السيسي والبرهان والضلال القديم
د. النور حمد
ليس غريبًا أن تقود استطالة أمد الحرب، وما تسببت فيه من تشريدٍ واسعٍ، ومن فقدانٍ للممتلكات، وفقدانٍ لسبل كسب لقمة العيش، ومن تشتيتٍ للأسر، ومن أمراضٍ متفشية، ومن جوعٍ مهلكٍ، ومن خرابٍ غير مسبوق، ومن انبهامٍ يلف الأفق، ومن ندوبٍ نفسيةٍ غائرةٍ، إلى أن يتعلق الناس ببارقات الأمل، مهما وهت.
وفي غمرة التشبُّث ببارقات الأمل تلك، تحت وطأة الضغوط الرهيبة التي شكَّلتها هذه الحرب، ربما ينسى الناس، أو يتناسون، معالم الدرب الذي قادهم إلى المأساة. فينزلقون مرَّةً أخرى في وجهة إعادة المأساة، دون تدبُّر.
وفي تقديري، أننا نقف الآن عند مفترق الطريق، الذي تقود شعبةٌ منه إلى وجهة تكرار المأساة، من جديد، في حين تقود الشعبة الأخرى منه إلى وجهة الخروج منها. وفي مثل هذه الأوضاع الرهيبة الضاغطة وفي هذه الأجواء من التضليل الإعلامي وضمور الوعي، غالبًا ما يسير الناس في وجهة تكرار المأساة. هذا هو الغالب على البشر في أزمنة التحولات.
الهدف الذي من أجله جرى إشعال هذه الحرب الكارثية، هو نسف أمن السودانيين الذين أنجزوا ثورة ديسمبر، التي هزمت طغيان الإخوان المسلمين، بسلميةٍ مدهشةٍ خلبت ألباب العالم. فاختار الطغاة الذين أوغرت الثورة نفوسهم المريضة أن ينسفوا أمن السودانيين، ومعاشهم، وكل تمثُّلات حياتهم التي ألفوا، وجعلهم معلَّقين في الهواء، حتى ينصاعوا مكرهين لعودة الطغاة الفاسدين المفسدين إلى السلطة. ولا ينبغي أن ننسى عبارة الجنرال الذي قال: “يا سودان بفهمنا، يا مافي سودان”. هذه العبارة، لا تزال هي نبراسهم الذي به يهتدون، ولن ينفكوا.
السيسي والبرهان
يظن البعض أن الرئيس السيسي مؤمنٌ تمام الإيمان بإعلان الرباعية. وأنه إنما استدعى الفريق البرهان ليقنعه بقبولها، كما هي. وربما لحمله على إرضاء الرباعية، بالتخلص من هيمنة الإخوان المسلمين. فهل السيسي مؤمنٌ حقًا بإعلان الرباعية الذي قضى، ضمن ما قضى، بعدم مشاركة الأطراف المتقاتلة في إدارة الفترة الانتقالية القادمة، وتركها بالكامل للمدنيين؟ لا، ومن يظن ذلك مخطئ في نظري. فالسيسي إنما يتظاهر بقبول خطة الرباعية، لإرضاء الدول الثلاث الأخرى. لكنه يتآمر مع الفريق البرهان لإغراقها في ذات الوحل الذي سبق أن أغرقا فيه ثورة ديسمبر، حتى وصلا إلى إشعال الحرب وتخريب السودان وتشريد أهله.
مما يؤكد مسعى السيسي والبرهان لإغراق الرباعية، خبرٌ منسوبٌ إلى صحيفة “أفق جديد”. يقول الخبر: أعلن قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن تشكيل لجنةٍ سياسيةٍ للترتيب لإطلاق عملية سياسية جديدة. وأن هذه العملية السياسية الجديدة تقوم على الحوار مع مكوناتٍ سياسيةٍ مدنيةٍ في مقدمتها تحالف “صمود”، بوصفه طرفًا مدنيًّا مستقلا. ثم، تمديد المشاركة لتشمل، أيضًا، القوى الموالية للدعم السريع، المتمثلة في تحالف “تأسيس”. وجاء في الخبر، أيضًا، أن هذه العملية تجري برعاية “الرباعية”، مع اتباع نهجٍ تدريجيٍّ يبدأ بوقف إطلاق النار، ثم حوارٍ شاملٍ حول شكل الدولة والدستور، ينتهي بترتيبات انتقالية جديدة. ولاحظوا هنا: أن الحوار يجري في البداية مع “صمود” ثم يجري تمديد المشاركة لتشمل قوى “تأسيس” المتحالفة مع الدعم السريع. فإبعاد تحالف تأسيس في البداية مقصودٌ وأرى أن وراءه غرضٌ خبيث.
ما يلفت النظر في هذا الخبر، أن الفريق البرهان هو الذي شكَّل هذه اللجنة، فبأي صفةٍ حصل على هذا الحق؟ ثم، من هم أعضاء هذه اللجنة السياسية، يا ترى؟ وهل لدى الفريق البرهان مستودعٌ سياسيٌّ ينتقي منه أفرادًا لأي لجنةٍ سوى مستودع الإخوان المسلمين، والمتحلِّقين حولهم من أصحاب الأغراض؟ يُضاف إلى ذلك، أن هذا الترتيب يمنح الفريق البرهان شرعيةً ليست له، إذ يجعل منه مركزًا للدولة وصاحب الشرعية الأوحد الذي يدير بتلك الصفة عمليةً سياسيةً لحلحلة مشاكل تسبب فيها، من وجهة نظره، متمردون على سلطته الشرعية، من المدنيين ومن حاملي السلاح. وهنا يتضح الغرض من الشعار الملغوم: “حوار سوداني سوداني”، الذي أطلقه البرهان والمصريون.
خطاب البرهان عقب عودته من مصر
دعونا نضيف إلى ما تقدم، ما ورد في الخطاب الذي ألقاه الفريق البرهان عقب عودته من لقائه مع السيسي. فقد بدأه بقوله: إن الحرب قامت بها جماعاتٌ متمردةٌ خرَّبت ودمَّرت ونهبت واغتصبت. فبربِّكم، هل هذه لغةُ ونبرةُ شخصٍ يسعى لتسويةٍ تحقق السلام؟ ألقى البرهان في خطابه هذا تهمة الزعزعة والنهب والتخريب على قوات الدعم السريع. ناسيًا أنه هو الذي قال لضياء الدين بلال، قبل إشعاله الحرب بأيام: إذا قامت الحرب في الخرطوم فسوف يحدث خرابٌ كبيرٌ وسلبٌ ونهب. ومع ذلك، أشعل هو وعصابته الحرب. فالنهب والسلب والتشريد والخراب وانعدام الأمن هو عين ما كانوا يسعون لحدوثه. وتطبيق يوتيوب مكتظٌّ بكل ما يدل على الجهة التي خططت للحرب، وأعدت لها عدتها، وأشعلتها. وقد عرف كثيرٌ من السودانيين، مؤخَّرًا، لماذا جرى تسريح الشرطة بكاملها مع بداية الحرب. ولماذا جرى تسريح عشرات الآلاف من عتاة المجرمين من السجون صبيحة إشعال الحرب. وعرفوا، كذلك، لماذا كان الجيش ينسحب من المدن دون قتال، ويتركها لقوات الدعم السريع، بعد أن يكون قد جهَّز فيها عصابات السلب والنهب والترويع، بعد منحهم زي الدعم السريع. فالبرهان والإخوان المسلمون وأجهزتهم الأمنية هم من هيأوا، عن قصدٍ وتصميم، الأجواء الملائمة لارتكاب الجرائم. والغرض هو زعزعة أمن الناس، لكي يرضخوا ويستكينوا لهم، وكذلك، تشويه صورة قوات الدعم السريع.
أيضًا قال الفريق البرهان في خطابه المريب هذا: نحن في القوات المسلحة ملتزمون بأن نسعى إلى إقامة فترةٍ انتقاليةٍ حقيقيةٍ، يستطيع بعدها الشعب السوداني أن يؤسس دولته على أساس انتخابات حرة نزيهة، يختار فيها الشعب السوداني من يريد أن يحكمه. وأرجو أن نلاحظ عبارة: “فترة انتقالية حقيقية”، فهي تعني، في تقديري، فترةً انتقاليةً وفق ما يريد الجيش، ليس فيها سيطرة للمدنيين على الاقتصاد. وليس فيها مراجعة لشركات الجيش والمواعين التي خلقتها لتسهيل نهب موارد السودان، في الخفاء، لصالح النظام المصري. كما هي فترةٌ انتقاليةٌ ليس فيها “لجنة إزالة تمكين”، أو أي آلية للمحاسبة على الفساد وعلى الجرائم. وليس فيها قضاءٌ مستقلٌّ يلجأ إليه الناس. هي، باختصارٍ شديد، فترةٌ انتقاليةٌ يكون الوجود المدني فيها مثل وجود كامل إدريس في بورتسودان الآن.
إلى “تأسيس” و”صمود”
لقد كان إعلان الرباعية واضحًا، ولذلك تعلَّقت به أفئدة السودانيين الملكومين بفقدانهم حياتهم وبلادهم. لكن، من الواضح جدًّا أن السيسي والفريق والبرهان قد شرعا في العمل على إغراق ما رمت إليه الرباعية، وإعادة إنتاج الحالة التي سادت الفترة الانتقالية الموءودة (20192021). لذلك، فإنني أود أن ألفت نظر كلٍّ من “تأسيس” و”صمود” إلى أن تشرحا بدقةٍ وووضوحٍ وصراحةٍ للمستشار الأمريكي أهداف حلف السيسي والبرهان، وخطر ذلك السلبي على نجاح مهمته، إن أُسند الأمر برمته إلى السيسي. وكذلك، أن ترفضا، مبدئيًا، منح البرهان حق تكوين اللجنة السياسية. لأن ذلك يضعه في مركز الدولة ويضع معارضيه في هامشها، الأمر الذي يكفل له شرعيةً لا يستحقها أصلا.
ينبغي أن تكون لجنة الحوار مستقلةً، وأن يجري تشكيلها عبر مفاوضاتٍ أوَّليةٍ بين الأجسام الثلاثة معًا: “تأسيس” و”صمود” و”الجيش”، تحت إشرافٍ الرباعية بكاملها. كما أود لفت نظر “صمود” إلى ضرورة ألا تجلس مع البرهان وعصابته في غياب تأسيس. لأن المقصود من جلوسها وحدها في البداية هو عزل “تأسيس” لشق الكتلة الثورية المقاومة لهيمنة الجيش، بغرض إضعافها. كما أن الحرب الجارية في الميدان ليست بين “صمود” و”الجيش”، وإنما بين “قوات تحالف تأسيس” و”الجيش”. فـ “تأسيس” وجيشها هو ما يقلق السيسي والبرهان. وهو، من الجانب الآخر، ما سيضمن لـ “صمود” وضعًا تفاوضيًا قويا. “تأسيس”، بشقيها العسكري والمدني، هي ما يخصم عمليًّا من هيمنة الجيش ومليشياته، وهي ما ستجبرهما على المساومة، لأنها هي الممسكة بالأرض، وليست “صمود”.
الجيش هو الضامن لخطة إعادة الإعمار المصرية
راج في الوسائط الإعلامية قبل أيام خبرُ اعتقال المهندس عبد الغفار أحمد الأمين، الذي يعمل بهيئة الطرق والجسور، واقتياده من منزله إلى مكانٍ مجهول. والسبب هو كشفه عن تقديراتٍ مهولةٍ لصيانة جسري الحلفايا وشمبات تكفي، حسب قوله، لإنشاء ثلاثة جسورٍ جديدة. وقال إن الفريق الهندسي المصري الذي زار السودان لم ينسق في زيارته مع جهات الاختصاص، وأن معاينته للجسور مع فريق سوداني ليس له أي علاقة بهندسة الطرق والكباري. وأشار هذا المهندس إلى عمليات فسادٍ واسعةٍ، قال إنها بدأت باستلام أموالٍ من اللجان المختصة. وتمثل هذه الحادثة، في نظري، بداية ظهور قمة جبل الجليد لأضخم عملية فساد في التاريخ الحديث. وهي العملية المسماة “إعادة الإعمار”. فقد اتفق السيسي والبرهان، في مفاوضاتٍ سريةٍ، كشفها بوق المخابرات المصرية الصحفي الاقتصادي، محمد أبو عاصي، حيث قال: إن حكومة بورتسودان قد منحت مقاولة إعادة إعمار السودان بالكامل لمصر، وبلا منافسة من أي جهة أخرى. وقال إن كلفتها تتعدى 100 مليار دولار. وهذا مبلغٌ مهول يمكن أن يُسيل لعاب كبرى الشركات الأمريكية، مثال: نوثروب، ولوكهيد مارتن، ورايثون. ولا أعرف مقاولةً للإعمار بهذا الحجم، قد جرى منحها لجهةٍ واحدةٍ، دون مناقصة. باختصار شديدٍ، سوف يستميت الرئيس السيسي، الذي يسعى لكي تكون دفة الرباعية بيده وحده، في الإبقاء على البرهان في الفترة الانتقالية القادمة، حتى لا يعترض تلك الصفقة الضخمة أي شيء. وهي صفقةٌ سوف يجري دفع قيمتها من ذهب السودان وموارده الثرة، التي اعتادت مصر نهبها. هذا إلى جانب ما يأتي من عون لإعادة الإعمار من الأشقاء الخليجيين الذين وعدوا بذلك، ومن بقية دول العالم.
ختامًا، كل ما جاء في خطاب البرهان الذي نحن بصدده، يقول وبوضوحٍ شديد: إنه هو وعصابته باقون في الفترة الانتقالية القادمة، وهو ما سيجعل عودة الديمقراطية والحكم المدني: “كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً”. ولذلك، علينا الامتثال لما صدح به الفنان الراحل، محمد الأمين، قبل عقودٍ طويلة: “اليقظةْ، الحذرْ، الاستعدادْ، الثورةْ طريقنا إلى الأمجاد”.
[email protected]
المصدر: صحيفة التغيير