اخبار السودان

السودان “رمضانات الجراح : حكايات من أرض النكبات” ..!!؟؟

د. عثمان الوجيه

 

في شهر رمضان المبارك هذا العام، تجلّت للعيان فصولٌ مؤلمة من حكاية السودان المثقل بالجراح، أشهرٌ طوال مضت منذ أن اندلعت نيران الحرب في منتصف أبريل من العام قبل الماضي، لتلقي بظلالها القاتمة على حياة الناس، وتعبث بمقومات وجودهم، كانت موائد الإفطار في هذا الشهر الكريم، شاهداً صامتاً على عمق المأساة، أغلبها اعتمد على فتات المساعدات الإنسانية، وعلى مبادرات سخية من منظمات الخير، لتعكس بذلك غياب مظاهر الحياة الاعتيادية التي ألفها السودانيون قبل أن تطحنهم رحى النكبات المتلاحقة، لقد أصابت الحرب كل شيء، من الغذاء الضروري إلى الماء العذب، مروراً بالرعاية الصحية التي باتت ضرباً من الخيال في مناطق واسعة، وتأكد حجم الكارثة جلياً مع معاينة الأضرار الهائلة التي خلفتها المعارك في المناطق التي استعادها الجيش من قبضة المليشيا المتمردة، لم تكن تلك المشاهد مجرد إحصائيات وأرقام، بل كانت صرخات مدوية لحجم المعاناة التي لن يمحوها مجرد الكشف عنها أو حصرها، إن ترميم ما أفسدته الحرب يحتاج إلى شهور، بل ربما سنوات طوال، لمعالجة آثارها المدمرة على سُبل العيش، وعلى أسس المستقبل الذي سعى الناس عبثاً للعيش في كنفه لسنوات مضت، فكل الأمور في السودان تسير على وقع طبول النكبات، وما كشفته الأسابيع الأخيرة من أهوال الدمار وفقدان أبسط مقومات الحياة الكريمة، لا يبشر بخير قريب، ولا يسمح بتعزيز بصيص من الأمل في غدٍ أفضل، فها هي نقابة الأطباء السودانيين تفصح عن كارثة حقيقية، حيث أُجبر ما يقارب التسعين بالمائة من المستشفيات في مناطق النزاع على إغلاق أبوابها، أما القليل الذي لا يزال يعمل، فيعتمد بشكل متزايد على سواعد المتطوعين من لجان الطوارئ المحلية، أولئك الشباب ذوو الموارد المحدودة الذين يشكلون جزءاً من شبكة إغاثة شعبية تحاول جاهدة تقديم العون في مختلف أنحاء البلاد، لكن السؤال المرير يتردد في الأذهان: كيف يمكن الاستمرار في ظل هذا الوضع المتردي؟ وتتبعه أسئلة أخرى لا تجد لها إجابات شافية، يبقى أن نذكر أن السودان يخوض حرباً ضروساً منذ الخامس عشر من أبريل لعام ألفين وثلاثة وعشرين، حرباً لا تزال رحاها تدور بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع المتمردة، حرباً شرّدت الملايين، وأزهقت أرواح الآلاف، وأتت على الأخضر واليابس في أرض السودان الطيبة، فإلى متى يستمر هذا الكابوس؟ ومتى تنجلي سماء الوطن المثقل بالغيوم؟ هنا تحضرني طرفة فليسمح لي القارئ الحصيف بأن أوجزها في هذه المساحة وبهذه العجالة وهي: “دمعة في المنفى وسجدة في القصر !!” أجبرتني الظروف على مغادرة وطني، أرضي التي أحبها حد الجنون، قبل الخامس عشر من أبريل لعام ألفين وثلاثة وعشرين، والكابوس يطبق على السودان، حرب ضروس بين جيشنا الوطني وتلك المليشيا المتمردة، حربٌ شردت الملايين، وأزهقت أرواح الآلاف، وأتت على كل جميل في بلادي، ففي منفاي الاختياري، حيث لجأتُ بحثاً عن الأمان، لم يتوقف قلبي عن الخفقان باسم السودان، كل سوداني ألتقيه، سواءً قدم إلى هنا بسبب هذه الحرب اللعينة أو لظروف أخرى سبقتها أو تلتها، يكون سؤالي الأول عن أسرته، أين هم؟ هل نزحوا داخل الوطن أم لجأوا إلى خارجه؟ ثم أنتقل ببطء وثقل إلى أخبار الهم السوداني العام، إلى تلك الجراح الغائرة التي تنزف كل يوم، بالأمس تحديداً، وصلني مقطع فيديو، لحظة سجود الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة وقائد جيشنا، لحظة دخوله القصر الجمهوري، القصر الذي تم تحريره قبل أيام قليلة من قبضة تلك المليشيا التي عبثت به قرابة العامين، حملت هاتفي، وتوجهت إلى غرفة بلدياتي وجاري في الفندق، قبل أن أُطلعه على الفيديو، استوقفتني دموعه، وجدته غارقاً فيها، حزيناً كأن الكون كله قد انهار فوق رأسه، سألته بوجل عن السبب، فقص عليّ حكاية موجعة، قال لي بصوت مخنوق : “أخبرتني أسرتي في الخرطوم أن كل شيء متوفر، لكنهم يعانون من شح السيولة، بالأمس، أرسلت لهم مبلغاً من المال عبر تطبيق ‘بنكك’ ذهبت والدتي المسكينة لاستلام المبلغ وشراء بعض المؤن من بقالة في حي السلمة، لكن شخصين يتبعان لتلك المليشيا أوقفاها، وانتزعا منها المال عنوة، لم تقاوم، فقد رأت بأم عينها كيف أوقف هذان المجرمان رجلاً قبلها، ولما رفض تسليمهم ما يملك، قتلاه بدم بارد”، نظرت إليه بعينين دامعتين، وحاولت مواساته بكلمات قليلة لم تفِ بحجم الألم الذي يعتصره : “يبدو أن الخرطوم لم تتحرر بعد يا صديقي” ثم تساءلت بصوت عالٍ، يعكس حيرتي وغضبي: “كيف يسجد البرهان أمام مكتبه في القصر الجمهوري، ذلك المكتب الذي لم يدخله طوال عامين مضيا، ثم يطالب سكان العاصمة بالعودة إلى ديارهم، بينما البلطجية يمارسون النهب المسلح في وضح النهار داخل أحياء الخرطوم؟ أي منطق هذا؟ أي واقع نعيشه؟”، توقفت عن الكلام، تاركاً علامات الاستفهام تتردد في الغرفة، أسئلة بلا إجابات، تعكس الضياع والوجع الذي يسكن قلوبنا نحن السودانيين المغتربين، والذين نتابع أخبار وطننا المنكوب بقلوب دامية وعيون تترقب الفرج الذي طال انتظاره

Questions without answers, reflecting the loss and pain that resides in the hearts of us Sudanese expatriates, who follow the news of our afflicted homeland with bleeding hearts and eyes awaiting the longawaited relief

وعلى قول جدتي: “دقي يا مزيكا !!”.

خروج: “سياط القمع تُلهبُ سماءَ الحُرية في تركيا!! أيْنَ يَهربُ صوتُ الحقِّ من براثنِ الظلام؟؟” ففي ليلةٍ حالكةٍ، تجلّتْ فيها غيومُ الاستبدادِ كثيفةً فوقَ سماءِ تركيا، انتفضَ ضميرُ الشعبِ هادرًا، مُعبِّرًا عن سخطهِ العميقِ لاعتقالِ رمزِ المعارضةِ الشعبيةِ، أكرم إمام أوغلو، الذي استأثرَ بحبِّ الجماهيرِ وألهمَ فيهمْ روحَ التغييرِ، مئتانِ وستونَ نفسًا أبيّةً خرجتْ إلى الشوارعِ مُطالبةً بالعدلِ والحريةِ، مُعلنةً رفضها القاطعَ لتكميمِ الأفواهَ وقمعِ الحرياتِ، لكنْ بدلًا من أنْ تُصغيَ السلطةُ إلى صوتِ الشعبِ الغاضبِ، وبدلًا من أنْ تُراجعَ قراراتِها المُجحفةَ، آثرتْ أنْ تُشهرَ سيفَها الغاشمَ في وجهِ الكلمةِ الحرةِ، مُتوجهةً بحملةٍ شعواءَ نحوِ وسائلِ الإعلامِ التي تجرّأتْ على نقلِ الحقيقةِ وكشفِ الزيفِ، فإذا بالقنواتِ التلفزيونيةِ والإذاعيةِ التي صدحتْ بالحقِّ تُحجبُ ويُفرضُ عليها غراماتٌ باهظةٌ تُثقلُ كاهلَها وتُهددُ وجودَها، وإذا بالمجلسِ الأعلى للإذاعةِ والتلفزيونِ، الذي من المفترضِ أنْ يكونَ حاميًا لحريةِ الإعلامِ، يتحولُ إلى أداةٍ قمعيةٍ تُكمِّمُ الأفواهَ وتُعاقبُ كلَّ منْ يُخالفُ الرأيَ الرسميَّ، قنواتٌ مثلُ “سوزجو تي في” و”هالك تي في” و”ناو تي في” و”تيلي 1″ وجدتْ نفسَها في مرمى النيرانِ، مُتهمةً زورًا وبهتانًا بـ “التحريضِ على الكراهيةِ” لمجردِ نقلِها وقائعَ الاحتجاجاتِ وتغطيتِها للأحداثِ الجاريةِ، أيُّ منطقٍ هذا الذي يُدينُ نقلَ الخبرِ ويُعاقبُ عليهِ؟ وأيُّ عدلٍ هذا الذي يُسكتُ صوتَ الحقيقةِ ويُعلي صوتَ التضليلِ؟، عشرةُ أيامٍ من الصمتِ القسريِّ تُفرضُ على قناةٍ جريئةٍ كـ “سوزجو تي في”، بتهمةٍ مُلفقةٍ لا أساسَ لها من الصحةِ، تُرى، أيْنَ ذهبتْ حريةُ التعبيرِ التي تتشدقُ بها الأنظمةُ؟ وأيْنَ اختفى الحقُّ في المعرفةِ الذي يُعدُّ حجرَ الزاويةِ في أيِّ مجتمعٍ ديمقراطيٍّ؟ لقد نددتِ المعارضةُ التركية بهذهِ الإجراءاتِ القمعيةِ، واصفةً إياها بأنها محاولةٌ سافرةٌ لإسكاتِ الأصواتِ الحرةِ في خضمِّ أزمةٍ سياسيةٍ متصاعدةٍ تُنذرُ بعواقبَ وخيمةٍ، فهلْ يظنُّ هؤلاءِ القابضونَ على السلطةِ أنَّ بإمكانِهمْ طمسَ الحقيقةِ وحجبَ نورِ الشمسِ بغربالٍ؟ وهلْ يتوهمونَ أنَّ بإمكانِهمْ قمعَ إرادةِ شعبٍ بأكملهِ بهذهِ الأساليبِ الباليةِ؟ إنَّ هذهِ الحملةَ الشرسةَ على الإعلامِ الحرِّ تأتي في أعقابِ اعتقالاتٍ جماعيةٍ، وفي وقتٍ تشهدُ فيهِ تركيا أكبرَ موجةِ احتجاجاتٍ وأزمةٍ سياسيةٍ منذُ أكثرَ منْ عقدٍ، فبدلًا منْ معالجةِ جذورِ الأزمةِ والاستماعِ إلى مطالبِ الشعبِ، تُمارسُ السلطةُ سياسةَ الهروبِ إلى الأمامِ، مُحاولةً إسكاتَ كلِّ صوتٍ مُعارضٍ وتشويهَ الحقائقِ، ويُذكرُ أنَّ هذا المنافسَ الرئاسيَّ الذي يحظى بشعبيةٍ جارفةٍ، أكرم إمام أوغلو، قدْ جُرِّدَ منْ شهادتِهِ الجامعيةِ قبلَ يومٍ واحدٍ منْ اعتقالِهِ في التاسعَ عشرَ منْ مارسَ، وهيَ شهادةٌ تُعدُّ شرطًا أساسيًا للترشحِ للرئاسةِ في تركيا، ثمَّ تلا ذلكَ اعتقالُهُ وعزلُهُ منْ منصبِهِ كرئيسٍ لبلديةِ إسطنبولَ، ألا يُعدُّ هذا استهدافًا ممنهجًا لكلِّ منْ يجرؤُ على تحدي السلطةِ؟ ألا يُشيرُ هذا إلى خوفٍ دفينٍ منْ صوتِ الشعبِ وإرادتِهِ الحرةِ؟ وأيُّ مستقبلٍ ينتظرُ أمةً تُكمِّمُ فيها الأفواهَ وتُعاقبُ على قولِ الحقِّ؟ إنَّ ما يحدثُ اليومَ في تركيا ليسَ مجردَ قمعٍ لحريةِ التعبيرِ، بلْ هوَ إدانةٌ صارخةٌ لمنْ يتوهمونَ أنَّ بإمكانِهمْ حكمَ الشعوبِ بالحديدِ والنارِ، إنَّ التاريخَ سيُسجلُ هذهِ الأحداثَ بحروفٍ منْ عارٍ، وسيذكرُ كيفَ تحولتْ السلطةُ إلى خصمٍ لدودٍ لشعبِها، وكيفَ سعتْ جاهدةً لإخمادِ جذوةِ الحريةِ التي لا بدَّ لها أنْ تشتعلَ يومًا وتُضيءَ دروبَ المستقبلِ، فلتسقطْ كلُّ أشكالِ القمعِ، ولتعلوَ رايةُ الحريةِ خفاقةً في سماءِ كلِّ وطنٍ! #أوقفوا ـ الحرب

ولن أزيد،، والسلام ختام.

 

[email protected]

المصدر: صحيفة الراكوبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *