مهدي داود الخليفة
في ظلّ تسارع المبادرات الدولية والإقليمية بشأن السودان، يظهر جليًّا أن مستقبل الحكم في البلاد لا يزال رهينة التجاذبات بين قوى داخلية عاجزة عن التوافق، وأطراف خارجية تسعى لتشكيل المشهد على مقاس مصالحها.
ومع كل تصريح أو لقاء دبلوماسي في واشنطن، أو بيان صادر من القاهرة، تنهض أسئلة مُلحة: من يملك القرار في السودان؟ وما هو موقع الإرادة الشعبية وسط هذا الضجيج السياسي والإقليمي؟ في تصريحات متعددة، كان آخرها لقاء وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو مع نظيره المصري بدر عبد العاطي (31 يوليو 2025)، أكدت الولايات المتحدة التزامها بدعم الانتقال إلى حكم مدني في السودان.
و المقصود بـ”الحكم المدني” وفق الرؤية الأميركية هو:
١ انهاء الهيمنة العسكرية علي القرار السياسي مع احترام الجيش كمؤسسة وطنية محترفة وغير مُسيسة.
٢ تأسيس حكومة مدنية شرعية تنبثق عن حوار شامل أو انتخابات حرة وشفافة.
٣ تفكيك المليشيات، سواء المتحالفة مع الجيش أو قوات الدعم السريع، وإعادة هيكلة المنظومة الأمنية على أسس وطنية.
٤ تمكين قوى الثورة والمجتمع المدني الحقيقي، وليس النخب المعزولة أو المكونات الحزبية التي فقدت الشرعية الشعبية. يمثل هذا التحول خروجًا واضحًا من سياسة “الاستقرار بأي ثمن”، التي سادت في مراحل سابقة، إلى سياسة “التحول الديمقراطي بضمانات محسوبة”، مدفوعة من جانب واشنطن بتجاربها المتكررة مع الانقلابات العسكرية التي ثبت فشلها في تحقيق الأمن أو الاستقرار طويل الأمد في المنطقة. حقيقة مصر والانتقال المدني في السودان… بين الاتهام والتفهم. تتردد كثيرًا، في أوساط سودانية، مقولة أن الحكومة المصرية لا تؤيد الانتقال المدني في السودان، وأنها تُفضّل استمرار الجيش في السلطة باعتباره الضامن التقليدي لأمنها القومي، خاصة فيما يتعلق بملفي الحدود والنيل.
لكن، وبحكم معرفتي المتواضعة بطبيعة العلاقة المصريةالسودانية، وبالنظر إلى تاريخ مواقف القاهرة تجاه التحولات السياسية في السودان، يمكن القول بثقة إن الحكومة المصرية لم تكن يومًا ضد إرادة الشعب السوداني.
بل إن مصر رغم تحفظاتها المفهومة أمنيًا دائما ما وقفت إلى جانب الاستقرار القائم على قاعدة شعبية وطنية، وليس بالضرورة على صيغة عسكرية.
وبالتحليل الموضوعي، يمكن تلخيص دوافع الحذر المصري في
: * الخشية من اضطرابات سياسية تفتح المجال أمام قوى غير مرغوب فيها (من منظور الأمن القومي المصري) كجماعات الإسلام السياسي المدعومة إقليميًا.
* القلق من اختراقات محتملة عبر نفوذ تركي أو إيراني في حال صعود قوى سياسية معادية للقاهرة.
* الرغبة في الحفاظ على الشراكة التقليدية مع الجيش السوداني الذي ترى فيه المؤسسة المصرية امتدادًا استراتيجيًا.
إلا أن هذه التحفظات لا تعني بأي حال رفضًا مبدئيًا للانتقال المدني.
بل العكس، يمكن لمصر أن تكون شريكًا في إنجاحه، إذا أُحسن إدماجها ضمن مقاربة إقليمية تحترم السيادة السودانية وتضمن مصالح الجميع. السودانيون وحدهم من يجب أن يقرروا شكل الحكم..
الخطأ الفادح الذي تقع فيه بعض القوى السودانية اليوم هو الاستسلام لإرادة الخارج، بدلاً من العمل على تشكيل جبهة داخلية قوية وموحدة تفرض على العالم احترام إرادتها. فلا مصر، ولا واشنطن، ولا أي عاصمة أخرى تملك حق تقرير النظام السياسي في السودان.
إن ثورة ديسمبر المجيدة لم تكن إذنًا خارجيًا، بل إعلانًا صريحًا بأن السودانيين يريدون دولة مدنية ديمقراطية تحترم كرامتهم. وإن أي تباطؤ أو تراجع عن هذا الهدف، سواء بذريعة التحفظ المصري أو انتظار ضغط دولي، هو خيانة معرفية وإخفاق سياسي فادح.
السودان لا يحتاج إلى وصاية، بل إلى قيادة وطنية مسؤولة، ومشروع جامع يُوحد قوى الثورة، ويستنهض الشارع، ويضغط على الداخل والخارج معًا.
العيب ليس في رفض الآخرين لديمقراطيتنا، بل في ضعفنا عن فرضها. والمشكلة لا تكمن في أن مصر لا تؤيد الانتقال المدني، بل في أن قوى الثورة لم تُنجز بعد جبهة سياسية موحدة تُجبر الجميع على احترام خيارها.
للأسف، المشهد السياسي الحالي تهيمن عليه مجموعات محدودة، تنشط في الفضاء العام بلا جذور تنظيمية حقيقية ولا قدرة على الفعل الشعبي، وقد أضحت تُمثل السياسة وكأنها نشاط إعلامي أكثر منها معركة مصيرية لإعادة بناء الدولة السودانية. ولهذا ليس من المستغرب أن تغيب الرؤية وتتراجع المبادرة، ويُعاد إنتاج واقع السيطرة العسكرية والانقسامات الجهوية والطائفية.
إن إحدى أولى الخطوات في استعادة زمام المبادرة يجب أن تكون إطلاق مبادرة وطنية جامعة، يتبناها السودانيون بمختلف أطيافهم من قوى مدنية، ولجان مقاومة، وقيادات فكرية، وأجسام مهنية.
تهدف هذه المبادرة إلى: توحيد الرؤية المدنية حول الحكم الانتقالي، بعيدًا عن الانقسامات والاصطفافات الدولية. بلورة ميثاق سياسي جديد يُعيد تصدير صوت الشارع السوداني كفاعل رئيسي، لا تابع هامشي.
فتح قنوات تواصل مع الأطراف الإقليمية والدولية من موقع الندية، وليس التبعية، لتوضيح أن مطلب الانتقال المدني ليس مشروعًا للنخب بل استحقاقًا شعبيًا غير قابل للمساومة.
تشكيل جبهة ضغط جماهيرية داخلية تفرض معادلة جديدة في المعادلة السياسية، وتدفع القوى الدولية لاحترام الإرادة السودانية. هذه المبادرة لا تستجدي موقفًا من اي دولة ، ولا تراهن على ضغوط واشنطن، بل تبني قوتها من الشارع ومن شرعية الثورة، وتُخاطب العالم بلغة من يملك قراره لا من ينتظر الإملاء.
فليكن شعارها: “من السودانيين يبدأ الحل.. وبإرادة السودانيين يُرسم المستقبل.”
إننا أمام فرصة أخيرة لإنقاذ السودان من مسار التلاشي الكامل. ولا سبيل إلى ذلك سوى بتذكير أنفسنا، ومخاطبة العالم من حولنا، بأن السودان ليس حديقة خلفية لأحد، ولا غرفة انتظار لقرارات الجوار. السودان وطنٌ لأبنائه، وهم وحدهم من يجب أن يحددوا شكل نظامه، لا عبر المؤتمرات المغلقة في العواصم، ولا عبر تحالفات السلاح، بل عبر مشروع سياسي وطني جامع، يستند إلى إرث ثورة ديسمبر، ويُعبّر عن تطلعات شعبٍ قدّم الشهداء ولم يطلب الإذن من أحد ليفعل ذلك. فإما أن نستعيد المبادرة، أو نستسلم لمشيئة الغير، ولن نجد حينها من يُنقذ وطناً لم يُرد أهله إنقاذه.
(اقوم باعداد ورقة عن موقف مصر من الانتقال المدني في السودان: بين الحسابات الأمنية والمقاربات السياسية سأنشرها قريبا ان شاء الله).
المصدر: صحيفة الراكوبة