العنف الجنسي خلال الحرب السودانية

نبيل يحي منصور
تُعد ظاهرة الاغتصاب في سياقات النزاعات المسلحة واحدة من أبشع مظاهر انتهاك الكرامة الإنسانية، حيث يتجاوز فيها العنف الجنسي حد الجريمة الفردية ليصبح أداة ممنهجة تستهدف المجتمعات بأكملها. وفي الحرب السودانية الجارية منذ 2023م، ظهرت هذه الظاهرة بشكل غير مسبوق من حيث الاتساع والتكرار، مما يثير تساؤلات عميقة حول ما إذا كان هذا العنف الجنسي يتم بمحض الصدفة والعشوائية، أم أنه يمثل سلوكاً مقصوداً وممنهجاً تقف خلفه سياسات وأجندات عسكرية واجتماعية.
تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على ظاهرة الاغتصاب الواسع الذي صاحب الحرب الحالية في السودان، من خلال تحليل بنيته وطبيعته، وفهم مدى تنظيمه، وتحديد دلالاته السياسية والاجتماعية، فضلاً عن دراسة آثاره المستقبلية على المجتمع السوداني. كما تحاول الدراسة وضع هذه الظاهرة في سياق مقارن مع حروب أخرى شهدت استخداماً مماثلاً للاغتصاب كسلاح، مثل الحرب في البوسنة ورواندا والكونغو، مع العودة إلى الحروب السابقة في السودان التي، رغم قسوتها، لم تشهد هذا النمط المنهجي إلا في حالات محدودة وطارئة.
تأتي أهمية هذه الدراسة من كونها محاولة لتوثيق هذه الجريمة من منظور تحليلي، يتجاوز البعد الإنساني إلى البعد السياسي والاجتماعي، بهدف المساهمة في بناء فهم أعمق يساعد على مساءلة الجناة، ووضع أسس التعافي والعدالة، وعدم تكرار هذه الفظائع مستقبلاً.
الفصل الاول: الخلفية النظرية والتاريخية
أولاً: الاغتصاب كسلاح حرب تعريف وإطار نظري
الاغتصاب في سياق النزاعات المسلحة لا يُعد مجرد فعل فردي أو انحراف سلوكي من قبل الجنود، بل هو في كثير من الأحيان سلاح استراتيجي يُستخدم لهزيمة الخصم معنوياً، وتفكيك مجتمعه، وبث الرعب في صفوفه. وقد عرفته المحكمة الجنائية الدولية بأنه “جريمة ضد الإنسانية” عندما يُرتكب بشكل واسع أو منهجي، ويمكن أن يُعد “جريمة إبادة جماعية” عندما يُستهدف به جماعة معينة بهدف إبادتها أو إخضاعها.
يشمل استخدام الاغتصاب كسلاح أهدافاً مثل:
• كسر الروح المعنوية للمجتمعات.
• تهجير السكان قسرياً.
• فرض تغيير ديمغرافي.
• استخدامه كوسيلة لتجنيد المجندين أو مكافأتهم.
• زرع الانقسامات بين المكونات الاجتماعية والعرقية.
ثانياً: نماذج تاريخية لاستخدام الاغتصاب كسلاح حرب
1. البوسنة والهرسك (1992م 1995م):
استُخدم الاغتصاب بشكل واسع من قبل القوات الصربية ضد النساء البوشناقيات.
تم إنشاء معسكرات اغتصاب، ووُثّقت أكثر من 20,000 حالة.
الهدف كان تطهيراً عرقياً وتفكيك الروابط الاجتماعية.
2. رواندا (1994م):
خلال مئة يوم من الإبادة الجماعية، اُغتصبت أكثر من 250,000 امرأة.
استخدم “الهوتو” الاغتصاب ضد نساء “التوتسي” كجزء من الإبادة الجماعية.
بعض النساء تم اغتصابهن ثم قُتلن، وأخريات تم استعبادهن جنسياً.
3. الكونغو الديمقراطية:
توصف بأنها “عاصمة الاغتصاب في العالم”.
استخدمت الميليشيات العنف الجنسي كأداة للسيطرة على المناطق والموارد.
اتسمت الانتهاكات هناك بطابع اقتصادي وسياسي.
4. العراق وسوريا (2014م2019م):
تنظيم داعش استخدم الاغتصاب ضد الإيزيديات بشكل منظم، ضمن فقه “السبايا”.
تم إنشاء أسواق للنخاسة الجنسية، واستخدم الاغتصاب كجزء من خطاب أيديولوجي ديني.
ثالثاً: الإطار القانوني الدولي
اتفاقية جنيف الرابعة (1949م) تحظر المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك الاغتصاب.
نظام روما الأساسي (1998م) يعترف بالاغتصاب كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية.
قرارات مجلس الأمن الدولي (مثل القرار 1325 و1820) تؤكد على محاسبة مرتكبي العنف الجنسي في النزاعات، وتدعو إلى حماية النساء.
الفصل الثاني: الاغتصاب في الحرب السودانية الحالية السياق والواقع
أولاً: خلفية النزاع
اندلعت الحرب في السودان في أبريل 2023م بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، لكنها لم تبقَ حرباً تقليدية بين جيشين، بل تحوّلت سريعاً إلى صراع متعدد الأبعاد، يتمدد في الجغرافيا ويُصيب المدنيين بشكل مباشر. ومع غياب الدولة وتفكك الأجهزة القضائية، سادت الفوضى، مما فتح الباب واسعاً أمام الجرائم الممنهجة، وعلى رأسها الاغتصاب.
ثانياً: التوثيق والشهادات
أ. تقارير منظمات دولية ومحلية:
وثّقت تقارير الأمم المتحدة والعفو الدولية مئات حالات الاغتصاب في الخرطوم ودارفور ومدن أخرى، مشيرةً إلى نمط متكرر من العنف الجنسي المقرون بالتعذيب والإذلال، سواء في البيوت، أو مراكز احتجاز، أو حتى داخل المساجد.
ب. شهادات من ولاية الجزيرة:
مع اجتياح قوات الدعم السريع ولاية الجزيرة، وخصوصاً مدينة ود مدني وقراها، ظهرت شهادات عديدة عن حالات اغتصاب جماعي في “الحوش”، “أبو قوتة”، و”ود حبوبة”. شملت الضحايا فتيات قاصرات ونساء في مخيمات النزوح. وتم الاغتصاب أحياناً أمام أسر الضحايا، مما يعكس نية الإذلال والتدمير المجتمعي.
ثالثاً: جذور الظاهرة ممارسات سابقة في عهد نظام الإنقاذ
رغم أن الاغتصاب لم يكن منهجاً بارزاً في الحروب السودانية القديمة، فإن نظام الإنقاذ (1989م2019م) مهّد لظهوره كسلاح سياسي وأمني:
• خلال حرب دارفور، دعمت الحكومة ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت انتهاكات جنسية واسعة ضد النساء في القرى.
• في المعتقلات، إستخدمت الأجهزة الأمنية العنف الجنسي لإذلال المعارضين من نساء ورجال لحد أن أنشأوا وظيفة مغتصب .
• هذه السوابق رسّخت سلوك الإفلات من العقاب، وأسهمت في تطبيع بعض جوانب العنف الجنسي كسلاح ضد الخصوم.
• ما نشهده اليوم في ظل الحرب الحالية هو تطور لهذه الممارسات، في مناخ أكثر انفلاتاً، وأكثر تطرفاً.
رابعاً: هل هو سلوك منظم؟
تكرار النمط عبر مدن مختلفة، مع تشابه أساليب الإذلال، ووجود مراكز احتجاز غير رسمية تُرتكب فيها هذه الجرائم، يشير إلى أن الأمر ليس عشوائياً. بل يبدو أن هناك:
توجيهاً ضمنياً أو سكوتاً مقصوداً من القيادة.
استخداماً سياسياً إثنياً للاغتصاب لإخضاع مجتمعات بعينها.
غياباً كاملاً لأي محاسبة داخلية أو خارجية.
خامساً: البعد الثقافي والإثني هل للظاهرة جذور ثقافية؟
أ. تركيبة المقاتلين:
قوات الدعم السريع تضم مجندين من مناطق تمتد إلى تشاد، النيجر، مالي، جنوب ليبيا، وجنوب الجزائر. بعضهم ينتمي إلى قبائل رعوية وحدودية ذات تاريخ عنيف في الاقتصاد القائم على الغزو، حيث لا يُفصل بين الغنيمة الجسدية والمادية.
ب. سياقات تبريرية:
لا توجد أدلة على ثقافة اغتصاب مؤسسية في هذه المجتمعات، لكن الخطاب الديني أو الاجتماعي في بعض تلك البيئات لا يجرّم الاغتصاب بشكل واضح، خصوصاً في سياق الحرب والعدو.
ج. تحليل عام:
ما يحدث هو مزيج من:
• انهيار الدولة والقانون.
• التبرير الإثني والديني.
• ثقافة إذلال تاريخية ضد “الآخر”.
• إرث العنف واللاإنسانية من نظام الإنقاذ.
الفصل الثالث: الاغتصاب في الحروب السودانية السابقة مقاربة تاريخية
أولاً: الحرب الأهلية الأولى والثانية (1955م2005م)
رغم طول أمد الحربين الأهليتين بين الشمال والجنوب، لم يُسجل الاغتصاب كسلاح ممنهج. كانت الانتهاكات تتركز على القتل، التهجير، وتجنيد الأطفال. ويرجع غياب ظاهرة الاغتصاب إلى:
• طبيعة الحرب ذات الطابع العقائدي والسياسي أكثر من الإثني.
• التماسك النسبي في التراتب العسكري للجيش الشعبي، على الأقل في مراحله الأولى.
• وجود ردع داخلي اجتماعي وثقافي في مجتمعات الجنوب ضد هذا النوع من الجرائم.
لكن مع نهاية الحرب الثانية، وخصوصاً أثناء الصراعات البينية بين فصائل الحركة الشعبية وانشقاق رياك مشار في التسعينيات، بدأت تظهر تقارير محدودة عن حالات اغتصاب في مناطق مثل “بور” و”ملكال”، كانت تُرتكب أحياناً لأهداف انتقامية داخلية أو إثنية.
ثانياً: حرب دارفور (2003م 2009م)
تُعد هذه الحرب أول مسرح سوداني لاستخدام الاغتصاب كسلاح منهجي:
استخدمت ميليشيات الجنجويد، بدعم من نظام البشير، الاغتصاب كأداة تطهير إثني، خاصة ضد النساء الزغاوة والفور والمساليت.
وثّقت منظمات دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”الأمم المتحدة” آلاف الحالات، بعضها تم أمام الأزواج أو في مخيمات النازحين.
تم التواطؤ الرسمي، بل والتواطؤ القضائي، في غض الطرف عن الجناة.
هذه التجربة شكّلت تحولاً نوعياً في مسار العنف في السودان، حيث انتقل من العنف “العسكري” إلى “العنف المجتمعيالجنسي”.
ثالثاً: الانتفاضات والانقلابات الاغتصاب كأداة قمع سياسي
خلال انتفاضة ديسمبر 2018م وما تبعها، وُثّقت حالات تحرش واغتصاب في فض اعتصام القيادة العامة، وهو ما أكده تقرير “لجنة نبيل أديب”.
وثقت منظمات محلية حالات عنف جنسي في معتقلات جهاز الأمن ضد ناشطات.
هذه الحوادث تشير إلى أن النظام السابق كان يستخدم الجسد كساحة لمعاقبة المعارضة، بغرض الإذلال أكثر من الإبادة.
رابعاً: مقارنة بالحرب الحالية
عند مقارنة الحرب السودانية الحالية بالحروب السابقة، يتبيّن أن استخدام الاغتصاب قد انتقل من كونه ممارسة محدودة أو تكتيكية في فترات سابقة، إلى أن أصبح سلوكاً واسع النطاق ومنهجياً في هذا النزاع. في الحرب الأهلية الأولى والثانية، وكذلك خلال الصراعات بين فصائل الجنوب، لم يكن العنف الجنسي ممارسة شائعة أو منظّمة، بل نادرة الحدوث، وغالباً ما كانت مدفوعة باعتبارات انتقامية فردية أكثر من كونها استراتيجية عسكرية.
في دارفور، بدأ الاغتصاب يظهر كسلاح إثني منظم لأول مرة، لكن نطاقه ظل محصوراً جغرافياً إلى حدٍّ ما. أما في الحرب الحالية، فإن الظاهرة لم تعد مرتبطة بجبهة معينة أو إقليم بعينه، بل انتشرت في العاصمة الخرطوم، وامتدت إلى مدن الجزيرة، وولايات دارفور، وحتى بعض مدن كردفان. وأصبح الهدف من هذا العنف الجنسي يتجاوز الإذلال الفردي إلى تفكيك النسيج الاجتماعي لمجتمعات بأكملها، عبر استهداف النساء لإخضاع مجتمعاتهن وكسر روحهن الجمعية.
من حيث طبيعة الجناة، فإن الحروب السابقة كانت في الغالب تشهد ارتكاب الانتهاكات بواسطة قوات نظامية أو فصائل واضحة القيادة، ما كان يسمح بدرجة من الانضباط، وإن كانت محدودة. أما الآن، فإن التكوين العشوائي وغير المنضبط للميليشيات، خصوصاً قوات الدعم السريع وبعض حلفائها، أدى إلى تفاقم الانتهاكات وتحولها إلى نمط سلوك جماعي دون رادع.
يمكن القول إن الحرب الحالية تُشكّل تحولاً جذرياً في أنماط العنف في السودان، حيث تحوّل جسد المرأة إلى ساحة صراع إثني وسياسي مباشر، لا تُمارس عليه الجريمة فقط، بل يُراد بها تدمير الجماعة بأسرها.
خلاصة الفصل:
ما نواجهه اليوم هو تطور خطير في طبيعة الصراع السوداني. لقد تحول جسد المرأة من ضحية عرضية في الحروب السابقة، إلى هدف مباشر واستراتيجي. وهذا يضع الحرب الحالية في خانة جديدة تاريخياً، تقارب في شراستها وتجريدها من الإنسانية حروباً شهدها العالم في رواندا والبلقان.
الفصل الرابع: العنف الجنسي كسلاح حرب قراءة مقارنة في تجارب عالمية
مقدمة
الاغتصاب في زمن الحرب ليس ظاهرة سودانية معزولة، بل جزء من نمط بشري أليم، شهدته حروب متعددة عبر التاريخ. لكنه في بعض السياقات خرج من خانة الجريمة الفردية أو العرضية إلى أن أصبح “أداة حرب” تُستخدم عمداً لهدم المجتمعات، وبث الرعب، وفرض السيطرة. في هذا الفصل، سنقارن ما يحدث في السودان بتجارب عالمية موثقة، أبرزها رواندا، البوسنة، والكونغو، ونستخلص الدروس والدلالات من تلك التجارب، وما إذا كان السودان اليوم يعيش لحظة مماثلة أم أكثر تعقيداً.
أولاً: رواندا (1994م) الاغتصاب كسلاح إبادة جماعية
شهدت رواندا واحدة من أكثر موجات العنف الجنسي دموية في القرن العشرين، حيث استخدم المتطرفون من قبائل الهوتو الاغتصاب الجماعي ضد نساء التوتسي كجزء من مشروع إبادة ممنهج. قُدّر عدد النساء المغتصبات بأكثر من 250 ألف خلال مئة يوم فقط. لم يكن الهدف الجنسي بحتاً، بل “تدمير المرأة التوتسية” وإلحاق العار بها وبجماعتها. استخدمت الميليشيات أدوات حادة، وعمليات إذلال علني، وأحياناً أجبرت الآباء على مشاهدة اغتصاب بناتهم. هذه الانتهاكات لم تكن عشوائية، بل جزء من خطاب سياسي ومنهجية قتل جماعي، وهو ما دفع المحكمة الجنائية الدولية لاعتبار الاغتصاب “فعلاً من أفعال الإبادة الجماعية” لأول مرة في تاريخ القانون الدولي.
ثانياً: البوسنة (1992م1995م) الاغتصاب كمشروع تطهير عرقي
خلال حرب البلقان، استخدمت القوات الصربية الاغتصاب على نطاق واسع ضد نساء البوشناق والكروات، حيث أُنشئت معسكرات اغتصاب خاصة، وكانت الفتيات يُختطفن ويُغتصبن يومياً، وأحياناً يُحتجزن لأسابيع أو شهور. الهدف كان تهجير السكان الأصليين، وفرض “الهيمنة الإثنية” عبر الإنجاب القسري. وُثّقت أكثر من 20 ألف حالة اغتصاب، كما اعتبرها القضاء الدولي جزءاً من جريمة التطهير العرقي. كانت هذه واحدة من أولى الحالات التي تم فيها محاكمة جريمة اغتصاب كـ”جريمة ضد الإنسانية” بشكل صريح.
ثالثاً: الكونغو الديمقراطية الحرب التي لم تنتهِ
منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، تشهد الكونغو واحداً من أطول وأعنف الصراعات المسلحة في أفريقيا، وارتبط اسمها بلقب “عاصمة الاغتصاب في العالم”. آلاف النساء، وحتى الأطفال والرجال، تعرضوا للاغتصاب على يد جماعات مسلحة ومليشيات، سواء داخل القرى أو في المخيمات أو خلال الهجمات الليلية. هنا يتحول الاغتصاب إلى سلوك اعتيادي للحرب: أداة للتجنيد، للعقوبة، لنهب الموارد، ولتحطيم المجتمعات المحلية. رغم بعض المبادرات الدولية، لم يتغير واقع الحال كثيراً، ويستمر العنف الجنسي كمأساة يومية.
رابعاً: أوجه التشابه والاختلاف مع الحالة السودانية
أوجه التشابه:
في كل الحالات، لم يكن الاغتصاب عملاً فردياً بل تم ضمن منظومة سياسية أو عسكرية أو اجتماعية.
وُجدت في جميع التجارب حالة “الإفلات من العقاب”، ما شجع على التكرار والتوسع.
العنف الجنسي استُخدم لتدمير جماعة مستهدفة، لا لإشباع غريزة.
الاختلافات:
في رواندا والبوسنة، كان الاغتصاب جزءاً من مشروع إبادة أو تطهير عرقي مركّز، له خطاب موحد وقيادة واضحة. أما في السودان، فرغم اتساع الظاهرة، لم يصدر خطاب رسمي يربط هذه الجرائم بأهداف عرقية معلنة، مما يجعل التنظيم أقل وضوحاً، لكنه لا ينفي النية المبيّتة.
الصراع في السودان اليوم أكثر تعقيداً من حيث تعدد الفاعلين، وتفكك السلطة، مما يجعل محاسبة الجناة أصعب.
كذلك، لا يزال المجتمع الدولي يتعامل مع الأزمة السودانية كحرب أهلية أو نزاع داخلي، وليس كمسرح جرائم إبادة أو تطهير ممنهج، رغم وفرة الأدلة.
خلاصة الفصل:
العنف الجنسي في السودان ليس ظاهرة جديدة عالمياً، لكنه يشكّل واحدة من أبشع تكراراته المعاصرة في أفريقيا. وإذا لم يتم الاعتراف به كجريمة جماعية، ولم يُفتح له مسار للعدالة، فإن خطر إعادة إنتاجه سيظل قائماً. التجارب العالمية تؤكد أن الاعتراف، التوثيق، والعقاب الدولي الصارم، هي وحدها التي تضع حداً لهذا النوع من الجرائم التي تستهدف الجسد كمدخل لتحطيم الأمة.
الفصل الخامس: التأثيرات المستقبلية للعنف الجنسي في الحرب السودانية
مقدمة
ما جرى من اغتصابات ممنهجة في الحرب الحالية ليس مجرد أثر جانبي لنزاع مسلح، بل كارثة اجتماعية ونفسية وإنسانية ستمتد آثارها لعقود. هذه الجرائم لم تستهدف أفراداً فقط، بل حاولت تفكيك الروابط المجتمعية، وإعادة تشكيل ميزان القوة داخل الأسر والمجتمعات بوسائل الإذلال والتدمير الرمزي. في هذا الفصل، نسلط الضوء على ما قد تتركه هذه الجرائم من جراح غائرة في الجسد السوداني، وكيف يمكن أن تُشكّل مستقبل البلاد على المستويات الاجتماعية، السياسية، القانونية، وحتى النفسية.
أولاً: الآثار الاجتماعية والمجتمعية
1. تفكك الأسرة والمجتمع المحلي:
كثير من الضحايا سيواجهن النبذ أو العزلة، خصوصاً في المجتمعات التقليدية التي تَربط الشرف بجسد المرأة.
بعض الأسر قد تنهار بسبب عجز أفرادها عن تجاوز الصدمة أو استيعاب الجريمة، خاصة إذا ارتُكبت أمامهم أو في سياق استهداف جماعي.
2. اختلال الأدوار الاجتماعية:
النساء اللواتي تعرضن للعنف قد يتراجعن عن أدوارهن الاقتصادية والاجتماعية، إما بسبب الصدمة أو الوصمة.
الأطفال الناتجون عن هذه الجرائم قد يُواجهون أزمات هوية، ورفضاً مجتمعياً، مما يهدد بخلق جيل جديد من المعزولين والمهمّشين.
3. زعزعة الثقة بين المكونات المجتمعية:
إذا ارتبطت الجرائم بهويات إثنية أو مناطقية محددة، فإن آثارها قد تُشعل نزعات ثأر وانتقام، وتعيد إنتاج الكراهية على أسس جديدة، وهو ما يُقوّض أي مشروع وطني جامع.
ثانياً: الآثار النفسية والصحية
آلاف النساء والأطفال سيعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة اكتئاب، قلق دائم، وربما أفكار انتحارية.
انتشار الأمراض المنقولة جنسياً، خاصة في ظل غياب نظم علاجية فعّالة، وندرة مراكز الدعم النفسي والطبي.
امتداد الأثر إلى الأجيال التالية، عبر توريث مشاعر الخوف والعار والرفض الذاتي.
ثالثاً: الآثار السياسية والحقوقية
1. لا شرعية بلا مساءلة : حدود أخلاقية وقانونية لدمج المليشيات
ما ارتُكب من جرائم يُعد أدلة دامغة يجب أن تُستخدم في أي محاكمات وطنية أو دولية مستقبلاً، ومسؤوليتها الجنائية يجب أن تطال كل من تورّط فيها، أفراداً او قيادات. كما أن حجم هذه الانتهاكات وطبيعتها يجب ان تشكّل حاجزاً أخلاقياً أمام أي محاولة لدمج هذه القوات مستقبلاً دون محاسبة ومساءلة حقيقية، بصرف النظر عن وضعها الحالي كقوة أمر واقع.
2. مطلب العدالة الانتقالية:
سيصبح تقديم الجناة للمحاكمة مطلباً مركزياً للضحايا والناشطين.
تجاهل هذه القضية قد يعرقل عمليات السلام والمصالحة، كما حدث في رواندا والبوسنة.
3. إعادة تعريف مفهوم “الأمن”:
ما جرى يجب أن يدفع الي إعادة النظر في مفهوم الحماية والعدالة بالنسبة للنساء ، وتوسيع دورهن في عمليات صنع القرار.
رابعاً: خطر الاستدامة والتطبيع
إذا لم تتم مواجهة هذه الجرائم بموقف حازم قانونياً وأخلاقياً، فإن أخطر ما قد يحدث هو “تطبيع” الاغتصاب كسلاح حرب، واعتباره مجرد تفصيل هامشي في معركة السلطة. وهذا يهدد بتكرار الظاهرة في النزاعات المقبلة، وبتحويل السودان إلى بيئة طاردة للمرأة، ولأي مشروع ديمقراطي أو عدالة اجتماعية.
خاتمة الفصل:
الاغتصاب في هذه الحرب هو جريمة ضد المجتمع، ضد المستقبل، وضد مشروع الدولة ذاتها. وإذا لم نواجه هذه الحقيقة بجدية، فسنعيش في وطن مكسور، تسكنه أجساد صامتة، وأرواح مثقوبة.
الفصل السادس: العدالة الانتقالية ومسار السلام التحدي الأكبر في مواجهة جرائم العنف الجنسي
مقدمة
في سياق النزاعات المسلحة، لا تنتهي الحروب بانتهاء المعارك، بل تبدأ معركة أخرى أكثر تعقيداً وهي معركة تحقيق العدالة، ورد الحقوق، وبناء سلام مستدام. وتُعد الجرائم الجنسية، بما تحمله من طابع شخصي وعام في آن واحد، من أصعب الملفات التي تواجه مسارات العدالة الانتقالية. فهل يمكن للسودان، بعد هذه الحرب، أن يضع أسساً حقيقية لمحاسبة من ارتكبوا هذه الفظائع؟ وهل تملك الضحايا صوتاً في طاولات التفاوض؟ هذا ما يناقشه الفصل.
أولاً: محددات العدالة الانتقالية في الحالة السودانية
ضعف الإرادة السياسية: القوى المسيطرة اليوم، سواء عسكرية أو مدنية، لا تملك حتى الآن موقفاً صريحاً تجاه الجرائم الجنسية، بل تتجنب التطرق إليها باعتبارها موضوعاً محرجاً أو مهدداً للتحالفات.
غياب المؤسسات العدلية الفاعلة: القضاء السوداني، الذي أُفرغ من محتواه طيلة عقود، غير مهيأ بعد للتعامل مع هذا النوع من القضايا، خصوصاً في ظل الانقسامات والانهيار المؤسسي.
ثقافة الإفلات من العقاب: لم يُحاسب أحد عن الجرائم التي ارتُكبت في دارفور أو جبال النوبة أو حتى مجازر الثورة الأخيرة، ما يُعزز الشكوك حول جدية أي عملية عدالة مستقبلية.
ثانياً: التحديات الخاصة بالعنف الجنسي
صعوبة التوثيق: كثير من الضحايا لا يُبلّغن عن الجريمة خوفاً من الوصمة أو الانتقام، ما يجعل حصر الأرقام وتحديد الجناة مهمة شبه مستحيلة دون آليات حماية فعالة.
حاجة الضحايا إلى الدعم الشامل: العدالة ليست محاكمة فقط، بل تشمل تعويضات، رعاية نفسية، اعتراف رسمي بالانتهاك، وإدماج اجتماعي. وهذا يتطلب إرادة سياسية وتمويلاً طويل الأمد.
التقاطع مع الأعراف المجتمعية: كثير من المجتمعات المحلية تُفضل الصمت، أو حل القضايا بـ”الصلح الأهلي”، ما قد يُجهض إمكانية المحاسبة القضائية، ويُعيد إنتاج الإفلات من العقاب.
ثالثاً: السيناريوهات الممكنة
1. المحاكم المحلية: رغم ضعفها، فإن إصلاح النظام القضائي وإقامة محاكم خاصة بالعنف الجنسي قد تكون خياراً مستقبلياً إذا توفرت الإرادة.
2. المحاكم المختلطة أو الدولية: قد يكون من الضروري الاستعانة بخبرات دولية، أو تكوين محاكم مختلطة (محليةدولية)، كما حدث في سيراليون أو كمبوديا.
3. العدالة المجتمعية التصالحية: نموذج بديل، يركز على الاعتراف والاعتذار والتعويض المجتمعي، لكنه محفوف بالمخاطر إذا لم تُحترم حقوق الضحايا بشكل صارم.
رابعاً: ضرورة تضمين النساء والضحايا في مسار السلام
لا يمكن تحقيق سلام حقيقي دون تمثيل المتضررات في طاولات التفاوض، وتضمين قضايا العنف الجنسي كجزء لا يتجزأ من أي اتفاق سلام.
التجارب العالمية أثبتت أن السلام الذي يتجاهل النساء، أو يتجاوز العدالة، يكون هشاً، ويُعيد إنتاج العنف في صور أخرى.
خاتمة الفصل
العدالة الانتقالية ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية لمجتمع جُرح في عمقه. وإذا لم نبدأ من حيث نزف الجرح، فإننا لا نُداويه بل نُخدّره إلى حين. جرائم العنف الجنسي في الحرب السودانية ليست أحداثاً طارئة، بل مفصلية، وعلى أساس الاعتراف بها ومحاسبة مرتكبيها تُبنى مصداقية أي مشروع سياسي قادم.
الفصل السابع: التوصيات نحو مواجهة جذرية للظاهرة وبناء مجتمع آمن
مقدمة
لا تكتمل أي دراسة تحليلية دون تقديم توصيات عملية تمثل خارطة طريق لمعالجة ما تم تناوله. والاغتصاب كسلاح في الحرب السودانية ليس فقط كارثة إنسانية، بل إنذار مبكر لانهيار قيمي واجتماعي شامل إن لم تتم مواجهته بصرامة. في هذا الفصل، نطرح مجموعة من التوصيات الموجهة لصنّاع القرار، ومنظمات المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، والمجتمعات المحلية.
أولاً: على المستوى السياسي والدستوري
إدراج جرائم العنف الجنسي في كل اتفاقيات السلام والتسويات السياسية باعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم.
منع منح أي حصانات للأطراف المتورطة في جرائم الاغتصاب .
وضع سياسات وطنية لمناهضة العنف الجنسي في النزاعات، وربطها مباشرة بإستراتيجيات الأمن القومي.
ثانياً: على مستوى العدالة والمساءلة
تشكيل لجنة وطنية مستقلة لتوثيق جرائم العنف الجنسي بمشاركة دولية.
دعم إصلاح النظام القضائي وتدريب كوادره على التعامل مع قضايا العنف الجنسي.
النظر في إنشاء محاكم خاصة أو مختلطة لملاحقة الجناة.
ثالثاً: على مستوى الدعم والرعاية للضحايا
توفير دعم نفسي وطبي عاجل للناجيات من الاغتصاب.
إنشاء مراكز حماية وإيواء، خاصة في المناطق المتأثرة بالحرب.
إقرار برامج لإعادة إدماج الأطفال الناتجين عن الاغتصاب، ومنع استخدامهم في أي أنشطة عسكرية أو أمنية.
رابعاً: على مستوى الوعي المجتمعي
تنفيذ حملات توعية واسعة ضد وصم الضحايا، وإعادة تعريف مفاهيم الشرف والكرامة.
دمج التثقيف الجنسي والاجتماعي في المناهج التعليمية، مع التركيز على المساواة الجندرية.
تشجيع القيادات الدينية والمجتمعية على إدانة هذه الجرائم بوضوح.
خامساً: على مستوى التعاون الدولي
دعوة الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية للقيام بدور فعال في التحقيق والدعم.
فرض عقوبات دولية على الأفراد والجهات المتورطة في تنظيم هذه الجرائم.
ربط المساعدات الدولية بإجراءات الإصلاح ومحاسبة الجناة.
خاتمة الدراسة
إن الجرائم الجنسية التي صاحبت الحرب السودانية تشكل جريمة حرب موصوفة، وجريمة ضد الإنسانية والمستقبل معاً. الرد عليها لا يكون بالشجب والبيانات، بل بإعادة بناء منظومة قيم وعدالة ومؤسسات تحمي الإنسان السوداني من أن يُستباح، وتحمي الوطن من أن يُعيد إنتاج ذاته كمجتمع جريح.
إن التعامل مع مرتكبي جريمة الاغتصاب يجب أن يوازي في شدته حجم الصدمة وآثارها العميقة، إذ لا يمكن تبرير استخدام العنف والسلاح ضد نساء وعُزّل، فذلك يجسد أقصى درجات الجبن والانحطاط الأخلاقي، ويستدعي أقصى درجات المحاسبة والعقاب . وخصوصا . ويزيد من فداحة الجريمة هذا التناقض الفاضح بين الخطاب المعلن للحرب، الذي يُسوّقها كحرب من أجل الكرامة واستعادة الديمقراطية، وبين السلوكيات الميدانية التي تنتهك أبسط القيم الإنسانية. فكيف تُرفع رايات التحرر والعدالة، بينما تُداس كرامة النساء وتُستباح أجسادهن؟ إن هذا التناقض يكشف زيف الشعارات ويعرّي حقيقة المشروع الحربي بوصفه مشروع قهر لا تحرير.
كما يتوجب على المجتمع السوداني أن يتعامل مع الضحايا، نساءً وأطفالاً، بروح من التضامن والرعاية، لا الإدانة أو النبذ، وأن يرفض كل أشكال الوصمة الاجتماعية التي تلاحق المغتصبات أو أطفالهن. فهؤلاء الضحايا يحتاجون إلى احتضان مجتمعي وعناية نفسية وصحية واجتماعية، إلى أن تتم معالجة الظاهرة جذريًا بمنهج علمي وقانوني عادل.
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة