بإعلان تحالف «تأسيس» تشكيل حكومة موازية في مدينة نيالا بجنوب دارفور، يشهد السودان اليوم واحدة من أكثر التحولات السياسية تعقيداً في تاريخه الحديث.
وهو تحول لم يأت بشكل مفاجئ، بل هو نتاج تراكمات تاريخية وأخرى راهنة. التراكمات التاريخية، يعود بعضها إلى ما بعد استقلال البلاد عام 1956، عندما نشأت دولة ما بعد الاستقلال السودانية على أسس هشة ومأزومة نتاج الفشل في معالجة إرث الاستعمار، والفشل في بناء نموذج حكم شامل يحقق العدالة بين جميع مكونات البلاد القومية والإثنية. فالنخب المدنية والعسكرية التي تعاقبت على حكم البلاد طيلة الفترة الممتدة منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، لم تتصد للمهام التأسيسية للدولة السودانية المستقلة حديثا، فظلت هذه المهام مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي ذات النخب التي لم تركز إلا على مسألة بقائها في السلطة، متجاهلة الإجابة على السؤال المركب حول كيفية بناء دولة سودان ما بعد الاستقلال بما يحقق ويقنن الاعتراف بالتعدد الإثني والديني والثقافي، ويضع أسس النظام الديمقراطي التعددي المدني، وأسس التنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد وتكويناتها القومية. وبسبب ذلك، ظل تمركز السلطة والثروة في مركز البلاد سبباً في إهمال الأطراف وتهميشها لعقود طويلة، قبل أن يتفاقم الوضع حروبا أهلية ونزاعات متكررة جاءت تعبيراً صارخاً عن خلل معادلة المشاركة العادلة في السلطة، ومعادلة التقسيم العادل لموارد وثروات البلاد، وتعبيرا عن أزمة الهوية والإدارة السياسية. لكن هذا التحول السياسي المشار إليه، لم يكن نتاج تلك التراكمات التاريخية وحدها، بل هو أيضا نتاج الأزمة السياسية الراهنة والمتصاعدة منذ أن اقتصر نجاح ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 على الإطاحة فقط بالغطاء السياسي لنظام الإنقاذ دون المساس بجسده، وما صاحب ذلك من توترات حادة ومتفاقمة جاءت قمتها في اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023. وبالإضافة إلى جذوره في التراكمات التاريخية والراهنة، فإن التحول السياسي المعقد الذي يشهده السودان اليوم، يعكس أيضا التنافس المحتدم بين أطراف خارجية عينها على أراضي السودان الشاسعة الخصبة ومياهه الوفيرة ومعادنه النفيسة وموقعه الجيواستراتيجي، مما يضع السودان في قلب صراع بالوكالة قد يطيل أمد الأزمة ويعقد حلها.
المشكلة ليست مجرد صراع على السلطة بين جنرالين أو نخبتين سياسيتين، بل هي أزمة هيكلية عميقة تتعلق بطبيعة الدولة السودانية وإدارتها للتنوع الإثني والثقافي، وتوزيع السلطة والثروة
وهذا التحول السياسي الأكثر تعقيدا الذي تشهده بلادنا اليوم، خلق وضعا إنسانيا كارثيا، تمظهر فيانهيار النظام الاقتصادي الموحد، وانعدام الأمن الغذائي، وانهيار خدمات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية الأخرى، والتهجير القسري، والانقسام الاجتماعي حيث فرضت الولاءات السياسية والعسكرية على السكان، وأصبحت الهوية واللهجة والمظهر محط تدقيق واشتباه. وبالإضافة إلى هذه التداعيات الكارثية، فإن هذا التحول السياسي يطرح أسئلة مصيرية عن مستقبل البلاد، وعن إمكانية استمرار السودان كدولة موحدة. فوجود حكومتين في السودان يمثل تحدياً وجودياً للدولة السودانية بمفهومها التقليدي. لكن، وكما أشرنا أكثر من مرة، المشكلة ليست مجرد صراع على السلطة بين جنرالين أو نخبتين سياسيتين، بل هي أزمة هيكلية عميقة تتعلق بطبيعة الدولة السودانية وإدارتها للتنوع الإثني والثقافي، وتوزيع السلطة والثروة بين المركز والأطراف. لذلك، فإن هذا التحول السياسي الراهن، يدفع إلى السطح بعدة احتمالات وتصورات، منها:
تقسيم السودان، حيث يحذر كثيرون من أن استمرار الاستقطاب الراهن في البلاد ما بين نيالا وبورتسودان/الخرطوم، قد يؤدي إلى تقسيم السودان إلى دولتين، شبيه لسيناريو انفصال جنوب السودان، ولكن بشكل أكثر تعقيداً. فحكومة نيالا تسيطر على مناطق شاسعة وغنية بالموارد الطبيعية خاصة النفط والذهب والصمغ، إضافة إلى الثروة الحيوانية، مما قد يمكنها من الاستمرار ككيان منفصل حتى وإن لم يتم الاعتراف الدولي بها، على نمط أقاليم أخرى شهدت حكومات منفصلة مثل أرض الصومال والصحراء الغربية.
استمرار النزاع والاستنزاف طويل الأمد، حيث تستمر الحرب لسنوات طويلة دون أن يتمكن أي طرف من تحقيق حسم عسكري أو سياسي واضح. صحيح أن الأمر قد يبدو امتدادا للنزاع الدموي الدائر منذ عقود، ولكنه هذه المرة يختلف نوعيا، حسب الحجم والوزن العسكري لتحالف تأسيسي، وسيكون الأكثر كلفة إنسانياً واقتصادياً، وقد يؤدي إلى دمار شامل للبلاد.
الانهيار الكامل، فقد يؤدي الأمر إلى انهيار كامل للدولة السودانية، وتفككها إلى كانتونات عرقية وإقليمية متعددة، مما ستكون له تداعيات إقليمية خطيرة، خاصة على دول الجوار.
الحل التفاوضي، يرى بعض المحللين أن وجود حكومتين قد يمهد في النهاية للحل السياسي، حيث أن التوازن العسكري بين الطرفين قد يدفعهما للتفاوض والوصول إلى تسوية سياسية عنوانها نظام كونفدرالي في البلد. ولكن، في كل الأحوال فإن هذه التسوية ستظل فوقية، ولن تعني انتهاء التأزم هنا أو هناك.
إن هذا الواقع المأزوم، يفترض ألا تظل القوى المدنية في وضعية المراقب وانتظار نتيجة ما ستفسر عنه المعركة بين الطرفين، بل يتطلب انخراطها في هذه المعركة لصالح تبني مقاربة تختلف جذرياً عن المقاربات التقليدية التي تعاملت مع الأعراض دون الجذور. مقاربة جوهرها حوار وطني شامل يعيد النظر في نموذج الحكم لتبني نظام لامركزي حقيقي، فدرالي أو كونفدرالي، يمنح الأقاليم استقلالاً ذاتياً واسعاً، ويتبنى آلية عادلة لتقاسم موارد البلاد وثرواتها بين المكونات المختلفة، ويحقق مصالحة وطنية تعالج إرث العنف والظلم التاريخي، ويستدعي دعما دوليا وإقليميا يركز على مصلحة الشعب السوداني لا مصالح الدول الداعمة.
إن الأفضل لمستقبل السودان هو الحفاظ على وحدة أراضيه، ولكن في إطار دولة اتحادية، لحمتها الديمقراطية الحقيقية، وتعترف بالتنوع وتضمن العدالة بين جميع السودانيين. والسودان الغني بطاقات شعبه الخلاقة قادر على تجاوز محنته الراهنة، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية حقيقية من نخبه في المركز والأطراف، ودعماً جاداً من المجتمع الدولي، وفوق كل ذلك إصرار الشعب السوداني على تحقيق السلام والعدالة والحرية والحفاظ على وحدة البلاد.
القدس العربي
المصدر: صحيفة الراكوبة