العميد مهيلب عبد المجيد : الأرواح جنود مجندة
![](https://alarabstyle.com/wp-content/uploads/2024/08/كاتب-قلم.jpg)
عمر القوني
من الأحاديث المتواترة المشهورة حديث «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» فقد رواه جم من الصحابة وأخرجه البخاري في صحيحه وأحمد في مسنده وابن وهب في جامعه، وهو حديث أثبتت صحته التجارب، فإنك تلاقي أناساً لأول مرة فتجد روحك تحبهم تلقائياً بلا معرفة سابقة، وتلاقي آخرين فيحدث العكس.
عندما كنت في السودان قبل أكثر من عشرين سنة، وجدت عدداً من أفراد عائلتي الممتدة ضباطاً في الجيش، وعبرهم التقيت بعدد من الضباط، وكان ممن التقيت منهم ضابط صغير اسمه مهيلب عبد المجيد، وهو اسم فريد لم أسمع بمثله قط قبل ذلك، وكان شاباً دمث الأخلاق مزاحاً، أضحكني مراراً بأحاديث فكاهية بريئة لا تتنافى مع أخلاقيات وظيفته، ثم تفرقنا، ومرت السنوات ونسيت السودان ونسيت لقائي بهذا الشاب كما نسيت السودان وأهله حتى الذين تربطني بهم صلة القربى والزمالة، فلا أكاد أذكر إلا عشرة أو عشرين من الشعب السوداني الذي يربو عدده على الأربعين ألف ألف من الأنفس.
ظننت أن روحي قد نسيت هذا الشاب المزاح كما نسيه عقلي، حتى جاء يوم تذكرته بشكل غريب جداً لا أجد له تفسيراً، كنت في مكتبي في أقصى شمال غرب كندا منهمكاً في عملي، ويوجد على يميني داخل مكتبي طابعة ضخمة نطبع بها المخططات الإنشائية كبيرة الحجم لشبكات البترول لنبعث بها إلى مواقع العمل، ففجأة انتبهت كأني لمحت شخصاً واقفاً عند الطابعة، فإذا هو نفس الشاب الضحك المزاح مهيلب وهو يبتسم، فتبسمت وعدت إلى عملي، ولم أعر الأمر كثير انتباه، ولكن الأمر تكرر الأمر مراراً، فتعجبت ولم أجد تفسيرا لتذكري إياه بعد لقاء عابر حدث قبل سنين طويلة، ثم أعرضت عن الأمر وعدت إلى عملي.
بعد رجوعي إلى البيت مساءً خلدت إلى السرير لأنام، وفجأة رأيت مهليب يقف أمامي مبتسماً، وتكرر الأمر، كلما أخذتني سنة وكدت أستغرق في النوم رأيت وجهه مبتسماً كأنه واقف أمامي في الغرفة فيذهب عني النوم، وتكرر الأمر كثيراً، فأخذت لوحتي الإلكترونية فبحث عن اسم مهيلب في محرك البحث غوغل، فكانت صدمتي أني وجدت أنه قد لقي حتفه في نفس اليوم، وكان قائداً لمتحرك من متحركات الجيش، فتحيرت من هذه الصدفة الغريبة، كيف لعقلي الباطن أن لا يذكر هذا الشاب إلا يوم وفاته؟ . ولماذا؟ فلم أجد تفسيرا منطقياً، فقمت وصليت ركعتين ودعوت له بالرحمة والمغفرة، ثم عدت إلى سريري فلم أره مرة أخرى.
لم أشأ أن أكتب هذه القصة ولم أخبر بها أحداً حتى الآن، وذلك حتى لا يظن بي أحد ظن السوء أني مؤيد للجيش، أو أني أدعي لنفسي أو لمهيلب كرامة، أو يتهمني أحد بالسذاجة وعدم التفكير المنطقي، ولكني رأيت اليوم أن أكتب هذه القصة، لأسلي نفسي وأهل مهيلب وأقربائه وأحبابه، وأدعوهم إلى أن يحمدوا الله تعالى الذي قضى على مهيلب بالموت ولم يشارك في الجرائم البشعة التي ارتكبها الجيش في حق الأبرياء في الجزيرة، فأن الآن أحمد الله تعالى أنه لم يتبق أحد من الضباط في عائلتي حياً، فقد قتلوا جميعاً، فهنيئاً لهم موتاً قبل الفتن وقتل الأبرياء بذريعة أنهم متعاونون مع العدو، فقد روى مالك في موطأه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ. وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ. وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ. وَإِذَا أَرَدْتَ فِي النَّاسِ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ، غَيْرَ مَفْتُونٍ».
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَمهيلب ذُنُوبَهُ، وَأَفْسِحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَأَعْظِمْ نُورَهُ، وَأَضِئْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَته فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ ، وَاجْعَلْ كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ، وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، . وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْعَلْ قُلُوبَهُمْ عَلَى قُلُوبِ خِيَارِهِمْ .
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة