أحمد عثمان جبريل
في المساحات المتروكة بين الألم والانتظار، ينبت الأمل دون ضجيج.
وفي السودان الذي استنزفته النيران حتى شارف على اليأس، تسري الآن ملامح تحول لا يُشبه ما سبقه.
ليست مؤتمرات ولا صور تذكارية، بل مؤشرات ملموسة على أرض الواقع، وإشارات تكاد تهمس:”إن الحرب تترنح، وإن السلام بدأ يتنفس”.
قال عبد الرحمن الكواكبي:
❝ الحرية لا تُطلب إلا حين تُفقد، والسلام لا يُبنى إلا حين يُدرك ثمن الحرب.❞
والسودان أدرك، بعد كل هذا الخراب، أن ما خسرناه لن يُستعاد بمدفع، بل بقرار، وأن أقصر الطرق للسلام تبدأ من الداخل لا الخارج.
1
لم يكن حديث الفريق شمس الدين كباشي عن استعداد الجيش للتفاوض مجرد تصريح عابر.
فقد جاء بعد ساعات من الزيارة الخاطفة التي أجراها الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة أمس الأول زيارة مثّلت نقطة تحول فارقة في موقف القيادة العسكرية من مسألة وقف الحرب.
في القاهرة، لم يُقنع البرهان مصر، بل قنع واقتنع وأُقنِع، بأن السلام بات ضرورة وطنية لا تحتمل التأجيل، وأن القتال لم يعد يُربك خصومه بقدر ما يُهلك ما تبقى من شعبه.
2
بات واضحًا أن مصر كعضو أساسي في الرباعية الدولية (إلى جانب أمريكا، السعودية، والإمارات) قررت أن تلعب دورًا فاعلًا في العملية السلمية، ليس فقط من موقعها الجغرافي، بل بعقلها السياسي وبثقلها الدبلوماسي.. و ذلك بعد أن لمست ذلك من خلال قيادات مدنية حضرت لمصر وقدمت رؤيتها نحو العملية السلمية و التي شددت على أنها ثوابت لا تحتمل مجرد النقاش حولها.
وبحسب مصادر متقاطعة، فإن أطرافًا إقليمية ودولية مارست بعد ذلك ضغوطًا واضحة على القاهرة لتكون جزءًا عمليًا من المسار، بالطريقة ذاتها التي تدخّلت بها لصناعة التهدئة في غزة، لا بالمناشدة بل بالمبادرة.
3
ما بعد القاهرة، لم يعد الخطاب العسكري كما كان.. رباعية المجلس السيادي البرهان، كباشي، ياسر العطا، إبراهيم جابر بدت متماسكة في توجهها الجديد، منفتحة على تحولات الواقع، ومتقاطعة للمرة الأولى مع الرباعية الدولية في الرؤية، لا المجاملة.
من القاهرة بدأ التحول، وفي بورتسودان أُعلن على لسان كباشي، أن الجيش مستعد للدخول في مفاوضات سياسية جديدة تهدف لإحلال السلام الشامل.
4
التحركات على الأرض دعمت الخطاب الجديد: إعلان تشكيل لجنة سياسية لحوار موسّع، وبدء اتصالات فعلية مع تحالف “صمود”، ثم “تأسيس”، المؤيد للدعم السريع، وهو تطور غير مسبوق.
فما كان يُنظر إليه كخط أحمر، أصبح الآن جزءًا من المشهد السياسي القادم، وما كان يُرفض من تحت الطاولة، صار يُناقش فوقها.
الحرب لم تُحسم عسكريًا، لكنها بدأت تُحسم سياسيًا.
5
وقد ترافقت كل تلك الخطوات مع إجراءات عملية تمهيدية:”شطب بلاغات ضد قيادات سياسية، رفع القيود عن استخراج الأوراق الثبوتية، وفتح قنوات اتصال مغلقة منذ شهور.
وفي خلفية كل هذا، تبدو المؤسسة العسكرية وكأنها تخلع تدريجيًا عباءة الحرب، وتستبدلها بزي الدولة العائدة إلى مسؤولياتها.
6
في المقابل، شهدت الخرطوم وعطبرة وبورتسودان تحركات أمنية لافتة، شملت اعتقال عناصر محسوبة على التيار الإسلامي، حاولت عبر الإعلام والتنسيق الخلفي تعطيل المسار الجديد.
وبالتوازي، تُعدّ المؤسسة العسكرية لحزمة تغييرات وشيكة، تطال قيادات تنفيذية عسكرية وولاة وقيادات محسوبة على نظام ما قبل الثورة، في خطوة تعني أكثر من مجرد إحلال إداري إنها إعادة فرز للولاءات في اتجاه يبتعد عن إرث الإسلاميين.
7
الإسلاميون، الذين كانوا يراهنون على اللحظة لملء الفراغ، بدا أنهم يفقدون تدريجيًا زمام المبادرة.
رغم محاولاتهم لخلق ضجيج مضاد، إلا أن الرأي العام السوداني، الذي ذاق ويلات الحرب، أصبح أكثر ميلًا للهدوء، وأكثر رفضًا لمحاولات تسييس معاناة الناس أو توظيفها لأجندات قديمة.
8
وفي الإقليم، برز لقاء بالغ الأهمية جمع المبعوث الأمريكي “بولس” ونائب وزير الخارجية السعودي بعدد من قادة دول الجوار السوداني.
في هذا اللقاء، جرت مناقشة تفاصيل خطة الرباعية، وآليات تفعيل الدور المصري كضامن إقليمي محوري، مع التأكيد على الحاجة إلى مرحلة انتقالية تستند إلى وقف دائم لإطلاق النار، تعقبها عملية سياسية شاملة حول شكل الدولة والدستور.
9
في كل بيت سوداني رواية نزوح، وفي كل شارع حكاية موت، وفي كل قلب أمنية واحدة: أن تنتهي هذه الحرب.
السلام هنا ليس ترفًا سياسيًا، بل شرط بقاء. وهو اليوم لم يعد وهماً ولا تمنياً، بل أصبح حقيقة تفرض نفسها بتراكم المعطيات.
العملية السلمية انطلقت، ليس لأن الأطراف أدركت فجأة خطأها، بل لأن الواقع أصبح أقوى من العناد.
والذين يعتقدون من الاصوات النشاذ والابواق الكيزانية، أن هذه لحظة استراحة مؤقتة، قد يُفاجأون قريبًا بأن عجلة السياسة بدأت تتحرك، وأن من تأخر عن قطار الحل، سيبقى واقفًا على رصيف العزلة، ينظر إلى وطن يداوي جراحه ويمضي..
إنا لله ياخ.. الله غالب.
المصدر: صحيفة التغيير