الشعب السوداني يملك خيارات أفضل من المفاضلة بين الجنجويد واللجنة الأمنية للبشير
الشعب السوداني يملك خيارات أفضل من المفاضلة بين الجنجويد واللجنة الأمنية للبشير
صديق الزيلعي
يتميز شعب ثورة ديسمبر 2018، بمقدرة عالية على التحليل العميق للأطروحات المقدمة له، والتقييم الموضوعي لما يعرض له من رؤى، والاقتدار على فكفكة المقولات التي تطرح في الفضاء العام. ويا للفخر، صار شباب الثورة يبدع في التفكير خارج الصندوق، وتخطى عقلية المسلمات الجاهزة.
ورغم كل تلك التغييرات العميقة في الوعي العام، يصر البعض على إعادة انتاج شعارات بائدة ومستهلكة ولم تعد تجدي. ويأتي في مقدمتها تلك الدعوة لمحاصرة خيارات شعبنا، وقصرها على دعم أحد طرفي الحرب الحالية، فقط. هذا المقال يجتهد في مناقشة هذا الطرح، وإبراز الخيارات الأخرى التي يملكها شعبنا.
تحليل أي ظاهرة بشكل موضوعي يفرض قراءتها في إطارها التاريخي، والنظر لكل جوانبها في بعدها المكاني والزماني. والحرب الحالية لم تنشب من فراغ، وليست وليدة صراعات الشهور التي سبقت اندلاعها، وكانت تلك الصراعات هي آخر حلقات مخطط كبير. مخطط ابتدأ يوم 11 أبريل 2019، بانقلاب جناح من الجبهة الإسلامية لإنقاذ نظامهم، بعد رفض البشير لفكرة التنازل. وكانت الخطة أن يوقفوا المد الجماهيري الثوري، ويعطلوا استمرار الثورة، ويعلنوا أنفسهم حكومة الثورة. انحنت اللجنة الأمنية أمام عاصفة تمسك الجماهير بثورتها، واصرارها على تحقيق كامل أهدافها، وقررت أن تلعب “بوليتيكا” مع قوى الثورة. فماطلت في التفاوض ثم الغته تماما، ونفذت المجازر لإرهاب الجماهير. خروج الجماهير في مواكب 30 يونيو 2019، غير ميزان القوى، وأرغم اللجنة الأمنية على التراجع والقبول بالتفاوض.
تراجعت اللجنة الأمنية عن الانفراد بالسلطة، تحت مسمى المجلس العسكري الانتقالي، لتقنين شراكة مضروبة. ويتواصل المخطط، بعد ان ابتلعت القوى المدنية تظاهر الشراكة، ليتم خنق الحكومة المدنية، التي تعاملت بضعف واستسلام وخضوع غير مبرر، مع تصرفات العسكر. وتصارعت القوى السياسية في معارك دونكشويتة مع بعضها البعض. ليأتي الاتفاق الاطاري، بما له وما عليه، ليتم التهديد علنا بنسفه بالقوة. ويراوغ البرهان، ثم يكذب، ثم يغير كذبه ليقدم كذبة جديدة. وعندما انعقدت ورشة الترتيبات الأمنية ظهر جليا موقف الجانبان العسكريان المتهربان من إصلاح الجيش، رغم مراوغات ووعود البرهان وحميدتي. ويتحول رمضان من شهر العبادة إلى شهر التحشيد، والتهديد علنا بتدمير البلد.
يملك طرفا الصراع استخبارات قوية، نجحت في اختراق الآخر. وصارت الاستعدادات للحرب تتم علنا، في انتظار الطلقة الأولى، من أي جهة جاءت. وجاءت الحرب لتدمر كل شيء: البنيات الأساسية، المصانع، الأسواق، معظم الأحياء، والأهم البشر. كما فجرت الحرب كل العداوات القبلية والاثنية والجهوية، التي هيأت الوضع لاندلاع الحرب الأهلية الشاملة، حيث يحارب الكل ضد الكل.
أدى تاريخ الجنجويد الأسود في دارفور وغير دارفور، وممارساتهم القبيحة داخل العاصمة لوضع متراس كبير بينهم وبين الشعب السوداني. أما رفع شعارات الديمقراطية والحكم المدني، إن كانت صادقة أم لا، فلا تجد أذناً منصتة. باختصار، لن يقبل الشعب السوداني بقيام حكم الجنجويد، ولا نحتاج لمزيد من الشرح. أما الجيش فهو الذي، بقيادة الاسلامويين، حكم لأكثر من ثلاثة عقود ذاق فيها الشعب السوداني كل صنوف العذاب والقمع. وهو الذي استخدم نفس الطيران في مذابح معروفة، في جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق. وهو الذي عطل استكمال مهام ثورة ديسمبر، بينما خدع الشعب السوداني بأنه انحاز للثورة. والآن يهدد قادته كل من يطالب بإنهاء الحرب، ويصرون على المضي فيها، حتى لو تدمر كامل العاصمة. ماذا سيكون سيشكل النظام الذي سيقيمونه، في حالة انتصارهم، وكم من المشانق ستنصب، وهل سيساهم الجيش في إعمار ما دمرته الحرب، ونحن قد رأينا جلوسه فوق 82% من اقتصادنا والشعب السوداني يتضور جوعا. وها هي الاعتقالات تبدأ فقد تم اعتقال الأستاذ خالد اليسع في سنار لقيادته وقفة لا للحرب. الملايين التي تعتمد في حياتها على رزق اليوم باليوم، والذين يعتمدون على المرتبات، التي لم تكن تكفي، ولم ينالوا مليما واحدا لمدة ثلاثة أشهر، هل سندفعهم إلى الموت جوعاً، من اجل استمرار الحرب، ام يخرجون للشوارع ينهبون كل ما يستطيعون؟
يملك شعبنا خيارات أخرى، أكثر عقلانية ومنطقية، من دعوات الاستمرار في الحرب والتجييش، وإشعال الحرب الأهلية الشاملة. فقد أكدت كل تجارب العالم أن الحروب، مهما كانت قسوتها، طولها، والدمار الذي نتج عنها، تنتهي لاتفاق سلام، حتى لو انتصر أحد الطرفين، فقط تعدل تفاصيل مقرراتها في حالة الهزيمة. وفي بلادنا استمر التمرد من 1955 وحتى 1973 باتفاقية أديس ابابا. وبدأت حرب الحركة الشعبية من 1983 وحتى اتفاق السلام الشامل في 2005. اما الحركات المسلحة فقد حاربت في دارفور حتى اتفاق سلام جوبا في 2020. والحرب الحالية، مهما استطالت وتمددت، ستنتهي إلى سلام. والآن هناك تحدٍّ حقيقي أمام دعاة استمرارها، هل سندمر ما تبقى من بلادنا، ثم نأتي، بعد شهور او سنوات، لاتفاق مهما كان نوعه لإيقاف القتال؟
نجحت الإدارات الاهلية في بعض مناطق دارفور في إيقاف الحرب في مناطقها بعقد اتفاقات بين الطرفين. كما نجحت قيادات مدينة الرهد في شرق كردفان بعقد اتفاق مع الدعم السريع بعدم مهاجمة المدينة، ويسمح لهم بالدخول لها في أوقات محددة للتزود بالوقود والطعام، فسلمت الرهد من الدمار.
(سأواصل الحوار في المقالات القادمة)
المصدر: صحيفة التغيير