صلاح شعيب
دخل التفحيص الأمني حيز التوظيف السياسي منذ حين ليحدد من يستحق أن يكون وزيراً بصفحة ناصعة البياض، ومن “التي” يُمنع عنها الخارجية بوصفها عميلة سابقة لجهات أجنبية، أو متآمرة ضد الذوق الوطني العام. ومع ذلك فمعرفتنا ما تزال خلواً من إدارك كنه معايير هذا الفحص اللا دوري. ففي فترة حمدوك راج استخدام مصطلح الفحص الأمني إزاء بعض وزراء الفترة الانتقالية. ذلك دون تحديد الجهة التي تضطلع به، وتسرب نتائجه، وهل أهليتها، وصفتها القانونية، مما لا يُرد، أم أن المسألة جاءت كيفما اتفق للقيمين علينا بالزندية.
وقبل أيام جرى التداول حول اسم السيد نور الدائم مرشح حركة مناوي لوزارة كميل، وسُربت معلومات بأنه سقط في فحصه نظراً لرباطاته العمالية الإسرائيلية. ولكن زعيم “ناس مشتركة فوق” خرج علينا ليقول إنه ليس لديهم مرشح للوزارة ليُرفض فأسقط على المنظومة الاستبدادية، وقبلوا توزير نور الدائم بطريقة “ألمي حار ولا لعب قعونج”.
وفي ملابسات الأخذ والرد نُشر أن رد فعل حركة مناوي طال البرهان نفسه بالبرهان المبين أنه شُوهد في جلسة مع نتنياهو مبتسماً في عنتبي. بل إنه كما ورد فتح أبواب التصنيع الحربي للإسرائيليين حتى منحته تل أبيب وسام الشجاعة. وأياً كانت مبررات الجهات العليا التي بيدها القلم الأحمر لتصحح تاريخ المتقدمين المتوزرين لكونه مقبولاً، أم لا، فإن هذه الممارسة لا تقوم على ساق دستورية، أو ساعد عدالة، وتبقى شفافيتها، ومنطقها، ولازمتها، محل تساؤل. فالوظيفة العامة في بلادنا تقلدها من قبل من هو ماسوني، أو ناشط لصالح الاستخبارات الأميركية، أو خادم مطيع للبروبقاندا المصرية، والتي مضمونها أن السودان يعد الحديقة الخلفية لمصر، وبالتالي لا بد لهذه الحديقة من رعاة ثقاة على مستوى الجانب السوداني.
حتى الآن لا أعرف أنه لو رشحني الكومرد كيكل للتوزير فهل هناك جهة لتمنحني، أو لا تمنحني، شهادة خلو طرف من الرباط الأجنبي. ولكن أدرك أنني في قرارة نفسي علماني، ولا أرى مشاحة من إقامة علاقات ندية مع إسرائيل، وأنني داعم لحوار الأديان الإبراهيمية، ومؤيد لاتفاقية سيداو، والتجارة التفضيلية، بل أدعو باستمرار إلى تدريس أطفالنا الموسيقى من الابتدائية بلا تحفظ.
على نهج ال White Supermaocy اتضح أن في بلادنا جهة تنشط في العالم السفلي متيقنة أن لها الحق المطلق لممارسة الوصايا على السياسيين إن أرادوا شغل الوظائف العليا. أي أن هناك مرشداً أعلى، ومعه جماعته الذين يحددون وحدهم، أن د. المعز لا يحتاج تفحيصاً أمنياً من النظرة الأولى لوجاهته، ولذا تكفي سيرة والده الامدرماني. ولكن الجماعة المتنفذة ربما ترى أن اسم كنود قنجي كفيا كافٍ لوحده ليمر بكل إجراءات ضرورية للتنقيب في سيرته. ذلك حتى يظهر للمرشد الوطني الأعلى، ودائرته الضيقة، بأن سجل كنود نظيف، وعليه لا مندوحة من تعيينه لوزارة النقل والمواصلات مثلاً.
إن هذا النوع من التفحيص الأمني يعيدنا إلى مقاربته بالفحوصات الجسدية في زمان الاسترقاق لتأكيد أهلية الأمات للوظيفة. فقد كان في زمان مضى يُعرض المسترقون في الفناء الكائن غرب المسجد الكبير في الخرطوم ليأتي السادة المشترون لفحص صلابة النهد، وهكذا مواضع أخرى.
والأمر هنا لا يختلف كثيراً عن الفحص الأمني التارف الذي تمارسه نخبة هذا العهد. فمعظم المتقدمين للوظيفة العامة في زمان الديكتاتورية، والراضين بفكرة فحصهم من أساسها، إنما يسترقون أنفسهم بهرولة، ومهانة، ومذلة. فالتكنوقراطيون العضويون النشامى يرفضون الفكرة جملة وتفصيلاً. ذلك لأنهم يقولون في قرارة نفسهم من يفحص من؟!!!
فلا البرهان وطني شريف. ولا كل هؤلاء القائمين على أمر الدولة أتقياء، وأنقياء، بالسيرة، والسريرة. فسجلهم المهني، وخارج المهني، ليس خالٍ من التعاون مع إيران، ومصر، وتركيا، وليبيا، وروسيا، والولايات المتحدة، وإسرائيل، وإريتريا، وتشاد، والسعودية. ولذلك يبقى الفحص الأمني للوزراء، والسفراء، بدعة سياسية، والموضوع كله ضلالة في النار عند زمن التيه الوطني.
وعلى كل حال يا أيها التكنوقراطي الواقف عند أبواب السلاطين أرفف بنفسك من هم، وتحزين، كما قال الشيخ القرامشي فرح ود تكتوك. ولا تجعل كرامتك مجالاً للانتهاك إذا ما طلب منك البرهان كتابة كل سيرتك الذاتية، ومن ثم الجلوس للتحقيق أمام ضابط أمن تافه في رقبته دماء، وفي تاريخه اغتصابات لشريفات وشريفيين كذلك، وثراء حرام ما أنزل الله به من سلطان.
المصدر: صحيفة الراكوبة