دكتور الوليد آدم مادبو

“السلطة لا تفسد الرجال، بل تكشفهم.”

جورج أورويل

في الزوايا المعتمة من الوعي الجمعي، هناك دائمًا رجل يظن أنه خُلق ليحكم. لا يعرف كيف، ولا يهمه أن يعرف لماذا. فقط يشعر أن العرش له، وأن البلاد مزرعة لوالده، والعباد أقنان صامتون في مزاد مفتوح على الجهالة والضحالة وسوء التقدير.

هكذا يتجلى الجنرال البرهان: طيفٌ بلا جوهر، وجهٌ بلا ملامح، وصوتٌ بلا صدًى. رجلٌ ينهض من ركام المؤسسة العسكرية مثقلاً بوهم “الاستحقاق الإلهي”، فيظنّ أنه قدر هذا الشعب، وهو في الحقيقة محض اجترار للكارثة ذاتها: طاغية بلا قضية، حاكم بلا مشروع، وروح تائهة بين النجدين، لا لشيء إلا لتبقى في تلك المتاهة وذلك الخذلان.

من يتأمل سلوك الفريق عبد الفتاح البرهان لا يحتاج إلى تقرير نفسي ولا إلى تحليل طبي ليقتنع أن الرجل لا يحكم دولة، بل يقودها تحت تأثير اضطراب نفسي عميق، أقرب ما يكون إلى الاعتلال النفسي (psychopathy)، تغذّيه نرجسية مفرطة وشعور مرضي بالاستحقاق.

بحسب تعريف الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA)، فإن السيكوباتية ليست مجرد اضطراب في السلوك، بل خلل بنيوي في الإدراك الأخلاقي. فالمصاب بها يعاني من نقص جذري في التعاطف، وشعور زائف بالعظمة، وميل دائم إلى الكذب، والخداع، واستغلال الآخرين دون أي شعور بالذنب أو المسؤولية. ويُظهر عادةً قدرة بارعة على التلاعب العاطفي، ويتحرك وفق ما يخدم مصلحته المباشرة، لا ما يمليه الضمير أو المصلحة العامة.

ذاك هو البرهان، رجل يعيش حالة انفصام وجودي. فتارة هو “رئيس دولة” يتحدث عن السيادة والاستقلال، وتارة أخرى مرتزق سياسي يعرض بلاده في مزاد التحالفات الرخيصة، من تل أبيب إلى طهران إلى السعودية. وهو في كل الحالات لا يبدو واعيًا للتناقضات، بل غارقًا في وهم أنه يُحسن التدبير، وأن التاريخ ينتظره ليُخلده. لكن الحقيقة مغايرة تمامًا: نحن أمام شخصية لا مرجعية لها. لا أخلاق توجهها، لا وطن يسكنها، ولا إيمان يردعها. هو رجل فقد بوصلته تمامًا، فانفصمت علاقته بالواقع، وصار يرى في كل تقلب تكتيكًا، وفي كل خيانة براعة، وفي كل انكسار فرصة.

هو ضد الإسلاميين علنًا، ومعهم سرًا. يحارب الدعم السريع بالنهار، ويتوسل الوسطاء ليلًا. يرسل رسائل ودّ لتل أبيب، ثم يغازل محور المقاومة في ذات الأسبوع. مخادعٌ لنفسه أولًا، قبل أن يخدع الآخرين. وذاك هو عين المرض. انظر إلى خطاباته، ستجد لغته فوضوية، بلا رابط ولا نبرة ولا رؤية. وانظر إلى تعييناته، ستلحظ عقلًا غير مستقر، يتأرجح بين الانغلاق والتردد، كأنما يتخذ قراراته تحت ضغط داخلي لا يفهمه حتى هو نفسه. وكلما ضاقت عليه الدوائر، لجأ إلى ارتجال يزيد الفوضى، لا إلى إصلاح يرمّمها.

ولأن الانفصام لا يأتي بمفرده أو بمعزلٍ عن محيطه، فإن من حوله من انتهازيين وأصحاب أجندات يعتاشون على هذا الخلل. يدركون هشاشته، ويعرفون أنه يبحث عن الولاء في أي وجه، ولو من وجوه أولئك الذين أسقطهم الشعب بإرادته وعزمه وعظيم بلائه. وهم، أي أولئك الانتهازيون، في المقابل، يحسنون تقمص الأدوار، كما يحسن هو السقوط فيها. وإذا كان الطغاة عبر التاريخ قد واجهوا لحظاتهم الأخيرة بعد أن باغتهم وعي الناس، فإن خطورة البرهان تكمن في كونه لا يدرك حتى الأن أنه في خطر. وهذه هي ذروة الانفصام: أن يكون الجاني مقتنعًا بأنه الضحية ضحية مؤامرات إقليمية أو مكايد شخصية، والطاغية مصدقًا أنه المخلِّص للشعب من الهوان. أي هوانٍ وأيُّ محنةٍ أدهى من التي نعيشها اليوم؟

في الختام، ليست لدينا معركة سياسية مع البرهان فحسب، بل مع وعي مشوّه يتجسد في رجل، ويتسلط على وطن. نحن ننازع مرضًا، لا موقفًا. نعالج علّة نفسية، لا خصومة فكرية. ولذا فإن الخطاب العقلاني، والثبات على القيم، والاستناد إلى المبادئ، هو وحده الطريق لاجتياز هذا النفق. والأمل كما كان دومًا معقود على أن السودان أكبر من جنرالاته، وأعمق من أمراضهم. فإن ضلّ القائد الطريق، فلن تضيع البوصلة الأخلاقية للشعب، ما دام في هذه الأرض من يعرف أن الوطن لا يُباع، ولا يُحكم بمن لا يملك حتى نفسه ولا يعرف قدر شعبه وأصالة موطنه.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.