إلى تحقيقه بريطانيا لأعوام وهو كذلك لتأهيل حاضنتها “تقدم” لتقوم بدور قيادي كممثل للمجتمع المدني. فكان أن وقع اختيار بريطانيا على “الدعم السريع” لتكون أداة المشروع العسكرية، في حين عينت “تقدم” لدور الوكيل الرسمي المدني لإنفاذه.
واتفق معه الصحافي زين العابدين صالح في أن الدعوة إلى حماية المدنيين هي مكر بريطاني لإيجاد دور سياسي للميليشيات وجناحها السياسي “تقدم” في المستقبل.
وقال راشد عبدالرحيم أن الفيتو خسّر “تقدم” ما كانت تنتظره من قدوم قوات دولية إلى السودان تمتطيها للحكم بغير إرادة الشعب.
وبدا من تعليقات “الفلول” أنهم كمن كان ينتظر من قرار مجلس الأمن، لو أجيز بغير نصه المفحم، أن يحمل عنهم لا عبء إدانة “الدعم السريع” الواضحة فحسب، بل إلزامها أيضاً ما يرون أن تلتزمه. فكأنهم يقولون، “بانتهاكاتهم تعرفونهم فما جدوى اللجاج؟”. فقال والي دارفور أركو مني مناوي إن العالم يعرف من ينتهك حرمات المدنيين وحقوقهم. فالتذرع بحماية المدنيين في مشروع القرار البريطاني، في قوله، كلمة حق أريد بها باطل. كما استنكر أمين حسن عمر الدعوة إلى إيقاف إطلاق النار هكذا “من دون شروط تضمن إعادة الحقوق إلى أهلها ومحاسبة الجناة على جرائمهم”.
“تقدم” منقسمة
أما “تقدم”، فانقسمت حيال الفيتو الروسي إلى فريقين، فجعل الفريق الأول من تبخيس روسيا همه الأكبر، بينما نبه الفريق الثاني إلى ما خسرته الحكومة السودانية من جراء الفيتو. فأشاد بيان من “تقدم” بمسعى بريطانيا وسيراليون ومن صوتوا لمشروع قرارهما لحماية المدنيين في السودان من الحرب، وعبّر البيان عن الامتنان للاهتمام بالمسألة السودانية على هذا المستوى الأممي البليغ الذي شذت عنه روسيا. وحمل البيان على الفيتو الذي وفر “غطاء لاستمرار المذابح في السودان” معوقاً الجهود للتصدي لأكبر مأساة إنسانية في العالم”، علاوة على أن الفيتو، في قول “تقدم”، كشف عن كذب ادعاء روسيا بالانحياز إلى قضايا “الجنوب”.
أما الصحافي صلاح جلال، فعدّ الفيتو الروسي “بلطجة دولية” كشفت عن العزلة التي اكتنفت روسيا بعد اجتياحها المتعثر لأوكرانيا. وهي، “الدب الروسي”، مع ذلك المستفيدة من حرب السودان، فتشتري الذهب من الطرفين وتبيعهما السلاح، ودعا إلى تحالف للراغبين في إسعاف المدنيين في السودان يتخطى مجلس الأمن الذي تتربص فيه روسيا بالفيتو، ووصف روسيا بالدولة “الفاسدة المتسلطة التي تعود بشعبها لتأسيس شمولية أوتوقراطية ولا تقدم أي نموذج لقدوة أو إلهام لشعوب العالم الأخرى”.
وعرض المحامي حاتم الياس في هذا السياق لمبدأ أسيشون (1950)، وزير الخارجية الأميركية الذي أذن للجمعية العمومية للأمم المتحدة باتخاذ قرارات تتعلق بالسلم والأمن الدوليين متى عجز مجلس الأمن عن القيام بدوره بسبب الفيتو الذي أكثر الاتحاد السوفياتي استخدامه آنذاك، وجاء حاتم بهذه الخلفية ليقول لروسيا أن “تبلّ فيتوها وتشربه” لأن للمجتمع الدولي سكة أخرى لتمرير ما يراه في شأن السودان وغير السودان.
وبرأي الصحافية صباح أن الفيتو الروسي “ظل ضحى زائلاً لا محالة حتى لا يعول عليه البرهان في قابل الأيام. فروسيا استخدمت الفيتو لإحراج الرئيس بايدن. فعليه لم يكُن الفيتو أكثر من نزال دبلوماسي بين روسيا وأميركا كان السودان ساحة عراكه. فسلطان الفيتو الروسي لن يدوم لأكثر من 40 يوماً يترك بعدها الرئيس بايدن الساحة ليحتلها الرئيس المنتخب دونالد ترمب الذي لن يعادي روسيا معاداة بايدن. وتبلّ موسكو فيتوها وتشربه”.
أما الفريق الآخر من “تقدم”، فقال إن الحكومة خسرت بالفيتو، إذ إن سقوط مشروع القرار جنّب “الدعم السريع” إدانة مباشرة لجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتطهير عرقي وعنف جنسي جاءت في مشروع القرار ربما هي الأولى عن “الدعم السريع” في أدبيات المجتمع الدولي. ونبهوا بتوفيق كبير إن من شأن هذه الإدانة المباشرة لـ”الدعم السريع” أن تبقى نقطة سوداء في سجل “الدعم” تبني عليها الحكومة في مسعاها لاستصدار إعلان دولي أن “الدعم” مؤسسة إرهابية.
ملابسات نشوء القرار
وانتهى خطاب الفيتو بين الجماعتين إلى محب لروسيا ومبغض لها وراحت مادة مشروع القرار نفسه بين الأرجل.
أما مَن توسع في خسارتنا بالفيتو الروسي (من غير أن يسميها هكذا) فهو الدبلوماسي المخضرم الضليع عبدالمحمود عبدالحليم، فجاء بملابسات نشوء مشروع القرار نفسه. وهي عنده مزيج مما يمكن تسميته “قطعة الرأس” الدولية حيال الحرب في السودان، وتلمس المجتمع الدولي الواقعية في التعاطي مع هذه الحرب. ومربط الفرس في هذه الواقعية عبارة الأمين العام للأمم المتحدة في الـ21 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي التي اعترف فيها بأن الظروف في الحاضر غير ملائمة لنجاح عملية ابتعاث قوة من الأمم المتحدة لحماية المدنيين في السودان. فاستبعدت العبارة أي تدخل عسكري أممي مثل الخطة “ب” التي لوّح له بها المبعوث الأميركي الخاص توم بيرييلو وعنى بها التدخل العسكري الأممي. ومن باب الواقعية هذه كان لقاء “إنقاذ الأرواح” في جنيف في يوليو (تموز) الماضي الذي أضربت حكومة السودان عن حضوره.
ومن جهة أخرى، جاء مشروع القرار الذي أفحمه الفيتو بما أسماه السفير “المسارات الهادئة” من المجتمع الإقليمي مع حكومة السودان. فمن ذلك، زيارة وفد من مجلس السلم والأمن الأفريقي وعقده لحوار مع الحكومة بغية فتح مكتب للاتحاد الأفريقي في السودان بعد تجميد الاتحاد لعضويته منذ ثورة عام 2018.
كذلك جددت منظمة “الإيقاد” تواصلها مع السودان بعد خروجه عليها في يناير (كانون الثاني) الماضي.
ورأى السفير في المشروع، من فوق هذه المسارات الناعمة، رداً لاعتبار الدولة السودانية بتسمية مجلس السيادة الانتقالي كجهة يشاورها الأمين العام للأمم المتحدة خلال تطبيق القرار متى أجيز.
كما ميز السفير مشروع القرار بأنه دان “الدعم السريع” بصورة مباشرة ومحددة بدلاً من اقتسام الإدانة مع القوات المسلحة في دارج العادة قبلاً.
وهدد كذلك بإنزال العقوبة على الدول التي تتدخل في الحرب بالسلاح وغيره، وكسبت حكومة السودان هذه المزايا خلال عملية تحرير المشروع (ويسمى “النص الأزرق”)، فمثلاً كان المشروع سمى طرف الحكومة “السلطات السودانية”، فألحّت كل من روسيا والصين والجزائر وموزمبيق على استبدالها بـ”مجلس السيادة الانتقالي”. ودان المشروع في نسخته الأصلية القصف من بعيد، والمراد به قصف سلاح الطيران، فأزيل بفضل إلحاح الدول ذاتها.
ماذا لو؟
ليس مهماً هنا ما أثير إن كان الفيتو الروسي مما أرادت روسيا به تعزيز السودان كما تقول، أو مما أهلّ لغيره. ولربما لم يغير مشروع القرار لو فاز، كثيراً في حال الحرب ولا حال المدنيين. ولكن من الصعب ألا يتعرف المرء إلى كسبه الذي انتزعه من فك أمم تأخرت كثيراً في أخذ شرعية الدولة السودانية بما هي أهل له. فلقد نعى حتى خصم الحكومة من “تقدم” كيف فرّط السودان في مثل ذلك القرار الذي لو أجيز لعزز حجته في دعوته إلى أن يعلن العالم “الدعم السريع” منظمة إرهابية. فقد جاء القرار، لو خلا من كل شيء آخر، بكل العناصر التي تكتمل بها تلك التهمة.
المصدر: صحيفة الراكوبة