الشعر والعلاج النفسي الناجع
د. محمد حمد مفرح
اتساقا مع نزعتي الى كسر الروتين والتمرد على نمط الحياة الميكانيكية الخانق وكذا رغبتي في نقل القراء نقلة ترويحية تعمل على بث الراحة النفسية والحبور في دواخلهم ، لا سيما وان نفسيات الجميع ، كما يؤكد واقع الحال، قد غدت نهبا للاثار النفسية للحرب بكل ظلالها المدمرة ، فقد رأيت ان انفض الغبار عن نشاطي الأدبي القديم في المواقع الالكترونية والقروبات المختلفة والذي طاله الأهمال واصبح نهبا للنسيان جراء طغيان (ساس يسوس) و(عاس يعوس) التي هيمنت على ، بعد أن ازدهر هذا النشاط وألفه الناس.
لذا فقد رأيت ان احلق بالسادة القراء الكرام ، عبر هذه (الكبسولةالشعرية) ، في فضاءات (الاشعار المختارة) كما كنت أفعل سابقا ، راجيا ان تعمل على ترطيب دواخلهم وتحلق بهم عاليا في فضاءات الترويح النشوانة :
يقول الشاعر الأندلسي رشيق العبارة ، الممسك بناصية القريض والنابض بالروعة ، ابن زيدون ، في قصيدته (اضحى التنائي بديلا عن تدانينا) :
حالَت لِفَقدِكُمُ أَيّامُنا فَغَدَت
سوداً وَكانَت بِكُم بيضاً لَيالينا
إِذ جانِبُ العَيشِ طَلقٌ مِن تَأَلُّفِنا
وَمَربَعُ اللَهوِ صافٍ مِن تَصافينا
وَإِذ هَصَرنا فُنونَ الوَصلِ دانِيَةً
قِطافُها فَجَنَينا مِنهُ ما شينا
لِيُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السُرورِ فَما
كُنتُم لِأَرواحِنا إِلّا رَياحينا
لا تَحسَبوا نَأيَكُم عَنّا يُغَيِّرُنا
أَن طالَما غَيَّرَ النَأيُ المُحِبّينا
وَاللَهِ ما طَلَبَت أَهواؤُنا بَدَلاً
مِنكُم وَلا اِنصَرَفَت عَنكُم أَمانينا
ويقول أيضا في قصيدة (ما على ظني بأس) :
ما عَلى ظَنِّيَ باسُ
يَجرَحُ الدَهرُ وَياسو
رُبَّما أَشرَفَ بِالمَرءِ عَلى الآمالِ ياسُ وَلَقَد يُنجيكَ إِغفالٌ وَيُرديكَ احتِراسُ
وَالمَحاذيرُ سِهامٌ
وَالمَقاديرُ قِياسُ
وَلَكَم أَجدى قُعودٌ
وَلَكم أَكدى التِماسُ
وَكَذا الدَهرُ إِذا ما
عَزَّ ناسٌ ذَلَّ ناسُ
وَبَنو الأَيّامِ أَخيافٌ
سَراةٌ وَخِساسُ
نَلبَسُ الدُنيا وَلَكِن
مُتعَةٌ ذاكَ اللِباسُ
يا أَبا حَفصٍ وَما ساواكَ
في فَهمٍ إِياسُ
مِن سَنا رَأيِكَ لي في
غَسَقِ الخَطبِ اِقتِباسُ
وَوِدادي لَكَ نَصٌّ
لَم يُخالِفهُ قِياسُ
أَنَ حَيرانٌ وَلِلأَمرِ
وُضوحٌ وَاِلتِباسُ
ما تَرى في مَعشَرٍ حالوا
عَنِ العَهدِ وَخاسوا
وَرَأَوني سامِرِيّاً
يُتَّقى مِنهُ المَساسُ
أَذأُبٌ هامَت بِلَحمي
فَاِنتِهاشٌ وَاِنتِهاسُ
كُلُّهُم يَسأَلُ عَن حالي
وَلِلذِئبِ اِعتِساسُ
إِن قَسا الدَهرُ فَلِلماءِ
مِنَ الصَخرِ انبِجاسُ
كما يقول :
دومي على العهد ما دمنا محافظة
فالحر من دان انصافا كما دينا
يا جنة الخلد ابدلنا بسلسلها
والكوثر العذب زقوما وغسلينا
ويا حياة تملينا بزهرتها
منى ضروبا ولذات افانينا
اذا انفردت وما شوركت في صفة
فحسبنا الوصف ايضاحا وتبيينا
يقول الشاعر القامة محمد المهدي المجذوب في مدح.الرسول صلي الله عليه وسلم.
سلام عليكم والسلام ينيلني كمال شهود للجمال ويلهم
لساني تحيات تليق بقدركم أكررها في حيكم وأهمهم
سلام على رأس الرسول محمد لرأس جليل بالجلال معمعم
سلام على وجه النبي محمد فيا نعم وجه بالضياء ملثم
ويقول في قصيدة (المولد) :
وعلى الساحــــة شيخ يرجحــن يضرب النوبة ضرباً فتئن وترن
جل جلال الله
ويقول كذلك في قصيدته “سيرة” أي الاحتفاء بالعريس وهو يُزف إلى مخدع العروس ليلة “الدخلة”:
البنيات في ضرام “الدلاليك” تسترن فتنةً وانبهارا
من عيون تلفت الكحل فيهن وأصغى هنيهةً ثم طارا
نحن جئنا إليك يا أمها الليلة بالزين والعديل المنقى
نحن جئناك حاملين جريد النخل فألاً على اخضرار وزرقا
ويقول في قصيدته “بائعة الكسرة:
يا ربة الكســرة السمـراء بائعــة في السوق تنتظر الآمال في الودع
لأنت أشرف من فكـر بلا عمـل أثرى وروج زيـف العقـل بالبـدع
كما يقول في قصيدته “كلب وقرية”.
في بيت الفحل أبي “السرة” جـرو رباه علـى الكسـرة
الله الله عـلــى الكـســــرة بيضاء تهيج لها الحضرة
الله الله الله الله
و يقول أيضا في قصيدته (رائحة الحانة) ، موثقا للتاريخ الاجتماعي السوداني في فترة من فترات جاهليته:
مريستنا ملأت برمة
على وجهها يستدير القمر
تلوح راياتها فوقنا
شراعا يعود بنا من سفر
يوشوش متكئا (دلق)
عليه جلال النهى والخطر
(تقعده) بيننا كاعب
لها عرق كالجمان انتثر
تشد ازارا على صخرة
وما الصقت شعرا بالشعر
تناولني فاسيغ الشراب
وأجرع من قرع معتبر
وتطعمني من قديد الشواء
وتطرفني بعجيب السير
يقول الشاعر الرقيق فخيم العبارة وذو القدرة الفائقة على تطويع الكلمات و تسكيل العبارات ، نزار قباني ، في قصيدته (بلقيس) التي نظمها بمناسبة وفاة زوجته العراقية الأصل والتي توفيت في تفجير حدث بالسفارة العراقية ببيروت في ثمانينيات القرن الماضي ، يقول :
شكراً لكم ..
شكراً لكم . .
فحبيبتي قتلت .. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
وقصيدتي اغتيلت ..
وهل من أمـةٍ في الأرض ..
إلا نحن تغتال القصيدة ؟
بلقيس …
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس ..
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي ..
ترافقها طواويسٌ ..
وتتبعها أيائل ..
بلقيس .. يا وجعي ..
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى ..
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل ؟
يا نينوى الخضراء ..
يا غجريتي الشقراء ..
يا أمواج دجلة ..
تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل ..
قتلوك يا بلقيس ..
أية أمةٍ عربيةٍ ..
تلك التي
تغتال أصوات البلابل ؟
أين السموأل ؟
والمهلهل ؟
والغطاريف الأوائل ؟
فقبائلٌ أكلت قبائل ..
وثعالبٌ قتـلت ثعالب ..
وعناكبٌ قتلت عناكب ..
قسماً بعينيك اللتين إليهما ..
تأوي ملايين الكواكب ..
سأقول ، يا قمري ، عن العرب العجائب.
يقول الشاعر القامة صلاح أحمد ابراهيم راسما لوحة شعرية فانتازية غاية في الروعة ، زاخرة بالحلاوة والطلاوة عبر قصيدته الباذخة (مريا) المضمنة في ديوانه (غابة الابنوس) يقول :
يا مريا
ليت لي ازميل فدياس وروحا عبقرية
وأمامي تل مرمر
لنحت الفننة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالا مكبر
الى اخر القصيدة الباذخة.
كما يقول متفاعلا مع مواطن شرق السودان البسيط وهو يكدح ويصارع من أجل الحياة ، مسلطا الاضواء على تراجيديا حياته يقول:
اوشيك دون ان يكل يرصد الافاق
من دغش الصبح الي انحباس الضؤ في المساء
مفتشا عن غيمة فيها سلام المساء
يرفع ساقا ويحط ساق
كوقفة الكروكي في المياه
مرتكز الظهر علي عصاه
اهلكت المجاعة الشياه
ثم بحدثنا عن
شعره المدوك الوديك والخلال
وعلبة التمباك
يراقب الزقوم والصبار والاراك
السل في ضلوعه يفح افعوان
ثم يصف لنا حال ابنه اوهاج الذي نزح الي المدينة بسبب المجاعة :
اوهاج لم يعد منذ مضي هناك
هناك في المدينة الباهرة الاضواء
تلك التي تعج بالشرطة والمقاهي
بالودك الجيد والظلال
كيف تري الجنة يا الهي ؟!
اوهاج قبل ان يحقق الامال
ويملأ التكة من سرواله بالمال
هوت علي دماغه رافعة الميناء
فانخبطت جثته في الاراض تحت ارجل العمال
وامتزج اليافوخ بالدماء بالودك وبالخلال
دماؤه تجمدت علي حديد البال
ومات لم يستلم الريال
واستأنفت اعمالها رافعة الميناء ? ما الحمال
يقول الشاعر السوداني المجيد ابن دار فور عالم عباس محمد نور في قصيدته (سوميت بنات درجيل) :
فاذا جاء المغيب
ذبت كالشمس على صدر النهود
وصبغت الرمل ورسا كردفانيا معصفر
وضممت التل اكثر
يقول الشاعر القامة الاستاذ سيد اسماعيل شقيلة أستاذي بمدرسة الخوي الابتدائية الغربية ولاية غرب كردفان ، في ستينيات القرن المنصرم، يقول في قصيدته (المنارة) موثقا تاريخ المهدية التليد وأمجاد ابطالها الافذاذ الذين صنعوا ببطولاتهم تاريخ السودان الحديث :
عند نهر النيل في أقصى الشمال
عند بارا بين كثبان الرمال
سجل التاريخ درسا
للرجال يا منارة
النجومي يا منارة
عند توشكي عند بارا
مشعل الحرب نهارا
ابو عنجه بالسيوف مثل اعصار عصوف
قاد جيشا بالصفوف
يا منارة يا منارة
ابو قرجه لا ببالي
بين هامات الجبال
يا منارة يا منارة
الى ان يقول في اخر القصيدة بديعة النظم :
يا رفاقي السيف عندي
سوف احمي أرض جدي
سوف أحميها بزندي
لا ابالي أي ند
يا منارة يا منارة
كما يقول في رثاء الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر :
أيها النابض في صدر العروية
يا حساما شق للحق دروبه
يا شعارا .. يا منارا .. يا افتخارا
قد بكتك كل دمعات عصية
قد بكتك كل أخت عربية
يا شعارا .. يا منارا .. يا افتخارا
زعموك قد فنيت ابا خالد
سوف تبقى في القلوب خير رائد
يا شعارا … يا منارا .. يا افتخارا
الى اخر القصيدة البارعة.
ثم يقول في قصيدته (اكتوبر) :
نحن بنو السود بيض ايادينا
بالعزم و النار نحمي اراضينا
اكتوبر وافى حاك لماضينا
صارت امانينا
وردا ونسرينا
يا ثورة المجد في يومي الحادي
من قلبي الشادي حييت يا بلادي
يقول الشاعر الكبير الدكتور محمد.بادي العكدابي (ود بادي) المنحاز ابدا ل(الغبش) بكل أنحاء الوطن والمعبر عن الامهم وامالهم مع تطلعه لاستشراف السودان غدا افضل، يقول في قصيدته العصماء التي خاطب بها والدته اول عهده بالجامعة :
بت الخير يجيك الخير
وصل جوابك الكاتباهو للولد الحتالي
وكان الظن ترسلي لي هين هينين من البركاوي
داك الطعمو حالي
وهنا والله ني ومسيخ وغالي
سؤالك يمة عن احوالي
كان شفتيها تغنيك عن سؤالي
انا اتوكرت في قلب البنادر
زي غريق شرقان مدلدل في الدوالي
جات شايلاني حرة جوف
وانا اتحديت مجالا مومجالي
مصايب الجامعة اكبر من جميع الشفتو
ولا سمعتو في ايام الخوالي
قعاد الكرسي كان شفتيهو
ورم ساقي زي سيد الزلالي
اقلب في الدفاتر من صباحا
بدري لامن تمسي
ما بنسي انشغالي
اسوق الليل تحت ضوء الكهارب
ديمة هارب من فراشي
وهادو حالي
وده كلو عشان اجيب نمرا
انافس بيها واستر بيها حالي
والله عاد حالتنا أبدا ماب تسر البال
ومن يوم ما اهديت
ما انسر بالي
سلاطين العلم يايمة
ينسوا العشرة في فد يوم
يدفروك بره زي دفر الطبالي
وخايف من اجيك مرفود
وهادي الفكرة مما جيت
معشعشة في خيالي
واخير افتح اضانك
قبل ما تلقيني فوق اضني
ملويات حبالي
وكان حصل القدر يا يمة لا تلوموني
ذنبي علي البنادر خيرا اقوي عليه احتمالي
ويقول أيضا في احدى قصائده البارعة راسما لوحة بيئية غاية في السريالية ومهوما في سموات الخيال ، قال :
يا ليبينة المغربية
النازة من اطراف سعينك
بالي فيكي
الا درب العيشة باعد بيني وبينك
يقول الشاعر الحلمتتيشي الدكتور محمد الامين العبد (ود.العبد) عبر قصيدته التالية الراشحة بالطرفة والموسومة بالابداع ، معبرا عن واقع حال جامعة الخرطوم في بداية ثمانينيات القرن الماضي ، يقول :
أنا البعشوم أنا الساكن حسيب والرازي
أنا الفول والعدس خلوني ديمه ارازي
حالف بالطلاق يوما اشيل عكازي
اركبكم لقط اكسر كراع حجازي
عشان اقليمي جيت من غادي للعزازي
شفت نور الكهارب وقمت دفق جازي
كدا تورينا يا الجامعة البقيتي جنازي
ثم يقول في وصفه لأزمة معجون سيجنال في بداية ثمانينات القرن الماضي ، عبر. قصيدة ترشح ابداعا , جاءت في لغة محلية اسرة واقرب الى قلوب الجماهير :
فتشنا عليك يا سيجنال
أبيت يا غالي ما تظهر
عليك خطينك الاتنين
مشيت بي وين
لحقت اخواتك الفاتو
ناس الزيت و ناس دبلانه بت بنزين
والسكر دي ليها سنين
تفوتنا وتمشي بغادي
وتمش تندس في الرادي
(دعاية سيجنال)
فتحنا الرادي ما لقيناك
(فتحناهو بورا)
خلاص يا انت خليناك
بنرجع تاني للمسواك
لأننا نحن ما بنسواك
واصلو شبهنا لي المسواك ولي التنباك
يقول الشاعر الهمام محمد ابراهيم (بلدة أبو ماريقه ريفي النهود)
أمس لاقيتها وردت دونكي حمد النيل
جنتني انا وجنوا معاي كتير
لدرجة مولانا الكتابو كبير
سلبت عقلو اصبح زول غنا وتفكير
بنسأل فوقا كيف القصة يا مولانا
قال ليا شالت القلب خلت الا بكانه
ويقول أيضا في قصيدته المتفردة (دونكي انجكو) عاكسا الواقع المحلي لبلدة انجكو المجاورة لمدينة النهود :
دونكي انجكو مكتول هواك
الصيد والريل فيهو ساكنات
بردنو عصير الطالبات
وفلانه وفلانه فيهو ساكنات
الى اخر القصيدة الطويلة التي تؤكد على شاعريته المتقدة .
يقول العبد لله (الشاعر مجازا الذي ما زال في طور التخلق الشعري) في قصيدتي (الرحلة الهانئة) :
في ذلك الصبح الخريفي الندي
والأرض ترفل في حلي زاهية
وغدا البساط السندسي يعمها
ويعطر الزهر الجميل الامكنة
رافقت بعض احبة في رحلة
ميمونة بالانس ظلت عامرة
بدأ المسير من الخوي
تلك الجميلة و البهية الفاتنة
بلد الاحبة والعشيرة والاهل
مهد الجمال العبقري الاسرة
كان الخريف الكردفاني المهيب يلفنا
ببروقه ورعوده وأسحاره المتدفقة.
وبعد … لا شك في أن الشعر بكل ضروبه والوانه يمثل اتكاءة مريحة للنفس ونقلة ترويحية من عناء الحياة بل وعلاج نفسي ناجع ، لا سيما في اوقات الازمات والضغوط النفسية المدمرة..
[email protected]
المصدر: صحيفة الراكوبة