عمر البشاري

هذه محاولة لتقديم قراءة تحليلية في نصوص قصيرة لبوستات فيس بوك للباحثة والأكاديمية المصرية المخضرمة أماني الطويل.

أثار البيان المصري الأخير حول ما سُمّي بـ«الخطوط الحمراء» في السودان جدلًا واسعاً، زادته تعقيداً تصريحات الباحثة أماني الطويل، التي رأت أن مصر لن تنحاز إلى طرف سوداني ضد آخر، بل ستتبنى ما أسمته «التوازن الاستراتيجي» بين الأطراف المتحاربة.
عندما ذكرت في بوست قصير على الفيس :
( امبارح مصر نشرت وثيقة توجهات الدولة الاستراتيجية واسمتها التوازن الاستراتيجي . تفتكروا في السودان هتنحاز لطرف سوداني علي حساب الٱخر .ظني وتقديري الشخصي أنها سوف تمارس التوازن بين الأطراف السودانية)

هذا الطرح، رغم لغته الدبلوماسية الناعمة، لا يصمد أمام الفحص السياسي ولا أمام السجل التاريخي للعلاقة المصريةالسودانية. فمصر، عمليا وتاريخياً منحازة للمؤسسة العسكرية السودانية، ولا تخفي ذلك. كما أنها تدرك أن هذه المؤسسة تمثل العمود الفقري للدولة المركزية التي تشكلت على أسس الهيمنة والعنف، والتي تسيطر عليها، بدرجات متفاوتة، الحركة الإسلامية.

هذه الدولة لم تنشأ بمعزل عن الدور المصري، بل تعود جذورها إلى مشروع محمد علي والدولة التركيةالمصرية، حين نُظر إلى السودان بوصفه فضاءً للموارد: الذهب، الرقيق، العاج، الصمغ، وريش النعام، وقبل كل شيء مياه النيل، التي ما تزال تمثل شريان الحياة لمصر، وحاضرة بقوة في صراعها مع إثيوبيا حول سد النهضة. ثم أُعيد إنتاج هذه الدولة لاحقاً بالشراكة مع الاستعمار البريطاني، مع غرس نواة النخب السياسية الحديثة المعروفة في السودان بـ«الجلابة».

بعض هذه النخب، التي ظلت منقسمة أيديولوجياً لعقود، وجدت نفسها اليوم متوحدة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين دفاعاً عن الدولة المركزية التي ورثتها، والتي تقوم مصالحها المشتركة مع مصر على استمرار سيطرة المركز وهيمنته على الأطراف، باستخدام الجيش كأداة عنف مضمونة، وجهاز الخدمة المدنية كآلية للنهب المنظم.

من هذا المنطلق، يبدو ادعاء الحياد المصري وعدم الانحياز لأي طرف سوداني ادعاءً زائفاً. غير أن السؤال الأهم ليس في نفي هذا الادعاء، بل في فهم **توقيته ودلالاته**. لماذا تقول الطويل أن مصر اليوم لن تنحاز، رغم أن انحيازها قائم وموثق؟

الإجابة، في تقديري، تكمن في إدراك مصري متزايد بأن الواقع السوداني لم يعد قابلاً للإدارة بالآليات القديمة، فثورة ديسمبر، وما أعقبها من انقلاب ثم حرب، أحدثت هزّات عميقة في بنية الدولة المركزية، والحرب التي كان يُراد لها أن تعيد تثبيت السيطرة التقليدية، خرجت عن مسارها، بفعل تشابك المصالح الإقليمية والدولية، لتفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة: سودان موحد أو منقسم، لكن في الحالتين خارج الأطر التي رسمتها الهيمنة المصرية التاريخية مسبقاً وبعناية فائقة.

من هنا يمكن قراءة تصريحات أماني الطويل بوصفها محاولة لتخفيف حدّة الخطاب الرسمي، وإرسال رسالة مبطنة مفادها أن مصر لا تزال حاضرة في المشهد، ولديها مصالح تاريخية واستراتيجية في السودان، لكنها لم تعد قادرة على الانفراد بتحديد مساره.

ويعزز هذا الفهم منشور لاحق للطويل في الفيس بوك هذا نصه:
(البوست اللي فات زعل ناس لاني فهمي عن الدولة هو أن تسع كل ناسها . وفهم بعض السودانيين عن الدولة أنها بتاعتهم لوحدهم الفرق بين الاداركيين هو اللي . خلي مصر تعيش 5000سنة .وخلي فيه هوية مصرية متفق عليها. انا عقلي مصري وده اللي مخلي بعض الناس بنزعل مني بعض الوقت وليس كل الوقت .وفي الاخير الله المستعان علي كل امر عسير)

وقد علّقت فيه كما هو واضح على ردود الفعل الغاضبة التي أثارها حديث «عدم الانحياز»، خاصة من أنصار الدولة المركزية، الذين طالب بعضهم(التجاني عبدالقادر في مقال رائج) مصر والسعودية بالتدخل المباشر لصالح الجيش. ففي ذلك المنشور، تقرّ الطويل وإن بعبارات مواربة بأن جوهر الأزمة السودانية يكمن في دولة بهوية أحادية عربوإسلامية، وهي هوية جرى ترسيخها بعناية عبر عقود طويلة كما أشرنا .

صحيح أن هذا الإقرار يأتي في صيغة خطابية ملتفة، تحاول التنصل من المسؤولية التاريخية، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن تحول في الإدراك المصري، مفاده أن السودان يتجه نحو مرحلة جديدة، تقوم على الاعتراف بالتعدد، والوحدة في الاختلاف، وإعادة تنظيم العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الشعوب السودانية على أسس العدالة والشمول، لا الهيمنة والإقصاء.

ما نشهده اليوم، إذن، ليس «توازناً استراتيجياً» بقدر ما هو اعتراف غير معلن بتراجع القدرة على السيطرة. وهو ما يمكن اعتباره إيذاناً بغروب شمس الدولة المركزية التي احتكرتها النخب الشمالية، وخدمت طوعاً أو كرهاً المصالح المصرية، وبداية واقع سوداني جديد لم تعد الوصفات القديمة صالحة لإدارته.

 

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.