(الصالحة).. تراجع “الدعم السريع” أم زحف الجيش السوداني؟

تحليل: مجاهد عبدالله الفاطرابي
خلّف انسحاب قوات الدعم السريع من حي الصالحة جنوب أم درمان خلال اليومين الماضيين كآخر موطئ قدم لها داخل ولاية الخرطوم صدىً مدوياً في المشهد وكان كمن فجّر غباراً كثيفاً في ساحة مغلقة.. فلم يكن أكثر المراقبين تشاؤماً يتوقع حدوثه بهذه الوتيرة، إذ طالما اعتُبر وجود الدعم السريع في غرب وجنوب أم درمان خط الدفاع المتقدم نحو امتداداته الحيوية في ولايات الغرب.. وبين من يراها انكساراً مباغتاً ومن يعدّها انسحاباً محسوباً ضمن تكتيك أوسع.. تقف الحكاية على عتبة تحتاج أن تُقرأ من (أولها إلى آخرها)..لنفهم مآلات ذلك في المستقبل القريب لا البعيد..؟!.
فمنذ انسحاب قوات الدعم السريع من ولاية سنار قبل شهور مضت حيث كانت متقدمة جدا انذاك، الى خروجها الغريب المريب..! هذا من حي الصالحة تتكشف خطوط أزمة أعمق من التكتيك..! إنها أزمة في القيادة، في التماسك، وفي الغاية..! لكن على الضفة الأخرى، لايمكن ان نقول المعركة محسومة لصالح الجيش بل أمامه تربة رخوة من التحالفات (المتغيرة)!، وتحديات في الأرض التي ينوي استعادتها. وتبدأ حكاية تراجع الدعم السريع منذ اللحظة التي انسحب فيها من جبل موية بولاية سنار حيث لم تكن تلك مجرد حركة ميدانية عادية، بل كانت نقطة انكسار أولى في تسلسل تراجع استراتيجي طويل.. فالجبل الذي كان يشكّل نقطة إشراف وتحكم على محاور حيوية، سقط بهدوء لكن أثره كان مدوياً.. لقد افتقد الدعم السريع القدرة على الاحتفاظ بعقد الميدان المتماسك، ما كشف عن أزمة لوجستية أعمق.. انقطاع خطوط الإمداد، وانحسار الحاضنة المحلية، وتململ في صفوف المقاتلين.. وامتد التراجع ليشمل مناطق نفوذ أخرى حتى بلغ الصالحة، وهي واحدة من آخر خطوط الربط الجغرافي والمعنوي بين العاصمة الكبرى وامتدادات الدعم السريع في الغرب والجنوب.. خسارة حي الصالحة لم تكن فقط فقداناً لموقع متقدم.. بل انكشافاً لمستوى التصدّع الداخلي لصفوف القوات في العمق، حيث عجزت قيادة هذه القوات عن إدارة معركة الانسحاب بكرامة..!، وبدلاً من أن تُحوّل الصالحة إلى معركة استنزاف للخصم، تهاوت فيها القوات تحت ضغط هجوم مدروس من الجيش مدعوماً بقوات المشتركة التابعة للحركات المسلحة ، وسط معلومات متدفقة عن تنسيق محكم ودعم لوجستي نوعي.
لم يكن تقدم الجيش السوداني في الأسابيع الأخيرة محض مصادفة تكتيكية، بل ارتكز على تحوّل نوعي بدأ بانسلاخ اللواء أبو عاقلة كيكل من الدعم السربع وانضمامه إلى صفوفه، وهو القائد الذي سرعان ما أصبح عنواناً لاندفاعة جديدة في ميزان الميدان.. فتوليه لقيادة قوات “درع السودان” من جديد..! ثم دخوله مدينة ود مدني، أطلق دينامية جديدة على الأرض، قُرئت في أوساط الجيش كإشارة ميدانية مُبشّرة.. فمع كل منطقة يستعيدها، كان يظهر وكأنه لا يفتح طريقاً عسكرياً فحسب، بل يستحضر روح التفاؤل وسط القوات.. زحفه المتدرج عبر شرق النيل وصولاً إلى العاصمة الخرطوم، مثّل بالنسبة لكثيرين داخل الجيش “فأل نصر”، أضفى زخماً معنوياً ومكّن القيادة من إعادة هندسة أولوياتها الهجومية بثقة متزايدة.
غياب القائد العام لقوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) عن الميدان، كان أكثر من مجرد فراغ عادي..
فالرجل الذي بُنيت حوله صورة القوة والانتصار، انسحب من الواجهة في لحظة كانت قواته في أمسّ الحاجة إلى من يرفع المعنويات، ويعيد ترتيب الصفوف.. ورغم ظهوره العرضي في تسجيلات صوتية أو مقاطع مرئية فإن ذلك لم يرقَ إلى مستوى القائد الذي يخاطب جنوده في أوقات الانكسار.. ومع هذا الغياب تصاعدت حالة من الشك الداخلي وبدأت الاتهامات تتطاير عن خيانات داخلية وتورط عناصر في تسليم المواقع ما أحدث شقوقاً عميقة في بنية الثقة داخل القوات نفسها.. وتزامن هذا مع تفشي ظواهر كانت إلى وقت قريب تُقال همساً كإنغماس كثير من الجنود والضباط في التجارة غير الشرعية..!، وتعاطي الكحول والمخدرات، وتحديداً “البنقو”، الى جانب اهتمامهم الدائم بكسب الغنائم..! مما انعكس مباشرة على الالتزام والانضباط، وأضعف الروح القتالية لدي هذه القوات.
وفي هذه اللحظة بدأ الجيش السوداني في تحريك متحركاته غرباً.. تقدّم نحو الخوي ثم الحمادي ، في خطوة واضحة لاختبار قدرة الدعم السريع على الصمود ، حيث الحواضن الاجتماعية التقليدية له بولايتي غرب وجنوب كردفان..فهذه الحواضن في اعتقادي ليست حصناً منيعاً.. فالمزاج الشعبي هناك بدأ يتبدل، والأسئلة بدأت تُطرح حول جدوى استمرار الحرب ، خاصة في ظل الشعور بالتخلي والعزلة والتشتت القيادي.. وقد أعلن الدعم السريع التعبئة العامة في ولاية غرب كردفان ودفع بعدد من المتحركات إلى مناطق التماس..! ، لكن من غير الواضح بعد ما إذا كان ذلك كافياً لإيقاف الزحف العسكري لمتحركات الجيش وحلفاءه والتي تبدو أكثر تنظيماً ووضوحاً في الهدف..!.
وتقف عند هذه النقطة فرضية تحالف الدعم السريع مع الحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو.. وهو تحالف رغم أهميته من الناحية العسكرية، لكن لا يزال هشاً سياسياً وميدانياً..! فالحلو يخوض معركته من أجل مشروعه السياسي وليس دفاعاً عن بقاء الدعم السريع.. وإذا لم يُصَغْ هذا التحالف ضمن إطار استراتيجي مشترك يتجاوز التكتيك اللحظي فإنه قد يتحول إلى عبء أو ينفجر عند أول تضارب في المصالح.. ومع ذلك فإن بإمكان هذا التحالف إذا تم تفعيله ميدانياً أن يفتح جبهة ضغط على الجيش من الجنوب ويخلخل توازناته في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان.
تكتيكياً، بدأ الدعم السريع باستخدام المسيّرات الاستراتيجية بشكل أكثر وضوحاً في الآونة الأخيرة.. لكن هذا السلاح وإن كان غير حاسم في معارك السيطرة على الأرض إلا أنه يمكن أن يلعب دوراً مؤثراً في إرباك خطوط إمداد الجيش، وتأخير تقدمه، وفرض تكلفة عالية على انتشاره في مناطق جديدة.. الا ان التعويل على المسيّرات وحدها اشبه بمن يحاول منع انهيار سد بكف يده..!.
وفي العمق السياسي فإن تراجع الدعم السريع من مناطق الوسط والخرطوم يضع مشروع حكومة التحالف التأسيسي التي يُنتظر أن تكون دارفور مركزها تحت ضغط هائل.. إذ أن السيطرة الميدانية هي التي تمنح المشروع السياسي شرعيته، ويُعد تراجع قوات الدعم السريع إلى ولايات كردفان ودارفور تطوراً استراتيجياً يُضعف من فرص إعلان الحكومة الموازية التي يعتزم التحالف التأسيسي تدشينها في تلك المناطق.. فالتحول الميداني لصالح الجيش والقوات المشتركة يهدد بتحجيم النفوذ الجغرافي والرمزي لقوى التحالف مما يُفرغ مشروع الحكومة من مضامينه الواقعية ويحوّله إلى طرح نظري منفصل عن ميزان القوة على الأرض.. وفي هذا السياق يبرز الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، إذ أن تفعيل جبهتها العسكرية في جنوب كردفان وتحالفها العملياتي مع الدعم السريع لا يشكل فقط ثقلاً ميدانياً مضاداً للهجمات بل يعيد رسم خطوط التوازن العسكري والسياسي ويمنح مشروع الحكومة الموازية سنداً فعلياً في الجغرافيا والنفوذ مما يعيد إحياء فرصها في التبلور ككيان سياسي ذي شرعية ميدانية.
ومع كل هذه المعطيات فإن الدعم السريع لم يصل بعد إلى لحظة الانهيار الكامل لكنه يمر بانحناءة حادة تتطلب ما هو أكثر من التماسك الدفاعي.. ويحتاج إلى رؤية تُعيد ترتيب الأوراق تبدأ هذه الرؤية أولاً بإعادة الحضور القيادي إلى الميدان عبر ظهور مباشر (لحميدتي) ليعيد تشكيل المزاج القتالي لقواته وثانياً بتنظيف الصفوف من العناصر (الفاسدة)..! والمخترقة للكيان وفرض الانضباط الميداني..، وثالثاً بتفعيل التحالفات العسكرية القائمة خاصة مع الحلو وتوسيعها إلى جبهات ضغط جديدة.. ورابعاً بتغيير نمط القتال من المواجهة النظامية إلى حرب العصابات المتنقلة حيث يكون الدعم السريع أكثر كفاءة.. وخامساً وهذا مهم للغاية ببناء خطاب إعلامي جديد يعيد تعريف العلاقة مع المجتمعات المحلية لا كقوة مسيطرة بل كفاعل يحمي السكان ويمنحهم شعوراً بالأمن.
إن التراجع الذي شهدته قوات الدعم السريع لا يمكن عزله عن هشاشة القيادة واختلال بنية الميدان داخلياً تماماً كما لا يمكن الحديث عن زحف الجيش دون إدراك حساسيته في التقدم داخل بيئة اجتماعية كانت حتى وقت قريب تدين بالولاء لخصمه.
ويمكننا القول بان الطرفان الان لديهما خطط لمرحلة المواجهة القادمة ففي اعتقادي ان الجيش في هذه المرحلة يميل إلى العمل وفق استراتيجية الضغط المستمر والمراهنة على الإنهاك.. فخطته ليست مجرد الزحف إلى دارفور، بل تقطيع الطريق إلى هناك قطعةً قطعة، بدءاً من تدمير عمق الدعم السريع في كردفان.. المتحركات لا تدخل لمجرد السيطرة بل لتفكيك البيئة الحاضنة، سحب الحلفاء، تقليب الولاءات، تفريغ الأرض من الغطاء الاجتماعي.. الجيش يحرص على ألا يدخل منطقة إلا بعد أن تكون مخترقة استخبارياً ومهيأة للانقضاض السريع.. فهناك تنسيق متنامٍ مع مجموعات محلية نافذة..! بعضها مناوئ تقليدياً للدعم السريع، لتكون بمثابة الطابور المتقدم.
وفي الضفة المقابلة لم يعد تفكير الدعم السريع يتمحور حول “العودة إلى الخرطوم” كما كان من قبل بل انه وبعد الانسحاب من الصالحة يفكر في كيف يمنع الجيش من الوصول إلى الفاشر والضعين والجنينة، وهي المراكز التي إذا سقطت سقط معها المشروع كله.. لذلك بدأت تعيد قواته التموضع في شكل (أحزمة نارية) حول المدن الكبرى وتجهّز لمعركة استنزاف طويلة.. تعرف أنها قد لا تحقق فيها نصرًا سريعًا، لكنها تراهن على تحويل التقدم العسكري للجيش إلى عبء لوجستي وأمني.. فالدعم السريع يوسّع من اعتماد تكتيكات “الضرب والانسحاب” ويستخدم درايته الجغرافية بكردفان لبناء شبكة دفاعات غير متصلة.. مرنة وقابلة للتبديل دون خطوط أمامية واضحة، وهذا أمر مربك للجيش.
وما بين خطط الجيش الزاحف بخفة مدروسة والدعم السريع الذي يتقن فن (التملص والتشكل) تتقاطع ثلاثة سيناريوهات محتملة.. الأول: حسم عسكري سريع إن يمكن الجيش من كسر عمق دارفور وحرمان الدعم السريع من ملاذه الاجتماعي.. الثاني: استنزاف طويل إذا نجح الدعم السريع في جرّ المعركة إلى حرب مواقع متحركة تُنهك (المتقدم) ولا تسقط (المتراجع) أما الثالث: وهو الأخطر وهو سيناريو الانقسام الميداني حيث يستقر ميزان القوة على خطوط تماس صلبة تفرض تقاسماً غير معلن للسيطرة.. ما يخلق جغرافيا مزدوجة داخل الدولة ويؤسس لصراع أطول عمراً وأعمق كلفة.
نقلا عن صحيفة دروب
المصدر: صحيفة الراكوبة