الفنان شريف الفحيل وامتحان الروح دفاع عن موهبة سودانية في وجه العاصفة
خالد كودي
في لحظات الشك العميق والاضطراب الداخلي، يظهر لنا الفنان الحقيقي بكل ما يحمله من هشاشة نبيلة، تلك الهشاشة التي لا تنبع من ضعف في الإرادة أو قصور في الصلابة، بل من رهافة إنسانية استثنائية، وقدرة كثيفة على الإحساس والتفاعل والتأثر بما يدور حوله من أحداث وتحولات. الفنان لا يقف على هامش الحياة متفرجا، بل هو في قلبها النابض، يستقبل ضرباتها كما يستقبل إشراقاتها، يتماهى مع مآسي الناس وأفراحهم، ويجعل من ذاته مرآة عميقة لانفعالات الجماعة بكل خيرها وقبحها. ومن هذا الباب نكتب هذه الكلمات دعمًا، واعترافًا، ومواساةً للفنان السوداني الشاب الرقيق والموهوب شريف الفحيل، الذي يمرّ، على ما يبدو، بمرحلة من الضغط النفسي والاضطراب الداخلي.
إن ما يمرّ به شريف ليس بدعًا من مسيرة الفنانين والفن، ولا حدثًا شاذًا في سيرة الفنانين الوهوبين، بل هو، في جوهره، أحد الأثمان الوجودية التي يدفعها المبدع الحقيقي مقابل صدقه الفني، وعمقه العاطفي، وانغماسه الكامل في تجربة الإبداع. فالفن لا يولد في قاعات معقّمة من الألم، بل يُصنع من تربة التجربة الحيّة، ومن الجراح المفتوحة، ومن اختبارات الذات في تماسّها المباشر مع قسوة الواقع وتقلباته. إن الفنان الذي لا يختلّ توازنه أحيانًا، هو غالبًا من لم يلامس جوهر الإبداع الحقيقي بعد
في هذا الوقت، حيث تتكاثف الأزمات السودانية وتتراكم الضغوط النفسية والسياسية والاجتماعية على كاهل الأفراد، تبرز هشاشة الكائن المبدع بوصفها تعبيرًا على الالتقاط، والإنصات، والإفصاح عن المقموع. ليست هذه الهشاشة نقصًا، بل هي فضيلة نادرة، وطاقة خارقة على إدراك ما لا يُرى، والنطق بما لا يُقال.
الفنان شريف الفحيل، بصوته الدافئ، وإحساسه الجميل، وانغماسه الكامل في عالم الفن، لا يعاني فقط من أزمة نفسية عابرة، بل يعكس، من خلال قلقه وتعبه وتردده، أزمة أوسع وأكثر تعقيدًا: أزمة مجتمع لا يُحسن الإصغاء للفن، ولا يعرف كيف يواسي فنانيه عندما تشتدّ عليهم العواصف… ولايقدرهم ياعيب الشؤم…
إن الهجوم والسخرية والاستهداف الذي يتعرض له الفحيل عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليس حالة فردية معزولة، بل هو تمظهر صارخ لثقافة طويلة من الإنهاك النفسي والمعنوي الذي يطال الفنانين في البيئات الفقيرة التي لم تتصالح بعد مع الإبداع بوصفه قيمة مركزية من قيم الوجود الإنساني. هذا السلوك العدواني لا يعكس فقط أزمة الذوق العام، بل أيضًا مرضًا جمعيًا في المجتمعات التي تُهين وتزدري الجمال، وتُقصي الرقة، وتكافئ الخواء.
تُجمع الأدبيات النفسية في علم الإبداع على أن الفنان الموهوب غالبًا ما يكون ذا حساسية نفسية فائقة، وأن هذه الحساسية ليست هامشًا، بل جوهرًا في العملية الإبداعية. الباحثون في علم النفس الإبداعي، يؤكدون أن ما يُميز الفنان المبدع هو تلك القدرة على التفاعل مع التجربة الإنسانية، وهي ميزة تجعل الفنان أكثر عرضة للأذى النفسي، خاصة عندما يكون في محيط اجتماعي مأزوم حقود، خاوي لا يفهم هذه الدينامية، ولا يعترف بها.
بل إن هذه الحساسية العالية، رغم أنها الشرط الأول للتفوق الفني والقدرة على التعبير الخلاق، هي ما يجعل الفنان مهددًا بالخذلان، وبالانهيار، وربما بالانسحاب نحو العزلة، حين يُخذل من قبل المجتمع الذي من المفترض أن يكون ظهيرًا له وسندًا. ومجتمعنا السوداني، للأسف، يعاني من فجوة مزمنة بين ما يدّعيه من تقدير للفن، وما يمارسه فعليًا من تحرش ، وإقصاء، واستسهالٍ لتشويه المبدعين عند أول منعطف.
في ضوء هذا كله، يصبح من الضروري، بل من الواجب الأخلاقي والثقافي، أن نقف مع الفنان شريف الفحيل، لا فقط كمحبي فن، بل كمواطنين في حاجة إلى من يُضيء أرواحهم في زمن الظلام. علينا أن نقول، بوضوح، إن هذه الهشاشة النبيلة ليست عيبًا، وإن الأزمة النفسية التي يمر بها شريف هي جزء من التجربة الكبرى للفن، وأننا من حيث ندري أو لا ندري مسؤولون عن ما يتعرض له، بصمتنا، وبسذاجة تعليقاتنا، وبغياب منظومات الدعم والرعاية النفسية للفنانين في بلادنا.
الفنان، أيًا كان اسمه ونمط مايقدمه، هو طاقة وجودية ثمينة، وإذا لم نحسن الاعتناء بهذه الطاقة، فإننا نخسر أكثر من صوت جميل أو لحن رقيق او تجربة حياتية… نخسر قطعة من ذواتنا نحن.
شريف الفحيل ليس وحده:
عن حساسية الفنان، وآلام الإبداع، وسطوة الحقد المعاصر:
إن تجربة الفنان الشاب شريف الفحيل، بما تحمله من توتر نفسي وضغط اجتماعي وتحامل علني، ليست حادثة معزولة ولا حالة فردية. بل هي فصلٌ جديد من قصة طويلة ومتشعبة، قصة تتكرر عبر الأجيال والمجتمعات، حيث يقف الفنان، بصوته وروحه وأعصابه، مكشوفًا أمام جمهور لا يغفر، وبيئة لا ترحم، ونظام اجتماعي قلّما يقدّر الرهافة بوصفها قوة وانسانية.
الحساسية الإبداعية: بين النعمة والنقمة:
تشير دراسات علم النفس الفني إلى أن الفنانين، بمن فيهم الموسيقيين والمغنين، يتمتعون بدرجات عالية من الحساسية الانفعالية (emotional reactivity)
والاستبصار الذاتي (selfreflectivity)
تفوق ما هو موجود لدى غيرهم من أصحاب المهن الإبداعية أو التقنية. هذا ما تؤكده الباحثة جوليا بيرد،
في دراستها عام 2010، حيث أوضحت أن الفنانين يواجهون معدلات أعلى من الاضطرابات المزاجية، بما في ذلك القلق والاكتئاب، بسبب تداخل حدود الذات مع العالم المحيط، وعدم وجود حواجز نفسية كافية تفصل بين الداخل والخارج. الفن، كما كتبت فرجينيا وولف، “يتطلب من الروح أن تكون مكشوفة دومًا، بلا درع، بلا تحصين”، وهذا بحد ذاته مكمن الجمال والخطر في آن.
الفنان شريف الفحيل ليس إنسانًا هشًا أو ضعيفًا كما قد يظن البعض، بل هو صاحب حساسية حادة نابعة من العمق، ومن القدرة على الإنصات لما لا يُقال والتأثر به كما هو واضح، هو مرآة لذاكرة جيل، وجزء من مشهد سوداني يحاول أن يعيد الاعتبار للحياة في زمن الخراب والشرور. لذلك فإن ما يواجهه من مضايقات، وسخرية، وتحقير ممن يسعون للتسلق على أكتاف الموهوبين، هو نتيجة طبيعية لبنية اجتماعية مريضة، لا تحتمل الجمال والاختلاف ولا تطيق الرهافة.
فنانون في مرمى الحقد: تجارب عالمية:
ما يمر به شريف الفحيل يعيد إلى الأذهان محن فنانين كبار واجهوا استهدافًا قاسيًا بسبب فرادتهم.
المغنية الأميركية لورين (Lauryn Hill)
بعد أن وصلت إلى ذروة المجد وحصلت علي جوائز الغرامي، انسحبت إلى عزلة طويلة، منهكة من ضغوط
المجتمع، وسُمّ الجمهور، وتسلط الإعلام. في مقابلات لاحقة، صرّحت بأن ما دمّر صحتها النفسية لم يكن الفن بحد ذاته، بل “نفاق الناس الذين أرادوا منها أن تكون شخصًا غير ما هي عليه”، ووصفت ذلك بأنه نوع من التحرّش المستمر بالشخصية الفنية والذات الإنسانية.
أما أسطورة الجاز بيلي هوليداي
(Billie Holiday)
فكانت ضحية مزدوجة: قمع الدولة، وهجوم الإعلام، بسبب غنائها. رغم عظمة صوتها وتاريخها، عاشت في وحدة واكتئاب مزمن، ولم يُنصفها المجتمع إلا بعد وفاتها، حين أدرك أن ألمها كان ثمنًا لحريتها.
التحرش المعنوي بالفنانين: سلوك مرضي:
الكثير من الفنانين الشباب، خصوصًا أولئك الذين لم تتوفر لهم بعد شبكات دعم نفسي أو مهني، يصبحون عرضة لنوعٍ من العنف الرمزي يمكن تسميته بـ”التحرش المعنوي”. ويتجلى هذا التحرش في صور متعددة: عدوانية لفظية، تسفيه متكرر، تحقير علني، وهجوم شخصي شرير يستهدف أسلوب حياتهم أو خياراتهم الفنية.
لكن هؤلاء المهاجمين لا يمارسون نقدًا موضوعيًا، بل يعكسون فشلهم الشخصي وغياب الموهبة لديهم. هم يكرهون في الفنان حريته، وتفرّده، وقدرته على التعبير عن ذاته، وهي أمور يعجزون عن تحقيقها. وقد عبّر جيمس بالدوين عن هذه الظاهرة بوضوح حين قال: “الحاقدون عبيد، لأنهم لا يعرفون كيف يكون الإنسان حرًّا في ذاته.”
أما في السياق السوداني، فإن الضغط يتضاعف. إذ يُنظر إلى الفن، في بعض الأوساط، بوصفه خروجًا عن الأعراف، ويُعامَل الفنان بريبة. وهذا ما يجعل الفنان يواجه ضغوطًا مزدوجة: من مجتمع لا يعترف بشرعية الفن كمسار حياة، ومن نظام ثقافي يرفض التعبير الفردي ويستهدف كل من يتميز أو يغرد خارج السرب.
وعلم النفس يؤكد هذه المعاناة. فقد أظهرت دراسات متعددة أن العاملين في المهن الإبداعية، وخاصة الفنانين، أكثر عرضة للإصابة باضطرابات القلق العام، نتيجة لتراكم الضغوط النفسية المرتبطة بالتوقعات المجتمعية، والخوف من الفشل، والضغط الدائم للإنتاج والاستمرارية. وبيّن عدد من الباحثين أن هذا القلق ليس عارضًا، بل بنية دائمة ترافق الحياة الفنية، وتشكل جزءًا من معاناة الفنان اليومية.
وسائل التواصل الاجتماعي: السمّ البطيء للمبدعين:
في ظل هذا، تأتي وسائل التواصل الاجتماعي لتزيد الطين بلّة. فقد وجدت دراسة شهيرة أجرتها جامعة بنسلفانيا (2018) أن تقليص استخدام هذه الوسائط إلى 30 دقيقة يوميًا يساهم في تقليل مستويات الاكتئاب والقلق، خاصة لدى الفنانين والشباب. وفي دراسة منشورة في
Psychology of Popular Media Culture (2020)
ثبت أن الفنانين الذين يتعرضون لتعليقات سلبية متكررة يُظهرون نشاطًا دماغيًا مشابهًا لنشاط الدماغ عند الشعور بالألم الجسدي، مما يدل على تأثيرها العميق في الجهاز العصبي.
رسالة إلى الفنان شريف الفحيل: من القلب إلى القلب… دفاع عن رهافة لا تُقهر:
أخي الفنان شريف الفحيل،
في هذا الزمن الفظّ، حيث يعلو الصراخ وتخفت النغمة، قد تبدو الحساسية عبئاً، ويبدو الانسان الرقيق غريباً في مجتمعه. لكن الحقيقة أعمق من المشهد، وأبقى من الضجيج. فأنت لست وحدك، ولست غريبًا. بل أنت امتداد لجيلٍ من الفنانين الذين حرموا من الحواضن التي تقدر الفن، ودفعوا ثمن الجمال من أعصابهم ونفوسهم.
من حيث تقف الآن، قد تشعر أن المسافة تضيق، وأن الهواء لم يعد كافياً للتنفس. قد يبدو لك أن المحبة غابت، وأن الصدق لا يجد صدى. لكن دعني أذكّرك: لقد أنرتَ قلوبًا كثيرة بصوتك، وامتعت جيل كامل بصوت دافئ، ومخلِص.
ما تمرّ به ليس هشاشة، بل عمق. ليس سقوطًا، بل تأمّلٌ إجباري تفرضه الحساسية الحقيقية حين تُرهَق من المبالغة، من التوقعات، من الهجوم غير المبرر، ومن الشر، ومن مجتمعات لا تعرف كيف تحب الفنان إلا إذا كان صامتًا وممتثلًا.
لا تتردد في الصمت… فإن الصوت الذي لا يُشوّه بالضجيج يشتد صفاءً.
توقّف إن شئت. انسحب قليلاً. أغلق نافذتك نحو القسوة. فالفن لا يُقاس بعدد الإعجابات في المواقع، ولا تصنعه منصات التواصل، بل ينبع من الأعماق، من التجربة، من الوجع، من لحظات الانكسار والتأمل. لقد انسحب كبار الفنانين من المشهد في لحظات مماثلة، ليس هروبًا، بل استردادًا للصوت الداخلي.
أعد الإصغاء لنفسك، وستجد أن الأغنية التي تنتظرك أعظم من كل ما غنيت من قبل.
لا تمنح الحاقدين قوتك. لا تبرر، ولا تدخل في جدال مع من لا يسمعون إلا أنفسهم. فالفنان يخلق، أما الفارغون فينتقدون كي يشعروا بوجودهم. من يهاجمونك ليسوا نقاداً، بل فاشلون ضاق بهم عجزهم، فحاولوا أن يطفئوا من ينير. هم لا يعرفون قيمة الصوت، لأنهم لا يملكون إلا صدى الشر.
لحّن وجعك، وصُغ حزنك في اعمال جديدة تعبر عن هذه المرحلة من تجربتك. فالفن ليس احتفالًا بالاكتمال، بل هو تمرينٌ دائم على النقص، على الانتظار، على الترقب. كن رفيقًا لنفسك، وامنحها ما تحتاجه من عزلة وهدوء، فالقلق حين يُنصت له يتحول إلى قصيدة.
أيها الفنان الرقيق، ما تمرّ به الآن هو اختبار الكبار… اختبار الفنان حين يدرك أن ما يؤلمه ليس فقط العالم الخارجي، بل رهافته في تلقيه. لا تخف من العزلة، فهي ليست فرارًا، بل عودة إلى الذات.
اعلم أن هذه العاصفة ستمر، وأنك ستخرج منها أكثر إشراقًا، أكثر نضجًا، وأكثر تصالحًا مع نفسك واكثر جمالا.
ولتعلم أن هناك من يستمع لك بصمت، من يحبّك في الخفاء، من يعترف لك بالفضل، ولو لم يكتب حرفًا. هؤلاء لا يصرخون، لكنهم موجودون.
في الختام: لا تُطفئ صوتك.
نحن كمجتمع نتحمّل مسؤولية أن نحمي فنّانينا، لا أن ندفعهم نحو الحافة. وإن لم نكن قادرين على التقدير، فعلى الأقل لا نُطلق السهام.
ولكل من يشوّه الفنانين ويحرّض على حساسيّتهم، نقول:
إذا لم تكن صوتًا، فلا تكن صخرة تُلقى على المغنيين.
أما شريف الفحيل، فليعلم أن له فينا كل التقدير، وكل المحبة، وكل الثقة بأنه سيعود، وسيغني، وسيكون أكثر تألقًا وصدقًا وجمالا من أي وقت مضى…
لأن الجمال لا يُهزم…
اصبر… فهذه سحابة، وستنقشع…
وعد إلى فنك، مرفوع الراس، ففيه كل ما تحتاجه الروح من مرافئ حين تضيق بها الحياة….
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
بوسطن
24/ 6/ 2025
المصدر: صحيفة التغيير