الفاشر.. صافرة نهاية؟ أم بداية؟

شوقي عبد العظيم

اكتسبت معركة الفاشر، وزناً مختلفاً عن بقية معارك حرب 15 أبريل، فهي المدينة الأطول صموداً في مواجهة قوات الدعم السريع، متفوقة في ذلك على العاصمة الخرطوم نفسها، مكان قيادة الجيش.

سقوط الفاشر سيفرض واقعاً يلزم المجتمع الدولي بالتعامل مع حكومة “تأسيس” وإن كان في حدود إغاثة المدنيين، وسيتجه الدعم السريع قطعاً إلى حماية مكاسبه بتوسيع دائرة المعارك.

عام ونصف وعبارة “الفاشر محاصرة ” تتردد في الإعلام المحلي، وفي خطابات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غيتيرش، وفي بيانات مجلس الأمن، وفي كلمات رؤساء الدول. ومع ذلك “الفاشر محاصرة”، والحصار في كل يوم يزداد ضراوة وقسوة.

و”الحصار”، كلمة في الواقع لها معانٍ كثيرة مؤلمة. فهي تعني تجويع المدنيين، واستخدامهم كارت ضغط من قبل المُحاصِرين، ودروع حرب من قبل المُحاصَرين، ووضع المدنيين تحت الخطر الماحق، والموت بالرصاص والقذائف والطائرات المسيرة، إن لم يكن بالجوع والمرض الناتج عن الجوع.

عند العسكريين تعني كلمة “حصار” أن المُحاصِرين عاجزون عن دخول المدينة، والمُحاصَرين عاجزون عن الخروج من الخنادق وفك حصارها، وهو أسوأ تكتيك حربي ضد المدنيين؛ تكتيك “عض الأصابع” للعسكريين الذي لا يعلم أحد متى سينتهي، وكيف؟، وأمامنا حصار الفاشر المتمدد شهوراً عديدة، ولا يزال.

لذا فإن السؤال المطروح: كيف سيكون مستقبل الحرب في حال انتهى هذا الحصار الطويل؟.

الفاعلون والسيناريوهات

قوات الدعم السريع والقوات المتحالفة معها، وهم من باتوا مؤخراً يعرفون أنفسهم بـ”قوات تأسيس”، يحاصرون الفاشر. القوات المسلحة والمتحالفون مع الجيش محاصَرون داخل المدينة والفرقة السادسة، ويعملون جاهدين لفك الحصار عن المدينة وعن الفرقة السادسة مشاة.

ومن ناحية أخرى يظهر المجتمع الدولي اهتماماً بالمدنيين المحاصَرين داخل المدينة.

وقبل أن نطرح سيناريوهات الدعم السريع والجيش، ونجاح كل طرف في مسعاه، دعونا نقف عند المجتمع الدولي، بما فيه الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والذي ما انفك يناشد المتحاربين بحماية المدنيين، والسماح للمساعدات بالوصول إليهم.

في الواقع أن المجتمع الدولي لا يملك في هذا الحصار المعقد غير هذا الدور. وبالأمس تحدث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش إلى رئيس الوزراء المعين كامل إدريس، وتباحث معه حول حماية المدنيين، لا عن طرق إنهاء الحصار عن المدينة. وحال التنقيب في القانون الدولي، لن تجد موقفاً صريحاً ومنفصلاً يجرِّم “الحصار” العسكري في أوقات الحرب، وفي المقابل يجرم القانون الدولي تجويع المدنيين، أو استخدامهم دروعاً بشرية، وربما يصنَّف مثل هذا السلوك من المقاتلين التجويع والدروع على أنه جريمة حرب. ففي ديسمبر 2019م أعلنت محكمة الجنايات الدولية، بموجب القانون الجنائي الدولي، أن التجويع المتعمد للمدنيين في النزاعات المسلحة بمثابة جريمة حرب. وبهذا تم تعديل نظام روما الأساسي ليشمل جريمة التجويع.
أما الحصار في حد ذاته فلا ننتظر من الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن ولا غوتيرش أن ينهضوا لإنهائه. والمعضلة أنه من الصعب إثبات جريمة “التجويع المتعمد”. لذلك نجد الهادي إدريس، حاكم إقليم دارفور المعين من قبل حكومة “تأسيس”، في حديقه لقناة الجزيرة ينفي تعمد تجويع المدنيين، ويقول إن حصارهم يستهدف الفرقة السادسة مشاة، وإنهم فتحوا ممرات آمنة لخروج المدنيين وناشدوهم لأجل ذلك، ويفسر ما يتم تداوله من قبل الجيش على أنه “دعاية”. ثم يذهب لقلب الطاولة على الأعداء، ويقول إن الجيش والقوات المشتركة التي تقاتل معه يمنعون المدنيين من الخروج ويستخدمونهم دروعاً بشرية.

كذلك فإن جريمة استخدام المدنيين دروع بشرية يصعب إثباتها، لأن الجيش في الفاشر والقوات المشتركة يفسرون ما يجري على أنه ضرب من حماية المدنيين من قوات الدعم السريع، التي تمنع عنهم الغذاء والدواء، وأشاروا في أكثر من مرة إلى أن الدعم السريع يقتل المدنيين الفارين من الحصار ويعرضهم للخطر، لذلك لا أمل في تدخل دولي لفك الحصار بالقوة. وتظل المعاناة من نصيب المدنيين، وهي معاناة قاسية ومريعة، ومؤسفة.

الفاشر: العبرة بالنتيجة

مع الوقت اكتسبت معركة الفاشر، وزناً مختلفاً عن بقية معارك حرب 15 أبريل، فهي المدينة الأطول صموداً في مواجهة قوات الدعم السريع، متفوقة في ذلك على العاصمة الخرطوم نفسها، مكان قيادة الجيش، وتحول كل هجوم عليها إلى رقم يستخدمه المحاصَرون داخلها دلالة على صمودهم وعلى عجز الدعم السريع عن اجتياحها.

أما المهاجمون في كل يوم فيعلنون عن عزمهم إسقاط الفرقة السادسة. وقد حشدوا بالفعل كل قضهم وقضيضهم وأجلبوا خيلهم ورَجِلهم من أجل هذا الهدف، ولا تخلو السوشيال ميديا يومياً من مقاطع عن تقدم هنا ومعركة هناك، وعتاد جديد، وتقدم في حي من الأحياء أو سوق ومطار.. قطعاً كل ذلك جعل من معركة الفاشر معركة فاصلة، بعد التعبئة التي لم تستثنِ المحاربين من المنازل، ومن المواطنين المؤيدين لاستمرار الحرب من جهة الجيش، أو المؤيدين لاستمرارها من جهة الدعم السريع. باختصار حازت الفاشر على أعلى معدل تعبئة سياسية، وهذا يعني أن من سيكسب هذه المعركة سيكون قد حقق هدفه الذهبي خلال هذه الحرب.

وإذا عدنا إلى سيناريو فك حصار المدينة والفرقة السادسة من قبل الجيش، واستناداً على المعارك التي كسبها في سنار والجزيرة والخرطوم، ستكون بمثابة دفعة قوية لاستعادة ثقة المواطنين فيه، ويتحول إلى وضع مريح في بقية المعركة، ويبقى الأقرب إلى حسمها من عدوه الدعم السريع. إلا أن هذا الطريق بالغ الصعوبة، وإلا لما أخذت الفاشر كل هذا الوقت تحت رحمة الحصار، خاصة أنها في بقعة محاطة ببيئة جغرافية يسيطر عليها العدو من كل الجوانب، ويسد الطرق إليها من جهة أم درمان عبر طريق بارا ومن شمال وغرب كردفان (الشرق).. ومن جهة زالنجي ونيالا والضعين (الجنوب).. ومن جهة كبكابية والجنينة (الغرب)، ومن كتم ومليط (الشمال). وفي هكذا ظروف تبقى حظوظ الجيش متراجعة، وصعبة، ولكن إن تمكن من إنجاز هدفه سيكون قد أنجز ثلثي النصر، إن لم يكن أكثر.

نجاح الحصار

هذا ما يسعى له الدعم السريع، أن ينقشع الحصار الذي ضربه لشهور عن سيطرته على الفرقة السادسة مشاة. وبطبيعة الحال تعني سيطرته على الفاشر العاصمة، سيطرته على دارفور، وعلى غرب السودان، وإن لم يخض معركة في بابنوسة في جنوب كردفان التي لا تزال فيها الحامية تحت سيطرة الجيش، ويبقى الطريق ممهداً إلى الدلنج وربما كادقلي نفسها بعد تحالفه مع قوات الحركة الشعبية، وتعني سيطرتها على الفاشر أيضاً أنها من ربح التعبئة والدعاية السياسية التي ضُربت حول معركة الفاشر، وهو كذلك سيحقق نصراً معنوياً كبيراً.

غير أن مكاسب الدعم السريع التي هي خسارة الجيش في هذه الحالة لن تتوقف عند هذا الحد، وخاصة أنه، بحسب عسكريين، أمَّن ظهره في الحدود الغربية مع تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، وصار أكثر أماناً بعد السيطرة على منطقة المثلث الحدودية، المرتبطة بمصر، وأجزاء من الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية البعيدة في النيل الأزرق، وبلغة العسكريين أيضاً بات “ظهره آمناً وخطوط إمداده سالكة”، وهذا يوفر له فرصة أن يتقدم في اتجاه الوسط أو شمالاً نواحي الخناق ودنقلا وربما مدينة الدبة، أو على الأقل ينشط في عمليات عسكرية في تلك الجهات. وهذا سينهي بشكل قاطع رواية النصر عند أعدائه وما يروجونه عن تفكك قواته وعن نهايته ونهاية الحرب.

وفي حديث القيادي بالعدل والمساواة وفي حكومة “تأسيس” جبريل بلال أنهم بعد سيطرتهم على الفاشر سيتوجهون نحو الأبيض ثم إلى الخرطوم والشمالية. وإن كان حديث جبريل يقرأ في إطار الدعاية الحربية، إلا أنه لا يخلو من حقيقة من حيث النظريات العسكرية التقليدية “الهجوم خير وسيلة للدفاع” لحماية مكاسبهم في دارفور وغرب السودان.

وبالنظر إلى التطور السياسي بإعلان حكومة في مدينة نيالا، وفي حال السيطرة على الفاشر ستتموضع هذه الحكومة بشكل جديد، وسيجد غوتيرش نفسه مرغماً وكذلك منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية على التعامل معها، وأسلفنا بأن هؤلاء عينهم على المدنيين أولاً وأخيراً. وهذا سيمنح “تأسيس” شريان حياة توظفه كيف تشاء، أسوة بما حدث في جنوب السودان وشريان الحياة الذي كان تحت إدارة الحركة الشعبية قرنق، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ومثَّل لها قُبلة حياة قبل المدنيين الجوعى.

واقع المعركة

قطعاً يتبادر إلى الأذهان سيناريو ثالث، وهو أن يستمر الحصار أطول مما تتوقع الأطراف، ويبقى إلى أن يفرض الوقت حلوله، وهذا سيعزز من نظرية “توازن الضعف” وإنهاك المتحاربين، وهي الظروف المواتية للتقسيم والانفصال، وفق معطيات الواقع.

غير أن واقع المعركة يرجِّح صعوبة فك حصار المدينة، ومن ثم الفرقة السادسة، واستماتة الدعم السريع في معارك غرب كردفان وفي أم صميمة وأب قعود لا يعدو كونه توسيعاً لدائرة الحصار سعياً لحماية ظهر المهاجمين على الفرقة السادسة من جنوده، وحتى لا يصل مدد عسكري لإنقاذ المحاصرين، والمعركة الأخيرة في تلك النواحي تشير إلى نجاحه في مهمته حتى هذه اللحظة. وقد خسر لواء النخبة الأول كثيراً من قوته الصلبة، في معارك الخوي، والنهود في غرب كردفان، وفي أم صميمة وفي دار حامد ومعركة أب قعود الأخيرة في شمال كردفان، التي خسر فيها الجيش وقوات كيكل وكتائب الإسلاميين قادة وجنوداً كثراً، وعتاداً حربياً نوعياً.

ثم هناك الأنباء الواردة من الفاشر عن تقدم قوات الدعم السريع، وهي وإن كانت بطيئة في حالة كر وفر، ومقاومة شرسة من جنود الفرقة السادسة، مع قطع الطريق أمام قوات الإنقاذ أو لواء النخبة، تصبح فرضية دخول الدعم السريع الفرقة ليست مستبعدة، إن لم تكن راجحة.

صافرة بداية أم نهاية؟

مع التحشيد العسكري والإعلامي والسياسي على حد سواء في معركة الفاشر، يتبادر سؤال مهم: هل حسم المعركة من طرف سيكون نهاية الحرب؟ أم بداية لها؟

بحسب المعطيات وإفادات الخبراء ربما لا يعني كسب الفاشر حسماً للمعركة بشكل نهائي في أي حال، وللدقة ربما تكون في حال حسمها من الجيش أقرب إلى حسم المعركة مصطحبين المعطيات الواردة في هذا التحليل.

أما في حال حقق الدعم السريع هدفه من الحصار ستمثل بلا شك نقطة جديدة لإشعال الصراع بعد أن يكسب وضعاً مريحاً في دارفور، وفي منطقة جغرافية واسعة في غرب كردفان، ويستطيع أن يفرض واقعاً يلزم المجتمع الدولي على التعامل مع حكومته، وإن كان في حدود إغاثة المدنيين، وسيتجه قطعاً إلى حماية مكاسبه بتوسيع دائرة المعارك، أو كما قال جبريل بلال، وعدد من الناطقين باسمه.

وإلى أن تفصح الأيام عن تحقق أحد هذه السيناريوهات تظل الفاشر واقعة تحت حصار يمنع المواطنين من كل ما يسهم في استمرار بقائهم أحياء من طعام وماء ودواء بسبب الحصار، أو بسبب نيران الحرب.

* صحيفة ديسمبر

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.