الفاشر.. سقطت ما سقطت

أحمد عثمان جبريل

❝ إن أعظم ما يختبر به الإنسانُ شجاعته، هو قدرته على الصمود حين يصمت الجميع. ❞

عبد الرحمن الكواكبي

1.

لم تسقط الفاشر فجأة، بل كانت تتهاوى ببطءٍ تحت الحصار، بينما كانت الحكومة تتابع من بعيد صدى أنينها.. أربعة أشهر كاملة كانت المدينة فيها محاصرة بلا إمداد، أي نحو 120 يومًا، لا طلقة نجدة، ولا قافلة دعم، ولا خطة إنقاذ. وبينما كان الجنود والناس يصارعون الجوع والمرض والخوف، كانت الوفود الحكومية تحزم حقائبها إلى واشنطن، ساعيةً وراء الرضا السياسي الأمريكي والبحث عن اعترافٍ خارجيٍ لم يأتِ، في الوقت الذي كانت فيه المدن الداخلية تنزف.

2.

في تلك اللحظة الحرجة، خرج مسعد بولس، مبعوث الرئيس الأمريكي للشؤون الأفريقية والعربية، بتصريح بدأ كأنه خلاصة الموقف كله.

قال بولس إن على قوات الدعم السريع أن “تتحرك فورًا لحماية المدنيين وفتح الممرات الإنسانية” وهو تصريح يعلن سقوط الفاشر في أيدي الجنجويد، كما يحمل في ظاهره لغةً إنسانية، لكنه في جوهره (صفعة سياسية) للحكومة التي ظنّت أن الطريق إلى واشنطن هو طريق النجاة.. فبينما كانت تجلس إلى طاولة المفاوضات مع بولس ونائب وزير الخارجية الإماراتي الشيخ شخبوط بن نهيان، كان بولس نفسه يخاطب “الدعم السريع” لا الحكومة، وكأنه يقول لها بلغة الدبلوماسية الباردة: “أنتم لستم وحدكم في المعادلة”.

3.

هذا المشهد يلخص مأزق الحكومة في بورتسودان.. انشغالها بالديبلوماسية الشكلية بينما تتهاوى الجبهات واحدة تلو الأخرى. فالفاشر لم تسقط بسبب نقص الشجاعة أو ضعف الإرادة، بل بسبب “عجز القيادة عن إدراك معنى الصمود الميداني”.. كيف لمدينةٍ تُحاصر أكثر من أربعة أشهر بلا إمدادٍ واحدٍ أن تصمد إلى الأبد؟ كيف يمكن الحديث عن “النصر” بينما لا تصل المؤن ولا الذخائر ولا المساعدات؟ لقد كانت الفاشر تصرخ منذ زمن، لكن أحدًا لم يسمعها، لأن الكاميرات كانت متجهة نحو بورتسودان ولاحقا واشنطن لا نحو دارفور.

4.

سقوط حامية الفاشر، الفرقة السادسة، يمثل نقطة تحول حاسمة.. ففقدان هذه الحامية لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان “سقوطًا معنويًا” يعكس حجم الصعوبة التي واجهها الجنود على الأرض، ويبرز عجز القيادة عن توفير الدعم الضروري لقواتها في الميدان. هذا السقوط المعنوي شكل النهاية الرمزية لفترة طويلة من الصمود الذي استمر نحو 120 يومًا.

5.

سقوط الفاشر لا يختبر بطولة جنودها، بل يكشف عجز من تركهم وحدهم.. هؤلاء الذين صمدوا خلف خطوط النار، بلا دعمٍ ولا سند، هم الذين أعادوا تعريف الشرف العسكري، بينما فشلت القيادة في تأمين أبسط مقومات البقاء. إن الحرب ليست بياناتٍ ولا تصريحاتٍ، بل قدرةٌ على تحمّل المسؤولية، وإدراك أن المدن لا تُنقذ بالمؤتمرات، بل بالفعل الميداني.

6.

الآن، بعد سقوط الفاشر، يجب أن يبدأ الحديث الحقيقي عن (السلام) لا ككلمة سياسية، بل كواجبٍ إنساني.. فالذين وقعوا في الأسر، والذين ما زالوا داخل المدينة بين الركام، يحتاجون إلى حمايةٍ عاجلة من المجتمع الدولي، ومن الهلال الأحمر والصليب الأحمر والمنظمات الطبية الدولية. هؤلاء ليسوا أرقامًا في تقارير الحرب، بل بشرٌ فقدوا كل شيء، ولا ينبغي أن يُتركوا مرةً أخرى ضحايا لخذلانٍ جديد.

7.

تصريح مسعد بولس يشير إلى أن المجتمع الدولي بدأ يتعامل مع قوات الدعم السريع كطرف فاعل على الأرض، وهو تحول مهم في الديناميات السياسية والعسكرية في السودان، ويعكس عدم ثقة المجتمع الدولي بالقيادة الحالية في بورتسودان في حماية المدنيين أو إدارة الأزمة.

8.

الفاشر أظهرت أن السلام ليس اتفاقًا يُوقَّع في العواصم، بل التزامٌ بحماية الضعفاء حين تصمت البنادق.. كل ما جرى فيها يُثبت أن الحرب ليست فقط مواجهة بين جيشٍ وعدو، بل امتحان أخلاقي للحكومات أمام شعوبها. والذين جلسوا في واشنطن يتحدثون عن السياسة، بينما كانت الفاشر تختنق، فقدوا حقهم في الحديث عن الوطن.

9.

(الفاشر.. سقطت ما سقطت) لكنها لم تُهزم. سقطت لأنها تُركت وحدها، لا لأنها ضعفت. سقطت لأنها قاومت حتى النهاية، بينما ترددت الدولة حتى النهاية.

ستبقى الفاشر علامةً في تاريخ السودان والجندي السوداني، تُذكّر بأن المدن لا تُهزم حين تسقط، بل حين تُنسى، وأن الجغرافيا وحدها لا تصنع الوطن، بل من يقف فيه حتى آخر لحظة، ولو كان وحيدًا.

إنا لله ياخ الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.