أحمد عثمان جبريل
ما حدث هناك في الفاشر لم يكن سقوط مدينةٍ فحسب، بل سقوط فكرة الدولة حين تغيب الشفافية، وحين يصبح الإنسان آخر من يُؤخذ في حسبان معادلات الحرب والسلام.. في تلك الحظة التي تقاطعت فيها المأساة مع السياسة، وتلبست فيها المواقف بالمصالح، برزت الفاشر كجرحٍ مفتوحٍ في جسد الوطن.
1.
يقول الفيلسوف العربي الفارابي: «المدينة الفاضلة هي التي يسعى أهلها إلى الخير المشترك، لا إلى الغلبة والسيطرة.» هذه المقولة، رغم بعدها الزمني، تبدو اليوم كأنها كُتبت للسودان، حيث غابت روح المشاركة وحلّت محلها عقلية الاستحواذ، فكانت النتيجة ما رأيناه في الفاشر .. مدينة تُركت لمصيرها، وأرواحٌ شُرّدت بسبب قرارٍ غامضٍ وارتباكٍ سياسي لا مبرر له.
2 .
التحقيق الاستقصائي الذي أعدّته الصحفية النابهة يسرا الباقر لقناة سكاي نيوز البريطانية، كشف أن نحو مئتي ألف مدني اضطروا إلى الفرار بعد انسحاب الجيش من مواقعه، ما فتح الطريق أمام قوات الدعم السريع للسيطرة على المدينة. لكن التقرير، بما حمله من دقة وموضوعية، لم يكتفِ بسرد الأرقام، بل أماط اللثام عن كواليس القرار، وعن اتفاقاتٍ أُبرمت في الظلام كانت نتيجتها انهيار الحامية وانكسار المدينة.. وهذا ما كشف عنه حميدتي في خطابه الأخير، إن اتفاقا سريا تم مع الجيش.
3.
ليست الفاشر سوى مرآةٍ لنهجٍ طويل من إدارة البلاد في الغرف المغلقة، حيث يُستبدل الحوار بالتآمر، والمكاشفة بالمناورة..
في كل مرة يتكرر المشهد ذاته: “قرارات مصيرية تُتخذ باسم الأمن، ثم تنقلب إلى كوارث إنسانية.. ومع كل جولةٍ من هذا العبث، يدفع المدنيون الثمن وحدهم، وتُترك المدن كأنها مناطق اختبار لفشل النخبة”.
4.
السؤال الجوهري اليوم ليس من انتصر ومن انهزم، بل:” من خان فكرة الوطن؟ من قرر أن مصير الناس يمكن أن يُناقش في الخفاء؟ كيف يمكن أن تُدار أقدار أمة كاملة في الغرف المغلقة، ثم يُقال بعد ذلك إن ما حدث كان انسحابا تكتيكيًا أو سوء تقدير؟ ذلك لم يكن انسحابا تكتيكيا كما انه ليس خطاءا سياسيا، بل جريمة في حق الوعي والمواطنة والمسؤولية.
5.
ربما وعى هؤلاء ان سيطرة قوات الدعم السريع على معظم الإقليم منحها موقعًا تفاوضيًا أقوى، لذلك رفض البرهان لقاء بولس وحميدتي امس الاول في القاهرة .. لقد كان ثمن كل ذلك تعميق الانقسام الوطني وتحويل الدولة إلى رقعةٍ من النفوذ المتقاطع. والسيناريو الليبي الذي بدأ يلوح في الأفق اتفاق هش، مراقبة دولية، وتفكيك لاحق للسلطة المركزية ليس بعيدًا، إن لم يُستبدل منطق السرية بمنطق الشفافية، ومنطق السيطرة بمنطق الدولة.
6.
في المقابل، تظلّ الصحافة كما برهنت تجربة الزميلة يسرا الباقر خط الدفاع الأخير عن الحقيقة.. هي سلطة أخلاقية لا تُرهبها البنادق ولا يغريها القرب من السلطة.. الصحافة الجادة لا تكتفي بوصف الألم، بل تفضح من يصنعه.. وهي اليوم مطالبة أكثر من أي وقتٍ مضى بأن ترفع الغطاء عن كل ما يُدار باسم الوطن وهو ضد الوطن.
7.
على القوى السياسية والعسكرية، مهما تباينت مواقفها، أن تدرك أن الشفافية ليست ترفًا ديمقراطيًا، بل ضمانة للبقاء.. فالاتفاقات التي تُبرم في النور تحمي، أما التي تُنسج في العتمة فتهدم.. لذلك المطلوب ليس إعادة التفاوض فحسب، بل إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة نفسه الدولة التي تحاسب، وتكشف، وتحمي الإنسان قبل الأرض.
8.
إن الفاشر لم تسقط وحدها، بل سقطت معها آخر أوهام “الصفقات المنقذة” .. هذه المدينة الجريحة تقول لنا بصوتٍ واضح:” لا أمان في الظلال، ولا مستقبل دون مساءلة.. ومن أراد أن يبني سودانًا جديدًا، فعليه أن يبدأ من الضوء من الحقيقة، من الشفافية، من الإنسان.
إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير