بينما تُلاحق حكومة الأمر الواقع في بورتسودان ناشطين ومعارضين سياسيين بتهم التعاون مع الدعم السريع، وتحرم آخرين من حقهم في التنقل أو حتى استخراج جوازات سفر، كان القيادي المنشق عن الدعم السريع إبراهيم بقال سراج يعبر مطار إنجمينا في طريقه إلى إسطنبول، حاملًا جوازًا دبلوماسياً صادرًا عن الحكومة نفسها، بعد أن شارك في قتالها منذ اندلاع حرب منتصف أبريل.
كمبالا: التغيير
قبل نحو عام، تكرر المشهد حين أصدر قائد الجيش عبدالفتاح البرهان عفوًا خاصًا عن أبو عاقلة “كيكل”، قائد قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة، الذي وُجهت إليه اتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة، مقابل صفقة تقضي بإسقاط التهم الموجهة إليه مقابل انخراطه في القتال إلى جانب القوات المسلحة.
جواز يفتح الأبواب
في مقطع مصور نُشر على منصات التواصل الاجتماعي، قبل أيام كشف بقال تفاصيل ما وصفه بمحاولة تسليمه إلى قوات الدعم السريع أثناء وجوده في تشاد. وأوضح أنه مُنع من مغادرة المطار رغم حيازته جواز سفر دبلوماسياً، قبل أن يتدخل السفير السوداني والملحق العسكري لتأمين سفره بمرافقته حتى تسليم الطائرة.
وأضاف أن وزير الأمن التشادي، المنتمي إلى مجموعة الماهرية التي تُعد من الحواضن الاجتماعية للدعم السريع، هو من وجه بطلب تسليمه، غير أن تدخل السفارة السودانية حال دون ذلك.
روايته أعادت إلى الواجهة سؤالاً حول معايير الدولة في منح الامتيازات، خصوصاً لمن كانوا حتى وقت قريب في صف ما يُوصف بـ”العدو”، في حين يُحرم آخرون من وثائقهم الرسمية لمواقف سياسية أو انتماءات قبلية.
وتنشر صفحات موالية للمؤتمر الوطني إعلاناً عن عودة إبراهيم بقال سراج، دعت فيه إلى “استقبال البطل” يوم الجمعة 14 نوفمبر، الساعة الخامسة مساءً، في صالة كبار الزوار بمطار بورتسودان الدولي.

انتقائية العدالة وسلاح الولاء
يرى الخبير الأمني عمر أرباب، أن ما يحدث ليس جديداً في المشهد السوداني، بل يمثل امتداداً لنهج قديم يقوم على مكافأة حملة السلاح وتهميش المدنيين. وقال في حديثه مع ( التغيير): “يُحاكم ضباط داخل الجيش لتقصيرهم في أداء الواجب، ويُمنح آخرون مناصب وأوضاعاً استثنائية لا يجدها حتى الذين قاتلوا طوال حياتهم داخل المؤسسة العسكرية”.
وأضاف أن تقديم التنازلات للعائدين من المليشيات يتم على أمل إضعاف الخصم، لكن التجارب أثبتت عدم جدواها أخلاقياً أو عملياً. ويؤكد أن الخلل يعكس بنية العجز والارتهان للسلاح، وعقلية قائمة على تقديم التنازلات لاستقطاب الأفراد من الجانب الآخر لإضعافه، ما يجعل الجهات الرسمية مستعدة لمنحهم كل ما يريدون لإضعاف شوكتهم، رغم أن هذه الممارسات أثبتت عدم فاعليتها وأيضًا عدم أخلاقيتها.
ويخلص أرباب إلى أن السبب الأعمق يكمن في العقلية السودانية التي ظلت تمارس هذه السياسات عبر التاريخ، ما يعكس استمرار سيطرة هذا النهج ويؤكد صعوبة تغييره على المدى المنظور.
غواصات واستخبارات
وفيما يتعلق بدوافع العفو والتقارب مع شخصيات مثيرة للجدل مثل كيكل وبقال، يقول محلل سياسي فضل حجب هويته لـ(التغيير) إن كليهما كان يُستخدم كغواصات استخباراتية داخل الدعم السريع.
ويضيف أن كيكل بدأ عمله العسكري تحت إمرة الناطق الرسمي للجيش الصوارمي خالد سعد، ووفق اعتراف البرهان، تم زرعه استخباراتياً داخل الدعم السريع وأدى دوره بنجاح، ما يفسر مكافأته اليوم والتغاضي عن انتهاكاته السابقة.
أما إبراهيم بقال، فهو معروف بانتمائه للنظام البائد، وظل طوال فترة الثورة مناهضًا لحكومة حمدوك ويواصل انتقادها بشكل مستمر.

ويؤكد المحلل في إفادته ل أن الجوازات الدبلوماسية توزع بلا ضوابط وبالقرارات الفوقية، تحت سيطرة كبار قادة الجيش والمتنفذين من الإسلاميين. وعلى الجانب الآخر، يتم ممارسة ضغوط على مناهضي الحرب ودعاة السلم ومؤيدي التحول المدني الديمقراطي وقيادات الحكومة المدنية من خلال الحرمان من الوثائق الرسمية والملاحقة بالانتربول بتهم سياسية، وملاحقة المواطنين العاديين المتهمين بالتعاون أو التخابر مع الدعم السريع، خاصة في غرب السودان حيث تعتبر بعض القبائل حواضن اجتماعية للدعم السريع.
وأشار المحلل إلى أن هذه الأوضاع دفعت الدعم السريع للتفكير في تشكيل حكومة موازية لتوفير الأوراق الثبوتية والعملات النقدية بعد قيام الجيش بتغيير العملة، وكذلك توفير التعليم بعد حرمان ولايات دارفور من امتحانات الشهادة الابتدائية والمتوسطة والثانوية.
وأضاف أن تعريف الجريمة في السودان صار يخضع لمعايير جديدة، حيث يُحدد الجاني بحسب الضحية، وإذا كان الضحية من الطرف المعادي حتى وإن كان مدنيًا، فلا يُعتد بالقانون، والمجد في النهاية للبندقية.

الانتهاكات ورقة سياسية
وفي قراءة سياسية، قال الصحفي والمحلل فايز السليك، إن التعامل الانتقائي مع شخصيات مثل أبو عاقلة كيكل فضح مواقف الإسلاميين الانتهازية من قضايا العدالة.
وأضاف: “الانتهاكات تُستخدم للتعبئة والتجييش لا لتحقيق العدالة. رأينا من يرفضون الحديث عن جرائم دارفور بالأمس، واتهموا من يثيرها بالعمالة، وللمفارقة، فإنهم يحتضنون اليوم ذات الحركات التي وصفوا قادتها سابقًا بالعمالة، بينما كانوا يمنحون في الوقت نفسه أوراق الوطنية للجنجويد”.
وأشار السليك في مقابلة مع لـ(التغيير) إلى أن الجيش يحمي ثلاثة من المطلوبين للعدالة الدولية مثل المخلوع البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون، وختم بأن الانتهاكات والجرائم تُستخدم للتعبئة والتجييش للحرب وتحقيق مكاسب سياسية على حساب الضحايا.
المصدر: صحيفة التغيير