اخبار السودان

الطب في زمن الحرب!!! السودانية , اخبار السودان

الطب في زمن الحرب!!!

بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان  

تدقيق د. عبد الرحمن حمد

“بعض المهن والحرف تفعل أثراً في أصحابها، الأطباء مثلاً على وجوههم شيء ما، كأنهم يعرفون سرّاً لا يعرفه بقية الناس، ربما لكثرة ما رأوا من تقلبات الحياة والموت”.

مقتطف من كتابات الأديب الراحل الطيب صالح

في سوداننا الحالي نعايش خلال السنوات الخمس الماضية مخاض ولادة سودان جديد في ألم ومعاناة استطالت بعد أن بدأت بثورة عارمة ضد الظلم في ديسمبر 2018 سقط فيها نظام الرئيس البشير بعد اعتصام ساحة القيادة العامة الشهير والذي استمر عدة أشهر انتهى بمجزرة مؤلمة في صباح يوم عيد الفطر خلّفت وراءها مئات من جثث الشباب الذي قُتلوا في جريمة نكراء استمرت لعدة ساعات من قبل جنود من الجيش والأمن والدعم السريع، قضى الكثير من الشباب نحبَهم فيها ليلة آخر يوم من رمضان وهم يتسربلون بأستار القيادة العامة متوسلين لجيشهم أن يذود عنهم، لكن قادته كانوا يتابعون المجزرة خلال بث مباشرة في كابينة قيادة الجيش الأمر الذي خلق فجوة نفسية عميقة بين جيش البلاد وشعبه الذي شاهد فلذات أكباده تُنحر بدم بارد تحت مرأى ومسمع من المنوط بهم حماية المواطنين والدولة والدستور، هذه القطيعة النفسية في تقديري هي الجدار النفسي الشاخص بين جزء كبير من الشعب لتأييد الجيش في المعركة الحالية ضد بربرية الجنجويد المعروفة بالضرورة، حيث تقول العرب في وصف الغدر “كيف أعاودك وهذا أثر فأسك!!!”.

الطب والحرب

رغم أن شعبنا لم يستسلم لهذه الجريمة وانتصر في الثلاثين من يونيو 2019 إلا أن ما تلى ذلك من كوارث لم يخطر على بال أكثرنا تشاؤماً، فلم يلبث العام الجديد أن بدأ حتى هاجمت جائحة الكورونا البلاد مخلّفة الآلاف من الضحايا وخسر القطاع الصحي فيها أعداداً كبيرة من الكوادر الصحية المختلفة، أطباء وممرضين والكثير من الكوادر الطبية المساعدة، ومن نافلة القول أن هذه الكوادر لم تطالب الجيش أو أي كتائب مستنفرة للقيام بهذا الواجب المقدّس بل تقدموا الصفوف بشجاعة ونكران ذات، وقضى الكثيرون نحبهم، رغماً عن شح الإمكانيات وتربص قوى الثورة المضادة بكل ما تقوم به الحكومة المدنية من مجهودات. تبعت ذلك مأساة السيول والأمطار فزادت الأمور ضِغثٌ على إبالة وتكالبت المصائب على بلادنا المكلومة وفي ظل كل ذلك كان العبء أكثره على المغتربين والقوى المدنية والمهنية، خاصة المغتربين الذين كانوا يضاعفون الدعم المادي المباشر من مدخراتهم الضئيلة أو عبر المهنيين حول العالم الذين لم يألوا جهداً في إرسال المعينات وفتح المستشفيات في بعض المدن أو إعادة تأهيلها في مدن أخرى. كما قامت بذلك مؤسسة سابا في أمريكا في مدينة مدني بافتتاح مستشفى خيري كامل أو ما قامت به رابطة المهندسين السودانيين في قطر من تأهيل مستشفى مروي بتبرع سخي بتكلفة بلغت 371 ألف دولار مؤخراً وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

الطب وزمن الحرب

ولكن الكارثة الكبرى كانت حرب 15 إبريل 2023 والتي ستكمل عامها الأول بعد عدة أيام من الآن، ذلك أنها خلقت أكبر حالة نزوح داخلي وخارجي في العالم الحديث، بسبب الحرب حيث ارتحل حوالي ربع سكان البلاد (عشرة مليون شخص) نصفهم من العاصمة الخرطوم إلى مدن أخرى، وترك 19 مليون تلميذ مقاعد الدراسة، ويتعرض الآن ربع مليون شخص لخطر الموت جوعاً خلال أسابيع، خلّفت هذه المأساة ضغوطاً كبيرة على كل الخدمات خاصة الصحية منها، ففي أول أسابيع الحرب مات حوالي 60 شخصاً من مرضى الغسيل الكلوي في مدينة الجنينة وحدها، ولا نعلم عدد من فقدوا أرواحهم بسبب تلف مخزون الإنسولين في معظم مخازن العاصمة خاصة إنسولين الأطفال الذي فُقد معظمه في الأسابيع الأولى لهذه الحرب جراء دمار أنظمة التبريد، لقد تصدّى المهنيون وفي مقدمتهم الكوادر الصحية وعلى رأسها الأطباء بكل ما يملكون من طاقات وتبرعات وعلاقات لوجستية في رفع المعاناة عن كاهل أهلنا في البلاد، بمشاريع متعددة في المعابر الحدودية أو دعم الكوادر الصحية في المستشفيات الولائية.

الطب في زمن الحرب

وبالطبع فإننا هنا لسنا (مشحودين على أهلنا وبلادنا) وما قمنا به كأطباء ومهنيين سواء في قطر أو حول العالم مسؤولية لا نتهرّب منها لكن ينبغي إدراك الآثار العميقة للعمل لساعات طويلة تحت ضغوط عمل متعددة لحل مشاكل معقدة وأخرى غير قابلة للحل، لأنه ليس دور المهنيين أن يقوموا بأعمال الدولة، والروابط المهنية هي روابط دعم فني وليست منظمات خيرية في الأساس، كل تلك الضغوط تترك جراح غائرة على الأطباء السودانيين النفسي والمهني، ذلك أن مواصلة الطبيب للعمل لساعات طويلة حتى بعد انتهاء ساعات عمله الرسمية عبر العيادات الإلكترونية التي تصل إليها آلاف الاستشارات لهو أمر جلل ويكثّف الضغوط النفسية على الكوادر المتطوعة في هذا العمل وقد يؤدي إلى حالات إكتئاب حادة قد تصل إلى مرحلة الاحتراق المهني، في ظل كل ذلك يظل الطبيب السوداني في المهجر عنوان أسئلة دائمة من محيطه الاجتماعي والأسري، وقلّما يأتيك اتصال يسأل عن حالتك النفسية أو الصحيّة بل أن البعض قد يطلق العنان لابتسامة متهكمة أن أخبرته أنك كنت مريضاً قائلاً “حتى أنتو بتمرضوا!!!”، في واقع الأمر تفيد الإحصائيات العالمية أن عُمر الأطباء المتوقع أقل من متوسط عمر السكان بعدة سنوات حسب البلد المعين وقد يشكل نقصاً بحوالي 10 سنوات في الهند مثلاً، هذا ويختلف العمر المتوقع للطبيب إحصائياً حسب التخصص، فالتخصصات الأكثر توتراً والمرتبطة بمناوبات ليلية متواصلة لها آثار أكثر سلبية عن التخصصات التي لا تتطلب تدخلات طارئة.

طب في زمن الحرب

لقد تنبّهت المؤسسات المهنية المختلفة لطبيعة الضغوط النفسية المصاحبة لمهن معينة، ففي بعض الدول يسمح للإطفائيين بالتقاعد المُبكر بسبب طبيعة الإرهاق الجسدي والسهر المتواصل، كما تعتني الجيوش العالمية بمنسوبيها عبر برامج إعادة تأهيل نفسي متطورة خاصة لأولئك العائدين من المعارك العنيفة، حتى لا يتحولوا إلى مدمنين أو مجرمين، لذا بزغ إلى الوجود تخصص الصحة المهنية، كما ظهر مفهوم دعم من يقدمون الدعم، إذ بات واضحاً أن وجود المرء في الخطوط الأمامية في الكوارث والحروب قد يشكل عليه ضغوطاً قد تفقده حتى القدرة على التمييز والتحليل، من الأمور الصعبة على ممارسي المهن الصحية خاصة الأطباء طبيعة الالتزام المهني الذي يفرض على الأطباء التعامل مع سرّية معلومات المرضى بدقة شديدة لأن الجهات الرقابية للمهنة قد تفصل الطبيب من السجل المهني لو أفشى بالخطاء معلومة طبية خاصة بالمريض حتى ولو من باب التنفيس عن الضغوط المهنية، وقد عبّر لي أستاذي في طب الأسرة في هولندا د. فريتس فان أكستر في بدايات العام 2012 بقوله “نحن كأطباء أسرة نعيش حالة نفسية أشبه بالانفصام الشخصي أو الحياة بشخصيتين منفصلتين”، لذا نجد أن المستشفيات في العالم الأول تشكل لجان من الأخصائيين النفسيين لدعم هؤلاء الأطباء في حالات الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب الحاد، الاحتراق المهني، أو الخوف.

أختتم قائلاً إن المهنيين السودانيين ومن بينهم الأطباء هم المنوط بهم إعادة بناء بلادنا بعد محنتها هذه، لكننا نحتاج أن نتفهم الظروف المهنية والنفسية المعقّدة التي يمر بها الأطباء حالياً جراء تراكم الضغوط عليهم بوصفهم في الخطوط الأمامية لتخفيف تداعيات الحرب على أهلهم وبلدهم، لذا فرفقاً بمزاولي هذه المهن الحساسة، والرجاء تفهم الطلب المتزايد على خدماتهم ونصائحهم المهنية فمعظمهم يستقبل ما لا يقل عن عدة مكالمات يومياً تتعلق بقرارات صحية كبيرة ما يجعل توازنه المهني والأسري على المحك. لكنهم بالطبع شيالين تقيلة خاصة في وقت الحوبة.

* ملحوظة: قام الدكتور عبد الرحمن حمد استشاري الطب الباطني بتنقيح هذا المقال فله مني كل الشكر والامتنان.

[email protected]

11 إبريل 2024

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *