الفجوة

مهدي رابح

استرعى انتباهي مؤخرا التناقض الصارخ في ردود الفعل بين الترحيب البالغ للقوى المدنية الديمقراطية ببيان الرباعية الصادر في 13 سبتمبر 2025م وبالمقابل التغافل شبه التام، رغم أهميته، لتقرير البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق بشأن السودان، والمعنون “السودان، حرب الفظائع” والصادر قبله ببضعة أيام فقط.

وهو تناقض له مدلولاته على صعيد المقاربات المتبناة تجاه حل الأزمة من قبل القوى الساعية لوقف الحرب، ويكشف حجم الفجوة بينها وما يمكن تحقيقه بالفعل.

ودون التقليل من أهمية بيان الرباعية والذي شمل اتفاق الولايات المتحدة الأمريكية ومصر والإمارات والمملكة العربية السعودية على مبادئ مشتركة لإنهاء الحرب إلا أنه من الواجب إبداء بعض التحفظات على قدرته على ذلك واستعادة مدنية الدولة.

التحفظ الأول يأتي من تقييم قدرة ورغبة الدول المكونة للرباعية وأجندتها خلف هذه الخطوة، في الإدارة الجديدة للولايات المتحدة، والتي تسعى لترسيخ مكانة بلادها كأقوى دولة في العالم  اقتصاديا وعسكريا (Make America Great Again (MAGA، وحسب القراءة الواقعية بناء على سياساتها العامة المعلنة والمتبعة، لا تضع قضية حقوق الإنسان والدمقرطة في مقدمة اجنداتها بدليل ايقافها لأغلب برامج المساعدات الإنسانية او الداعمة لعمليات التحول وابدائها صراحة، مرارا وتكرارا، عدم رغبتها الخوض في أي تدخل عسكري مستقبلا. وهو ما يدفعنا للاستنتاج بأن اهتمامها بالسودان من المرجح يأتي في إطار محاور اخرى نذكر أهمها؛ الأول خدمة خطها السياسي الحالي تجاه الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة والداعم للجريمة الإنسانية المروعة المرتكبة تجاه المدنيين الفلسطينيين في غزة والتي تخطت أهدافها القضاء على منظمة حماس الإرهابية ردا على ما ارتكبته هذه من جرائم مروعة في حق المدنيين الإسرائيليين في السابع من أكتوبر 2023م الى القضاء على أي أمل مستقبلي في الحل السياسي السلمي القائم على مبدأ الدولتين. بل ذهب السيد دونالد ترامب الى ابعد من ذلك وبسخرية سوداوية باستشراف مشروعا عقاريا فوق ركام هذه المدينة المكلومة بعد تهجير ما تبقى من سكانها الى أي مكان آخر في العالم، بما فيه السودان كأحد المنافي المقترحة.

المحور الثاني الجدير بذكره والذي لا يقل أهمية هو المساهمة في تعظيم فرص الرئيس الأمريكي لنيل جائزة نوبل للسلام والتي يبدو من خلال تصريحاته المثابرة ومن خلال عديد المؤشرات في سياسته الخارجية المتبعة تجاه الصراعات في العالم أنها هدفه الأسمى المنشود حاليا.

أما مصر والامارات والسعودية، ووضعنا جانبا مواقفها المعادية للتحول الديموقراطي خلال الفترة الانتقالية ودعمها لانقلاب برهان وحميدتي في أكتوبر 2021م، فكل منها يقف عمليا خلف أحد طرفي الحرب بفاعلية، بل يمكن اعتبار سياسات تلك الدول الجارة تجاه بلادنا أحد العناصر التي تلعب دورا أساسيا في استمرار الحرب وتمددها بدعمهم ماليا وعسكريا وسياسيا طرفي الحرب لتحقيق أجندات متناقضة. أجندات يمكن إيجازها ما بين التنافس لترسيخ نفوذها على شواطئ البحر الأحمر والسيطرة علي الموارد الطبيعية وأهمها الأراضي الخصبة الشاسعة والمياه العذبة، والتي ينظر اليها استراتيجيا، كثروات المستقبل الأكبر قيمة والتي من المتوقع ان تأخذ مكان الثروات المعدنية والبترولية خلال أجيال قليلة قادمة**. ويمكن قراءة دوافع توقيع هذه الدول علي المبادئ الأولية المعلنة في البيان، مع التسليم على تناقض اجنداتها تجاه السودان والتقاطع الحاد وغير القابل للتصالح تجاه مصالحها، في رضوخ مؤقت وانحناء لعاصفة الضغط الدبلوماسي للمبعوث الأمريكي باعتبار ما يربطها من علاقات عضوية وتاريخية مع الولايات المتحدة وفي سياق واقع جيوسياسي بالغ التوتر في المنطقة.

الجانب الثاني الذي يستدعي التحفظ هو الجانب المنهجي الذي صاحب الإعداد لهذا البيان والذي تضمن مفاوضات سرية مع قيادات الجيش والدعم السريع واستبعد أي حوار مع المدنيين أصحاب المصلحة الحقيقية في إيقاف الحرب ومن يدفعون حقا الثمن الأعلى منذ اندلاعها.

الجانب الثالث هو ما لم يتضمنه هذا البيان فعليا وهو أولا الالتزام المباشر من مصر والإمارات والسعودية بالامتناع عن دعم الطرفين بأي شكل من الاشكال، فالبيان رغم ما تضمن في فقرته الخامسة من “إنهاء الدعم العسكري الخارجي هو ضرورة لإنهاء النزاع”. إلا ان الواقع يقول ان الدعم الحقيقي، وباستثناء بعض الضربات الجوية المباشرة غير المعترف بها، يتم عبر تمويلهم وسندهم المالي السياسي والدبلوماسي. وثانيا الإشارة الى الدعم السريع والجيش كجهات ارتكبت انتهاكات كبيرة لحقوق الانسان ترقى لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والاكتفاء بدلا عن ذلك بالإشارة الى الاخوان المسلمين، تلك البطة العرجاء، وهو ما يؤكد ما أشرنا اليه أعلاه من محاور اهتمام الجانب الأمريكي.

فإسلاميو السودان، مع التسليم بدورهم في إشعال الحرب والتمهيد لها وارتكاب مليشيات مرتبطة بها جرائم مروعة، الا ان تصنيفها كمجموعة مدفوعة بأيديولوجيا دينية متماسكة، مساواة بمثيلاتها كحماس او حزب الله فيه بعض الإشكالات ربما نتطرق اليها في مقال اخر لكن دعونا اختصارا نستشهد هنا بمقولة كبير الإرهابيين أسامة بن لادن حينما وصفهم كمزيج من الإسلام والمافيا. فهم وباستثناء بعض السذج مجموعة من أصحاب المصالح الاقتصادية الذين نهبوا، خلال حكمهم الذي امتد لثلاثين عاما، ثروات البلاد عبر سيطرتهم على اجهزة الدولة لعقود وعلى راسها الأجهزة الأمنية والعسكرية والتي تم تحويلها في إطار نظام الحكم الكليبتوقراطي “اللصوصي” الى أدوات للقمع ومراكمة الثروات. وباعتماد هذا التصنيف الموضوعي فان قيادة الدعم السريع تعتبر دون ادنى شك ركنا اساسيا من اركان هذا التجمع الاحتكاري “الكارتيل الاجرامي”. وما الحرب، رغم اتخاذها اليوم ابعادا اخرى جهوية وعنصرية واقليمية، الا نتاجا لانفجار التناقضات داخل ذلك الكارتيل.

وهو ما يدفعنا الى الاعتقاد بأن الهدف من الخطوات التي تقوم بها الرباعية هو الوصول الى وقف سريع للقتال او ما يسمى في العامية السياسية Quick Fix إصلاح سريع لا يخاطب أسباب الازمة في عمقها ويسعى لاتفاق متعجل للسلام من المرجح انه، كما كل اتفاقيات السلام السابقة في السودان، سيقود الى تقاسم للسلطة والنفوذ بين امراء الحرب ومن المؤكد انه لن يؤدي الى سلام دائم او أي درجة من درجات التحول المدني الديموقراطي. وهو ما يعني في سياق قضية بتعقيد الازمة السودانية، ترسيخ مبدأ مكافأة العنف والافلات من العقاب وربما تشجيع امراء حرب ومغامرين جدد مدعومين من فاعلين اقليميين ودوليين اخرين للخوض في غمار هذه العملية الدموية المربحة، سياسيا وماليا.

لكن ورغم التحفظات المذكورة فان هذه الخطوات، حتى ولو لم تكن ناجعة على المدى الطويل او تؤدي الى سلام مستدام، فإنها تستحق التشجيع طالما انها قد تؤدي الى هدنة ربما تسمح بفتح مسارات المساعدات الإنسانية ولو لأشهر والحفاظ على ارواح مئات آلاف السودانيين والسودانيات المدنيين المهددين بخطر الموت ذبحا، قصفا، جوعا ومرضا.

هذا الوضع الإنساني بالغ الخطورة يحيلنا مجددا الى تناول تقرير البعثة الدولية المهمل تماما من قبل المدنيين.

يذكر التقرير في موجزه ان عمليات التحقيق اثبتت ضلوع طرفي الحرب وحلفائهم في انتهاكات لحقوق الانسان والقانون الدولي بما يرقى للجرائم ضد الإنسانية كالإعدامات خارج إطار القانون والتجويع والاغتصاب والتدمير الممنهج ثم يسترسل بالأدلة المفصلة لهذه الجرائم ويصل الى استنتاجات أهمها انه ووفقا لبرنامج الأغذية العالمي أن السودان على شفير أن يصبح أسوأ أزمة جوع في العالم في التاريخ الحديث.

ورغم ما تضمنته توصيات هذا التقرير من تراجع نسبي مقارنة بتقريرها في السادس من سبتمبر من العام الماضي، والذي ذكر في إحدى فقراته مطلبا بنشر قوة مستقلة وحيادية بولاية واضحة لحماية المدنيين الا انها تظل توصيات هامة تشمل ضرورة وقف القتال ومجابهة الازمة الإنسانية وتحقيق العدالة.

السؤال المشروع يبقى إذا لماذا يُهمل التقرير بينما يهلّل للبيان من قبل الرفاق…؟

في تقديري ان المدنيين الديموقراطيين ما زالوا منغلقين في تموضعهم خلال العملية السياسية التي مهدت للاتفاق الاطاري، وهي عملية سياسية حاذقة كانوا يمتلكون فيها أداتين أساسيتين غير متاحتين حاليا. وهنا اقصد الدعم الشعبي وضغط الشارع بانتفاء الفضاء المدني وعسكرته نتاج الحرب، وتراجع الدعم الدولي والإقليمي للمدنيين الديموقراطيين وبالمقابل محدودية تأثيرهم على ما يتم اتخاذه من خطوات تجاه ازمة السودان من قبل تلك القوى، وان استمات البعض في إعطاء انطباع مغاير، تصريح د. عبد الله حمدوك بتطابق بيان الرباعية مع رؤية صمود نموذجا.

بالتالي يظل بعض الرفاق يؤمنون في قدرتهم المناورة السياسية وإقناع امراء الحرب، باستثناء الإسلامويين، بالامتثال لصوت العقل والضمير، مع من يفتقدون كلا الفضيلتين اصلا، وفي ظل واقع جديد لا يمثل فيه المدنيون وزنا سياسيا معتبرا وفي غياب مشروع مفصل وخارطة طريق تتجاوز تلك المبادئ الموجزة التي يتم تكرارها برتابة في البيانات المتواترة، والتي أصبحت تعني كل شيء ولا شيء، كالتحول المدني الديموقراطي والإصلاح الأمني والبناء الدستوري والعدالة الانتقالية… الخ.

الخلاصة هي انه، وبعد ما يقارب الالف يوم من الحرب ومئات الاف القتلى وملايين الجوعى والمشردين من الواجب الاعتراف بان المقاربات الحالية للقوى المدنية الديموقراطية التي تسعى لوقف الحرب اثبتت عقمها ولا يمكنها ان تفضي الى حل مستدام، ومن الواجب البحث عن سبل جديدة خارج صناديق العملية السياسية السابقة ودور الوسيط الذي ادى لتجميد فاعلية اهم فاعل في الساحة السياسية السودانية بمعيار قدرته احداث التغيير المنشود نحو دولة تنعم بالسلام وتسع الجميع.

في تقديري ان الوقت لم يفت بعد وما زالت هنالك أدوات يمكن استغلالها لاستعادة حيوية دورهم وفرض وجودهم على طاولة مفاوضات قادمة، وتقرير البعثة الدولية المستقلة هي اسطع مثال على ذلك.

أعتقد، اعتقاد العجائز كما يقال، انه لن يصل السودان الى مرافئ الاستقرار دون ان يمر ذلك بعملية سياسية تفضي الى سلام مبني حول مشروع تحول مدني ديموقراطي واضح عميق وطويل المدى وان الحاملين لهذا المشروع لن يتسنى لهم الجلوس على طاولة المفاوضات دون اضعاف اطراف الحرب وهذا لن يحدث دون الاستناد على جرائمهم، كتلك المثبتة في التقرير، لحصارهم قانونيا وتقديمهم للعدالة الدولية وحصارهم معنويا بكشف حقائق مدى اجرامهم وفسادهم ودون قطع موارد تمويلهم للحرب وموارد اثرائهم واثراء تجار الحرب والانتهازيين المستفيدين منها. وهو طريق شاق لكنه ممكن، فقد اثبتت تجارب اخرى في القارة، ليبيريا نموذجا، نجاعتها في نهاية الامر.

الشرط الثاني بجانب اضعاف طرفي الحرب هو العمل الجاد على تطوير مشروع سياسي احولي متدرج وتصور عملية انتقالية متسلسلة يمثل البناء الدستوري خيطه الناظم وبناء قطاع امني وعسكري وطني ومهني محترف أهم ركائزه.

رفاقي الديسمبريون، قوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.