اخبار السودان

السودان… حرب أم حرابة؟ السودانية , اخبار السودان

 

عبد الله علي إبراهيم يكتب:

السودان… حرب أم حرابة؟

 

هناك من يقول إن من ضمن إغراءات التحاقهم بـ”الدعم السريع” تغنيم قيادته لهم مال المدينة بأخذ ما تقع عليه يدهم عنوة

*د. عبد الله علي إبراهيم طلب قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في كلمته أثناء زيارته لمصر أن يقيم الآخرون الحرب التي يخوضها في السودان تقييماً موضوعياً، ولا شك أنه أراد منهم أن يسموها “تمرداً” بالمعنى العسكري الحرفي للمصطلح كما سماها هو نفسه. لن يجد البرهان هذه الموضوعية حتى من السودانيين ممن قالوا “لا للحرب” الذين يأخذون عليه، وعلى دولة الإنقاذ من قبله، أنهما جعلا “الدعم السريع” بقانونه في 2017 وتعديله في 2019 جيشاً ثانياً غير خاضع لقيادة القوات المسلحة حتى يصح إطلاق “تمرد” على حربه منذ الـ15 من أبريل (نيسان) الماضي. في المقابل فقول “الدعم السريع” إن ما قامت به القوات المسلحة في التاريخ نفسه “انقلاب” قول مرسل، فمن غير المعقول أن تنقلب القوات المسلحة على وضع هي طرف أصيل فيه وبوسعها تغييره بغير حاجة إلى الحرب، غير أنه ربما اتفق مع صورة “الدعم السريع” للحرب جمهرة سودانية غفيرة ترى فيها تدبيراً فلولياً “حزب المؤتمر الوطني” انقلابياً للعودة للحكم فوق ما تبقى من ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. وتسمع في صفة الحرب الدائرة في السودان أنها ضد “مرتزقة” في عداد قوات “الدعم السريع” سار عليهم اسم “عرب الشتات” من دول الساحل الأفريقي مثل تشاد والنيجر وبوركينا فاسو. ولا يرى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنها حرب أهلية بعد، ولكنها قد تصبح كذلك بتواتر التصعيد العرقي، كما تسمع في الجانب التكتيكي منها أنها “حرب مدن”، وهذا وصف اقتصر على ميدانها، حيث يدور قتال في أحياء المدينة، ولكنه فارق تعريفها. حرب المدن هي مقاومة أو ثورة تجد تعاطف طائفة من سكان المدينة يوفرون الغطاء لكادرها، وليس من أصولها طرد المدنيين من دورهم كما تفعل “الدعم السريع” ونهبها واحتلالها لأغراض قنص العدو، أو تحويلها لثكنات أو إدارات للاعتقال والتخزين، وبدا أننا في حاجة إلى تعريف للنزاع الدائر في السودان حيال ما رأينا من تضارب في تسمياتها. ولنبدأ بالسؤال هل هي حرب في تعريف الحرب المتواضع عليه؟ هو تعريف حرص أكثر ما حرص على تمييز المقاتل عن المدني حداً ناظراً للحرب العالمية الأولى التي أربكت الخط الفاصل بينهما، فالحرب نزاع مسلح بين دول أو مجتمعات أو قوى شبه عسكرية من ثوار ومرتزقة وميليشيات، والمدني مصون من ويلاتها حتى تقع الحرب الموصوفة بالشاملة التي لا تقتصر على الأهداف العسكرية المأذون بها في الحرب، بل قد تكبد المدنيين غير المقاتلين خسائر فادحة. فمن أبواب مثل هذه الحرب الشاملة فرض الحصار على مدن، أو سياسة الأرض المحروقة، أو العقوبة الجماعية على سكان يعتقد طرف ما في الحرب أنهم أعداء فيقلتهم ويهجرهم. فهل ما يجري في السودان حرب؟ لم نتوقف عند خصائص نزاع السودان على ضوء تعريف الحرب قبل أن نسارع إلى وصفها بالحرب، فنتكلم عن طرفين فيها طالحين، حيث قال سفير الولايات المتحدة لدى الخرطوم جون غودفري أخيراً أنه ثبت أنهما غير صالحين لحكم السودان، وواضح أن الحرب التي يتكلم عنها هنا هي ما يرى أنها تدور في الخرطوم، ولكنه متى تحدث عن تلك التي تدور في دارفور تجاوز حتى وصفها بالحرب إلى القول إنها “جنوسايد” كامل الدسم، بل تدين أطراف في الإدارة الأميركية “الدعم السريع” لارتكابه تلك الجريمة، ولا يطرأ لهم مع ذلك الربط بين حرب الخرطوم ودارفور. غض الطرف هذا مفهوم إلى حد كبير لأن قتال “الدعم السريع” لأهل دارفور والمساليت في الجنينة بشكل خاص، مما يعود إلى عقدين من الزمان بلغ أسماع العالم حتى المحكمة الجنائية الدولية، وأصبح في نظره جريمة حرب كاملة الدسم، أما حرب الخرطوم فحادث لا يزال لم يستوعب العالم بعد أنها ربما دارت ضد المدنيين بالقدر نفسه الذي دارت به ضد العسكريين. فاستباح “الدعم السريع” بيوت الناس ومقار الخدمات الطبية والتعليمية كأهداف عسكرية عادية. ترويج “الدعم السريع” لبرامجه عن مشروعه المدني الديمقراطي لسودان ما بعد الحرب مجرد غطاء لعقيدة مستسرة في جنده وجدت من يعبر عنها بقوله إن البيوت في الخرطوم ليست لساكنيها الذين احتالوا عليها لتمكنهم من الحكم في سودان 56، أي الصفوات الشمالية التي حكمت البلاد منذ الاستقلال في 1956، فاحتلالهم لها عمل لا غضاضة منه فحسب، بل هو استرداد لمنهوبات وقعت لملاكها من موقع السلطة. بل تجد من قال إن من ضمن إغراءات التحاقهم بـ”الدعم السريع” هو تغنيم قيادته لهم مال المدينة بأخذ ما تقع عليه يدهم عنوة، وما فرغ الدعامي (مجند الدعم السريع) من أخذ ما خف حمله أو قيادته وثقلت قيمته مثل الذهب والسيارات ترك الباب مفتوحاً، في مدينة تعطل فيها عمل الشرطة بالكلية، لعصابات ومواطنين عاديين لنهب الأثاثات والمعدات والأجهزة بأنواعها والملابس وغيرها. تعرض هذه المنهوبات حالياً في أسواق باسم “سوق دقلو” على اسم أسرة قائد قوات “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو في كثير من ضواحي الخرطوم وشمال ولاية الجزيرة بحسب بتقارير صحافية منشورة في 22 أغسطس (آب) 2023، حيث قال صاحب محل أجهزة إلكترونية وكهربائية بسوقها المعروفة على شارع الحرية في وسط مدينة الخرطوم إن الدعامة أخلوا مخزنه ومعرضه من كل شيء، وجاء من وزارة الداخلية أنها تلقت بلاغات إلكترونية بفقد 15702 سيارة، كما قال وكيل شركة سيارات “تويوتا” أن “الدعم السريع” نهبت نحو ألف سيارة من معرضه. يقال في الإنجليزية إن الكارثة ليست بلا منهج، وظهر فيديو لقادة “الدعم السريع” في مقدمته أحدهم يعرض برنامجهم لإقالة عثرة السودان بالمدنية والديمقراطية، أما في خلفه فترى قائداً آخر يتحدث بالهاتف، ولن يفهم المحادثة التي جرت بينه والطرف الآخر إلا مطلع على نظم “الهمبتة” في أصلها في البادية ثم الحضر لاحقاً، و”الهمبتة” عادة ما جرى تمثيلها بصعاليك العرب، ومن عادة أهلها (الهمباتة) نهب إبل الرجل واسع الرزق ثم مساومته من طريق وكيل معروف لدفع الفدية عنها لهم ليستردها. وخضعت السيارات في المدن أخيراً لهذه “الهمبتة”، ومتى أرخيت أذنك للقائد في خلفية الفيديو سمعت مساومة تفصيلية مع وكيل ما لرد سيارات استولى عليها لأصحابها في مواضع بعينها لقاء مبلغ في عداد المليار بالجنيه السوداني. ولا ينسى الناس لقائد “الدعم السريع” قوله بعد فض قواته لاعتصام ثوار ديسمبر 2018 حول القيادة العامة للقوات المسلحة في يونيو (حزيران) 2019 إنه لو لم يفرغ من ذلك الفض في ليلته واستمر لثلاث ليالٍ أخرى لخلت عمائر الخرطوم من أهلها لتسكنها القطط، وليس من صورة تتواتر على الوسائط لخرائب الخرطوم المفرغة من أهلها هذه الأيام لا يستعيد الناس فيها تلك “النبوءة” التي لم يمر أربعة أعوام وقد تنزلت حقيقة. هل حدث أن وقع مثل هذا التجريد لمدينة من قبل لنحسن وصف ما وقع للخرطوم؟ لا يماثل ما نحن فيه من ابتلاء شيء إلا واقعة في زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) خلال سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) عرفت بـ”pillage” ووجدت “التشليع”، وهو تفكيك الشيء إلى وحداته الأولى، في مصطلح السودان تعريباً مفيداً للكلمة، فتمردت فيها وحدات من الجيش الزائيري بالعاصمة كينشاسا لأنها لم تقبض رواتبها لأشهر، وكان غرضهم من هبتهم الحصول عليها ولا يعرف إن زادوا السياسة على ذلك، ثم اجتمع عليهم مدنيون دوافعهم سياسة وهي نزع رئيسهم موبوتو سيسي سيكو عن الحكم، كما انضم إليهم نهابون. تمدد هذا العصيان وذيوله إلى مدن أخرى، فاحتل الجند المطار، ونهبوا مستودعاته وعطلوا برج المراقبة، ونهب وعصب تابعيهم من المدنيين نهباً على نطاق واسع أحدث أضراراً اقتصادية كبرى بالبلاد، إذ داهموا المتاجر ومحطات الغاز والمولات وبيوت المواطنين. نهبوا المولات من أجهزة تلفزيون وثلاجات وماكينات تصوير، كما خربوا مكاتب الحكومة وبيوت الأجانب وشركاتهم، ونهب الناس من حولهم الأسواق وفككوا منشآت بحالها، فخلعوا منها أحواض المطابخ ومقاعد الحمام وشبكات الحديد التي تحمي نوافذها لبيعها في أسواق انفتحت في معسكرات الجيش، وهدموا قسماً كبيراً من المنطقة الصناعية وسرق الناس ماكينات ورشها. واستولى العساكر على مئات السيارات من مصنع “جنرال موتورز” وخربوه ليتركوه هيكلاً من حديد، وحتى القوى الموالية لموبوتو استهوتها “نزوة التشليع” فمدت يدها مثل الآخرين متجاهلة قمعهم كما هي مهمتهم. كان الحصاد فادحاً، حيث صرعت الأحداث 200 مواطناً، وقع النهب على 30 إلى 40 في المئة من الشركات، وتحطم 70 في المئة من المؤسسات، وغادر الأجانب زائير بشكل جماعي بعد نهب بيوتهم من دون مس أرواحهم، وهكذا ترحلت عن البلد نصف الشركات وتركت عمالها عاطلين. وقال عالم سياسة بلجيكي إن نزوة “التشليع” هي ظن غمار الناس أنهم استطاعوا أخيراً فعل ما كانت صفوتهم تفعله بهم لعقود، وهو سرقة كل شيء، وانتهى التمرد بدعوة موبوتو لفرنسا وبلجيكا الراغبتين بالتدخل عسكرياً لفضه. هل هذه حرب أم حرابة؟ قال أحدهم إن المثقف في عالمنا الثالث ضيف ثقيل على واقعه، فهو زاهد في معرفته بخصائصه لياذاً بمصطلح غربي مستخلص من واقعة غربية جغرافياً تعممت على العالمين من موقع شوكة، فقولنا إن ما نخوض في السودان حرباً على بينة من مصطلحها العالمي أخفى عنا الطاقة الإجرامية التي من ورائه، وهو إجرام يتفق علماء السياسة أنه سمة السياسة المعاصرة في بلدان العالم الثالث تزايل فيها الفاصل بين الجريمة والسياسة أو كاد، فسقطت السياسة في شكل الدولة في هايتي مثلاً لتستبيحها العصابات، وهو مصير بلاد كثيرة أذنت للميليشيات بأدوار سياسية. سيأتي يوم تكون هذه الميليشيات هي السياسة كما تطمع “الدعم السريع” ليومها، ويستغرب المرء لتكففنا مصطلحاً لما نحن فيه من ابتلاء، وفي فقهنا الإسلامي غناء، فالطاقة المجرمة في “الدعم السريع” مما اصطلحنا كمسلمين على وصفه بـ”الحرابة”، وهي البروز لأخذ المال أو القتل، على سبيل المجاهرة مكابرة اعتماداً على القوة مع البعد عن الغوث، والمحاربة عند السرخسي، عادة قوم لهم منعة وشوكة يدفعون عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم، والمجاهرة هي أخذ المال قهراً، أي خطفاً، لا خلسة كالسراق. وانسكب حبر فقهي كثير حول “البعد عن الغوث” ومعناها ألا يكون من مغيث لمن اعتدى عليه المحارب، وجعل هذا الشرط الفقه يقصر وقوع الحرابة في الصحاري لا الأمصار حاضرة السلطان التي يلحق الغوث المستغيث، وصارت “الحرابة” بالنتيجة هي فعل قطاع الطرق حصرياً، ولكن مثل أبي حنيفة قال بوقوع الحرابة في الأرياف والأمصار إذا لم يلحق الغوث في كليهما لأي سبب من الأسباب، بل تجد من قال إن وقوعها في المدن في مثل الخطف والقتل والسرقة والنهب وتحريق المحال والمنازل لجريمة أنكى لاستخفاف المحارب بالتجمعات البشرية فيروع أمنها متجرئ غير مبالٍ بقوة الغوث المنتظر. لم يكن للخرطوم كما رأينا مغيث حين ظهرت “الدعم السريع” لأخذ المال مكابرة اعتماداً على القوة، فإذا لم تكن هذه “حرابة” فما تكون؟

المصدر: صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *