السودان عند مفترق المصائر.. هل تأخرت الرباعية أم جاءت في أوان النجاة؟

أحمد عثمان جبريل

“ما أكثر الحروب التي تبدأ بكذبة وتنتهي بكارثة، وبينهما يدفع الأبرياء الثمن”

ألبرتو مانغويل

الآلية الرباعية الولايات المتحدة، السعودية، مصر، الإمارات أصدرت بيانًا بدا وكأنه محاولة جادة أخيرًا لرسم ملامح خريطة طريق جديدة، وإنقاذ بلد يقف فعليًا على حافة التحلل.

ففي لحظة كثيفة بالغموض والتشظي، بدا وكأن السودان قد غرق بالكامل في وحل حرب عبثية لا منتصر فيها سوى الخراب، فالعالم الذي طالما اكتفى بالفرجة والتصريحات الباردة، استيقظ أخيرًا على هول الكارثة.

لكن ما الذي تغيّر الآن؟ وهل هذا التحرك المتأخر يمكن أن يشكل نقطة انعطاف حقيقية في الأزمة السودانية، أم هو مجرد محاولة أخرى في سجل طويل من المبادرات المجتزأة والناقصة؟

إن الناظر للأمر بعين فاحصة، لابد أن يلحظ أن التحول الأمريكي، انتقل من المراقبة إلى الاستهداف، فقد جاءت الضربة السياسية الأكبر في هذا الخصوص ليس فقط من البيان الرباعي، بل من واشنطن تحديدًا، عبر حزمة عقوبات جديدة طالت مليشيا “البراء بن مالك” التي صنفها البيان بالمتطرفة، وامتدت إلى شخصية سياسية بحجم جبريل إبراهيم، رئيس حركة العدل والمساواة ووزير مالية حكومة البرهان.

في اعتقادي هذه ليست عقوبات رمزية. إنها إعادة تعريف لمن هو خصم سياسي، ومن هو تهديد أمني إقليمي ودولي.

لقد أدارت الولايات المتحدة، ظهرها طويلًا لتعقيدات المشهد السوداني، لكنها عادت هذه المرة بسلاح واضح: “تجفيف منابع التمويل، ومحاسبة من ترى أنهم يعرقلون أي أفق للحل السياسي”.

فقد جاءت تصريحات وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لمكافحة الإرهاب غير مسبوقة في حدّتها: “لن نسمح للجماعات الإسلامية السودانية بتهديد الأمن الإقليمي والدولي”.. ومن لا يعرف فإن ذلك إعلان صريح بأن السودان بات يدخل ضمن أولويات الأمن القومي الأمريكي.

ووسط كل ذلك يجب ان نسأل السؤال الجوهري: بيان الرباعية: خريطة طريق أم إنذار؟.. في رأيي المتواضع: البيان الصادر عن الرباعية لم يكن عادياً، بل حمل لغة صريحة وجريئة: وهو رفضٌ قاطع لأي حل عسكري.

ودعوة لعملية انتقال سياسي مدتها تسعة أشهر، تفضي إلى حكومة مدنية.. مع إقصاء واضح للجماعات المتطرفة المرتبطة بالإسلام السياسي.

الواقع أن البيان، لم يوجَّه للجيش وحده، ولا لقوات الدعم السريع فقط، بل جاء بمثابة إنذار متعدد الاتجاهات، يشمل أيضاً القوى الإقليمية التي تواصل دعمها العسكري، والمكونات المدنية المتشرذمة التي عجزت عن تقديم بديل موحّد.

لقد بدا واضحا أن جبريل إبراهيم، كان بمثابة الزلزال الصامت، فالعقوبات التي طالته، ليست مجرد خطوة سياسية، بل رسالة تقلب توازنات داخلية وإقليمية.. فالرجل الذي كان يمثل أحد أعمدة التحالف العسكري المدني في بورتسودان، بات الآن عبئاً على معسكره، ومصدر قلق للقوى التي كانت تراهن عليه في ترتيبات ما بعد الحرب.

فإدراجه ضمن لائحة العقوبات يُحدث شرخاً في تحالفات قائمة، ويطرح تساؤلات عن قدرة حكومة البرهان على الاحتفاظ بشرعية دولية بينما أحد أركانها متهم بصلات مع جماعات متطرفة وتمويلات مشبوهة.

ووفقاً لكل ذلك فقد وصلنا إلى ما يعرف بتقاطع اللحظة، ليأتي السؤال المهم: هل تستيقظ القوى المدنية؟

بما أبرز ما يتيحه هذا الحراك الدولي الجديد هو فتح نافذة نادرة أمام القوى المدنية.. فالبيان الرباعي، وإن لم يسمّها، يمنحها مساحة للعودة إلى المشهد، شريطة أن تنجح في ما فشلت فيه سابقاً وهو التوافق على رؤية موحدة، ومشروع وطني لا يتحول إلى أداة لصراع النفوذ الإقليمي.

وما لم تنجح هذه القوى في التحرك سريعاً، فإن القوى المتحاربة ستسابق الزمن لفرض أمر واقع عسكري، خاصة مع تصاعد الضغوط وظهور مؤشرات على تصدعات داخل معسكر بورتسودان.

هذا البيان يقول إن اللحظة السودانية الآنية تعاني من ضيق في الوقت، واتساع في المخاطر، ما يعني أن ما حدث وفقاً لبيان الرباعية لا يمكن النظر إليه كحدث معزول، بل كـ نقطة مفصلية تعيد تعريف قواعد الاشتباك داخل السودان، وتفتح الباب أمام احتمالات ثلاثة:

إما حل سياسي حقيقي يبدأ بتسوية لا تكرّس هيمنة العسكر.. أو تشدد أطراف الحرب في محاولة لفرض وقائع جديدة قبل نضوج أي تسوية.. وفي الثالثة تدويل متسارع للأزمة، ما سيجعل القرار السوداني أكثر هشاشة وارتهانًا.

يبدو أن السودان لا ينهار دفعة واحدة، بل يتفتت كما تتفتت ذاكرة شعبٍ أنهكه الانتظار..

والزمن، مهما بدا مرنًا، بدأ ينفد أمام المتحاربين، وأمام شعبٍ يتوق منذ سنوات لأبسط أشكال الحياة: (الكرامة، والأمان، والحرية).

لكن، رغم كل هذا العتم، يظل في الأفق ما يبرر الحلم.. فالمشهد الدولي يتغير، وأصوات الداخل بدأت تستعيد شجاعتها، وملامح السودان الجديد: (مدنيااا، تعدديااا، حريااا) لم تعد أمنية بعيدة.

لقد تعب السودانيون بما يكفي، وأدرك العالم، وإن متأخرًا، أن هذا الشعب لا يستحق إلا حياة تليق بتضحياته وشجاعة ثواره.

ما استطيع قوله، فإن القادم لن يكون تكرارًا للماضي، بل واقعًا مختلفًا، تُعاد فيه كتابة المعادلات، ويتقدّم فيه صوت الناس على ضجيج السلاح، وتنهار فيه قلاع الوهم مهما استعصت.

فليعلم كل من بعينيه رمد، أن القاطرة بدأت تتحرك، ومن شاء أن يلتحق بركب السودان الجديد فليفعل، ومن أبى فسيجد نفسه خارج التاريخ..

إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.