نبيل منصور

 

ماذا تعني العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان منذ بداية الحرب؟ هل هي أدوات ردع وحماية مدنية فقط، أم أنها تحمل أبعادًا أعمق في رقعة شطرنج دولية تتجاوز حدود السودان؟.

 

فمنذ اندلاع الحرب في السودان بين الجيش والدعم السريع، سارعت الولايات المتحدة إلى فرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية والسياسية استهدفت أفرادا وكيانات محسوبة على طرفي النزاع. وعلى الرغم من أن هذه العقوبات تُقدَّم في الخطاب الرسمي الأمريكي باعتبارها ردًّا إنسانيًا على الانتهاكات، فإن المتأمل في توقيتها وتفاصيلها وسياقها الإقليمي والدولي لا بد أن يلاحظ أنها تتجاوز مجرد الردع أو الحماية، وتقترب من كونها أداة شاملة لإعادة تشكيل النفوذ والسيطرة على مستقبل السودان.

 

أولاً : الحفاظ على التوازن العسكري

الولايات المتحدة لا تريد حسمًا عسكريًا، لا من الجيش ولا من الدعم السريع. فحسم الحرب لصالح أحد الطرفين من شأنه أن يُنتج واقعاً سياسياً وأمنياً جديداً وقد يكون مأساوياً أكثر بشكل يتعذر التحكم فيه، خصوصاً في ظل تعقيدات السودان الجيوسياسية والقبلية. ولذلك، تأتي العقوبات كأداة لتقييد القوتين معًا، وإبقائهما في حالة إنهاك مستمر، حتى لا يخرج ميزان القوى عن السيطرة.

 

ثانياً : الحد من التمدد الروسي والصيني والإيراني والتركي

السودان تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ساحة مفتوحة للتنافس الدولي، مع محاولات روسية لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان، وتواجد صيني اقتصادي واسع، وتحركات تركية ناعمة، وتقارير عن دعم إيراني بطائرات مسيّرة. هذه التمددات تمثل خطراً استراتيجيًا على النفوذ الغربي، وتُعيد تشكيل الخريطة الإقليمية في غير مصلحة واشنطن. لذلك، فإن العقوبات تُستخدم أيضًا كوسيلة لإغلاق الباب أمام التغلغل الشرقي في السودان.

 

ثالثًا : رسائل غير مباشرة للحلفاء الإقليميين

القوى الإقليمية المتورطة في الحرب خاصة الإمارات ومصر تتلقى عبر العقوبات رسائل أمريكية مباشرة وغير مباشرة. فبينما كانت الإمارات لاعباً رئيسياً في دعم الدعم السريع، ومصر تدعم الجيش بدرجات متفاوتة، فإن العقوبات تذكر هذه الأطراف بأن الولايات المتحدة ما تزال ممسكة بخيوط اللعبة، وقادرة على فرض الكوابح متى شاءت. بل وقد تكون إحدى الرسائل غير المُعلنة موجهة أيضاً إلى الحوثيين، بعد الاتفاق الغامض الأخير بينهم وبين واشنطن، والذي ربما تضمن التزاماً بعدم التورط في الملف السوداني.

 

رابعاً : التمهيد لحظر تسليح دولي

العقوبات قد لا تكون سوى الخطوة الأولى في سلسلة إجراءات دولية، تبدأ بحظر توريد السلاح إلى السودان، وربما تتطور إلى إنشاء آلية دولية للتفتيش على الأسلحة والمطارات والمنافذ. وهذا السيناريو سيضع السودان فعليا تحت رقابة دولية طويلة المدى، ويُجهِض أية إمكانية لبناء مشروع وطني مستقل للسودانيين.

 

خامساً : لجنة دولية للأسلحة الكيميائية

 

ظهور تقارير تتحدث عن استخدام أسلحة كيميائية في الحرب في بعض مناطق سكن المدنيين خصوصًا في بعض أجزاء من ام درمان واخري في دارفور قد يكون تمهيداً لمشروع دولي جديد، بقيادة أمريكا أو عبر مجلس الأمن، لتكوين لجنة تحقيق دولية. وقد تُستغل هذه اللجنة لاحقاً كورقة سياسية لابتزاز أحد الطرفين أو الطرفين معاً، وفرض تسوية تُلبي المصالح الدولية أكثر من مصلحة الشعب السوداني.

 

سادساً : ورقة ضغط لصالح الإمارات

إذا أُدين الجيش باستخدام أسلحة محرّمة دولياً سواء ثبت ذلك أو كان مجرد اتهام فقد تُستخدم هذه الورقة لتقوية موقف الإمارات، المتهمة بدعم جرائم الدعم السريع. حينها يمكن الدخول في مساومة سياسية: إسقاط قضية السودان ضد الإمارات مقابل إسقاط الاتهامات ضد الجيش أو تخفيفها. وهكذا تتحول العدالة الدولية إلى أداة مقايضة جيوسياسية.

 

سابعاً : إجبار الأطراف على التفاوض

في نهاية المطاف، الغرض النهائي لكل هذه الإجراءات هو إجبار الأطراف على الجلوس إلى طاولة التفاوض، ليس تفاوضًا حرًا، بل تفاوضًا يجري تحت ضغط العقوبات، وتهديد المحاكم، وإغراءات رفع الحظر والدعم المالي. وهو تفاوض قد لا يُفضي إلى حل دائم بقدر ما يكرّس النفوذ الدولي في البلاد.

 

ثامناً : تغييب الصوت الشعبي

 

في خضم هذه الحسابات المعقدة، يغيب الشعب السوداني كفاعل رئيسي. لا صوت لضحايا الحرب، ولا اعتبار لرأي الشارع، ويعود ذلك إلى تفرّق القوى السياسية والمدنية والمجتمعية، وعجزها عن التوحد في كيان واحد منذ طلقة الحرب الأولي يُمكّنها من أداء دورها الطبيعي في التعبير عن تطلعات الناس، وتقديم بديل حقيقي يفرض إرادة شعب لطالما ناضل من أجل الحرية والاستقلال.

 

تاسعاً : مناشدة إلى ما تبقى من ضمير وطني داخل الجيش

في ظل الحديث المتصاعد عن استخدام أسلحة كيميائية في الحرب، ومع احتمال إتجاه دولي نحو تشكيل لجنة تحقيق، نرى من واجبنا الوطني توجيه هذه المناشدة إلى القيادات داخل الجيش غير المرتبطة بمشروع الإسلاميين أو التمكين:

هناك أحاديث تقول بأن من يقف وراء ذلك قد يكون تيار محدود داخل الجيش، محسوب على الإسلاميين، يسعى إلى توريط المؤسسة العسكرية بالكامل في هذه الجريمة، بهدف شلّ أي توجه داخلي نحو السلام أو وقف الحرب بشكل عام لأسباب لم تعد خافية علي الجميع.

إن هذا التوريط هو خطة استراتيجية لإغلاق الباب أمام أي تيار وطني داخل الجيش يمكن أن يسعى لإنقاذ البلاد من الانهيار.

نناشدكم أن تتحركوا. أن تقولوا الحقيقة. أن تنقذوا الجيش من مصير يراد له أن يُصبح ذراعًا لمشروع شمولي جديد لا علاقة له بمصالح الشعب ولا بوحدة السودان. إن السكوت عن هذه الجريمة في حال تأكدها سيُعتبر تواطؤاً ضمنيًا، ولن تُجدي نفعًا تبريرات اللحظة حين تُكتب الرواية في صفحات التاريخ وفي ضمائر الأجيال القادمة.

 

خلاصة :

العقوبات الأمريكية على السودان بإستخدام أسلحة كيميائية ليست مجرد رد فعل على جرائم حرب أو فظائع إنسانية، بل هي جزء من هندسة سياسية معقدة تهدف إلى ضبط مسار الحرب، وتوجيه مخرجاتها، وتحديد هوية السودان القادم. إنها محاولة لضرب عدة عصافير بحجر واحد: تقييد أطراف الحرب، كبح النفوذ الشرقي، تحييد الخصوم الإقليميين، ضبط مسار التفاوض، والتحكم في المستقبل السياسي والعسكري للبلاد.

لكن تبقى المأساة أن كل هذه المعادلات تُدار فوق جماجم السودانيين، وأن الوطن يُحوَّل من جديد إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية، بدل أن يكون مشروعًا لشعب حرّ يريد أن يُقرّر مصيره.

وبذلك، فإن السؤال “ماذا بعد؟” لا يحمل جوابًا بسيطاً، بل يُحيلنا إلى مشهد طويل من الترتيبات الدولية، حيث لا يبدو أن مصلحة السودانيين هي أولوية في الأفق القريب، ما لم يتوحد صوتهم ويصنعوا مشروعهم الوطني المستقل.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.