خالد أبوأحمد

بداية:

عزيزي القارئ..

أبعث إليك أطيب التحايا والتقدير.

قد تُلاحظ أحيانًا أن بعض الحوادث أو النماذج السلطوية تتكرر في مقالاتي، وهذا مقصود مني، إذ أهدف من خلال هذا التكرار إلى ترسيخ هذه الوقائع في الذاكرة، خصوصًا لدى القُراء الجُدد من الشباب ومن بدأوا حديثا طريقهم في العمل السياسي والوطني، إن المعرفة لا تُبنى من قراءة واحدة، بل من التذكير والتوضيح المستمر.

مع كامل محبتي واحترامي.

خالد أبوأحمد

لم يعرف الإنسان عبر تاريخه خطرًا أكبر من الاستبداد الذي يتدثر بغطاء الدين، فالطغيان العسكري يفرض نفسه بالقوة والسلاح، والطغيان السياسي يحكم عبر احتكار السلطة ووضع اليد على مكامن الدولة، لكن حين يُستخدم الدين نفسه كسلاح سلطة يصبح الأمر أدهى وأمرّ، هنا لا تعود الطاعة للحاكم مجرد التزام سياسي بل تتحول إلى طاعة لله نفسه، بينما تصبح المعارضة خيانة للعقيدة ولله والوطن، فيخسر الإنسان حريته مرتين: مرة في دنياه ومرة في آخرته، هذا ما نبّه إليه المفكر الإصلاحي عبدالرحمن الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) حين وصف الاستبداد الديني بأنه أخطر الأنواع، لأنه يقتل العقل والضمير معا، ويحوّل الطاعة العمياء إلى عبادة، ويجعل المعارضة كفرا يعاقب عليه ويتجلى ذلك في تجربة السودان بشكل دقيق.

حين ننظر في التاريخ نجد صورا متكررة لهذا النوع من الاستبداد، وكأن البشرية تعيد المشهد نفسه بأشكال مختلفة، ففي الإمبراطورية الرومانية مثلًا، لم يكن الدين شأنًا خاصا يختاره الفرد، بل وسيلة سياسية لفرض الولاء، كان على الناس أن يشاركوا في طقوس عبادة الإمبراطور ليبرهنوا على إخلاصهم للدولة، ومن يرفض يُعتبر خائنا ويعاقب، لم يكن الهدف أن يقتنع الناس فعلًا بقداسة الإمبراطور، بل أن يخضعوا يوميا عبر طقس جماعي يذكّرهم بأن حياتهم ملك للسلطة، ومع اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية في القرن الرابع الميلادي، تحولت الديانة الجديدة إلى دين رسمي، لكن هذا لم يأتي بالحرية كما قد يتوقع البعض، بل جعل الدين نفسه أداة بيد الإمبراطورية، تحولت الخلافات اللاهوتية إلى قضايا سياسية، وصار المختلفون يوصفون بالمهرطقين ويطاردون أو يُنفون أو يُقتلون.

ثم جاءت محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال لتكتب فصلًا جديدًا من الرعب باسم العقيدة، أُنشئت هذه المحاكم في القرن الخامس عشر بزعم الدفاع عن الكاثوليكية ضد الهرطقة، لكنها في الحقيقة كانت سيفًا يشهره الملوك لتعزيز قبضتهم، المسلمون الذين أُجبروا على التنصر بعد سقوط الأندلس صاروا مطاردين بتهمة ممارسة دينهم سرا، واليهود تعرضوا للاضطهاد ذاته، وحتى المسيحيون الذين اختلفوا مع الكنيسة واجهوا المصير نفسه، استخدمت المحاكم وسائل تعذيب وحشية: آلات السحق، الحرمان من النوم، الشد على الأطراف، وصولًا إلى الحرق العلني في الساحات، النساء دفعن ثمنًا باهظًا، فقد وُصمت كثيرات بالسحر وأُحرقت أجسادهن أمام الناس ليكون المشهد درسًا للترهيب، هكذا تحولت الكنيسة إلى شرطي روحي يخدم العرش، وتحول الدين إلى أداة لصناعة الخوف الجماعي.

في جنيف بالقرن السادس عشر، أقام المصلح البروتستانتي جون كالفن نظاما صارما وصفه المؤرخون بالجمهورية اللاهوتية، تفاصيل الحياة اليومية كانت مراقَبة: كيف يلبس الناس، كيف يتحدثون، كيف يعملون، وحتى كيف يقضون أوقات فراغهم. أي خروج عن هذه القواعد لم يُعتبر مجرد خطأ اجتماعي، بل خيانة دينية تستوجب العقوبة. هذه الروح انتقلت مع البيوريتان إلى إنجلترا ثم إلى المستعمرات الأمريكية الأولى، هناك وُضعت قيود صارمة على الفكر والفن، وأُخضعت المرأة لوصاية الرجل والكنيسة، وأي محاولة منها للاستقلال واجهت الاتهام بالانحراف أو السحر، في هذه الصورة نرى كيف يُستخدم الدين لفرض رقابة كاملة على الضمير الفردي، فيصادر حق الإنسان في أن يعيش وفق اختياره البسيط.

أما النازية فقد قدمت شكلاً مختلفًا لكنه يحمل الجوهر نفسه لم تكن دينا تقليديا، لكنها صنعت ما يشبه الديانة السياسية، جعلت من هتلر رمزا مقدسا تُنظم حوله الطقوس والشعائر، ورفعت الصليب المعقوف إلى مرتبة الرمز المقدس، وحولت المسيرات الليلية والهتافات الجماعية إلى طقوس شبه دينية، لكن الأخطر أن النازية نزعت عن ملايين البشر صفتهم الإنسانية، صُوِّر اليهود والغجر والمعاقون كأعداء للعرق الآري، وتحولت معسكرات مثل (أوشفيتز) إلى مصانع للموت حيث أُبيد الملايين في أفران الغاز، لم يعد الإنسان شخصا له كرامة، بل مجرد رقم في آلة الإبادة، لقد تحولت الأمة نفسها إلى إله قومي يُقدَّم له المخالفون قرابين.

وفي إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979، أطاحت الجماهير بالشاه لكنها وقعت في قبضة نظام ولاية الفقيه، حيث صار رجل الدين هو المرجع الأعلى في السياسة والدولة، المعارضة لم تعد مجرد خلاف سياسي، بل خروجا على الإسلام نفسه، في الثمانينيات أُعدم الآلاف من المعارضين، وأُغلقت الصحف، وخضع الفن والأدب للرقابة، المرأة كانت أول من دفع الثمن، فُرض عليها الحجاب الإجباري، وصودرت حقوقها المدنية، وصار جسدها مرآة لهيبة النظام، أي خروج عن هذه المعايير عُوقب بالسجن أو الجلد أو النفي، لم يكن الهدف حماية الأخلاق كما ادعت السُلطة، بل فرض السيطرة على نصف المجتمع وتحويله إلى رمز للولاء.

كل هذه التجارب تضعنا أمام حقيقة واحدة: الاستبداد الديني يتكرر وإن اختلفت صور، ومع ذلك فإن التجربة السودانية في ظل الإسلامويين منذ عام 1989 تعد واحدة من أبشع هذه الصور، لأنها جمعت كل أشكال القمع التي عرفها التاريخ وألبستها رداء الدين، في ذلك العام استولت الحركة (الإسلامية) على السلطة بانقلاب عسكري كان الهدف الحقيقي إحكام قبضتهم على الدولة والمجتمع لا مشروع حضاري ولا يحزنون، أي معارضة صُورت كخيانة وكُفر، والحروب الأهلية في الجنوب ودارفور وجبال النوبة قُدمت كجهاد مقدس، وأُرسل آلاف الشباب إلى الموت في جبهات القتال وتحولت المدارس والمعسكرات إلى ساحات تجنيد للأطفال.

في الداخل وُجدت بيوت الأشباح، وهي معتقلات سرية تابعة لجهاز الأمن، عُذب فيها أبناء الشعب بطرق وحشية، من أبشع الجرائم التي ستظل شاهدة على وحشية النظام جريمة تعذيب واغتصاب الأستاذ أحمد الخير الذي قتل بعد إدخال أداة حديدية في دبره، وذات الفعل الشنيع تم ارتكابه مع الضابط الكبير محمد أحمد الريح، ومقتل الطبيب علي فضل الذي صمد تحت التعذيب أيامًا حتى انتهى به الأمر مقتولًا بمسمار في رأسه، ولم ينجُ طلاب الخدمة الإلزامية الذين جرى إرسالهم إلى محارق الحرب بلا تدريب ولا حماية، بل جرت في بعض الحالات تصفيتهم بدم بارد، في مشاهد تذكرنا بمعسكرات الموت النازية.

لقد شكّلت جريمة جلد النساء في السودان تحت قانون النظام العام (المادة 152) إحدى أبشع صور القمع وأكثرها انتشارًا. ففي عام 2008م صرّح مدير شرطة النظام العام بأن عدد النساء اللاتي جرى القبض عليهن بموجب هذا القانون بلغ 43 ألف امرأة في عام واحد فقط، وهو ما يعادل أكثر من مليون ونصف المليون سوط هوت على ظهور السودانيات، من دون أن يشمل ذلك إحصاءات العديد من الولايات الأخرى. وزادت فداحة الصورة عندما كشف المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام في دراسة لاحقة أن حجم الظاهرة كان صادمًا؛ ففي ثلاث ولايات صغيرة فقط هي النيل الأبيض والبحر الأحمر وغرب دارفور، بلغ عدد النساء اللاتي تعرضن للجلد في عام 2009 2144 امرأة، بينما كانت الأرقام في ولاية الخرطوم مضاعفة وتزداد عامًا بعد آخر.

ولم يتوقف القمع عند الجلد، بل تجاوز ذلك إلى القتل والتعذيب والاغتصاب. ففي مارس 2012 قُتلت الشابة عوضية عجبنا برصاصة مباشرة أطلقها ضابط شرطة أمام منزلها في حي الديم، بينما تعرضت والدتها للضرب والإهانة، في جريمة هزّت الرأي العام. أما الفنانة التشكيلية صفية إسحق، فقد اختُطفت عام 2011 وتعرضت للتعذيب والاغتصاب داخل مباني جهاز الأمن، قبل أن تُشهر بها السلطة نفسها حين نشر ضابط معروف في وحدة الأمن الإلكتروني أورنيكها الطبي على الإنترنت.

هذه الوقائع لم تكن حوادث معزولة، بل كانت سياسة ممنهجة اتبعها النظام بوعي تام، إذ كان يدرك أن المرأة تمثل مركز قوة المجتمع السوداني، وأن كسرها وإذلالها هو السبيل الأسرع لإخضاعه بأسره.

إلى جانب ذلك استُهدفت بائعات الشاي والنساء العاملات في الشارع العام بملاحقات متكررة، والطالبات جُلدن أمام زميلاتهن في مشاهد إذلال متعمد، وامتلأت السجون بالمعارضات أو حتى زوجات المعارضين. الأطفال جُنّدوا قسرًا وزُج بهم في الجبهات، وحُرموا من طفولتهم، فتحولت براءتهم إلى وقود لحروب عبثية لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

إن صورة السودان في ظل الإسلامويين تجسد تمامًا ما حذر منه المفكر الكبير الكواكبي: حين يتحالف الدين مع الاستبداد يتحول المجتمع إلى سجن كبير، وتتحول الدولة إلى آلة قمع، ويتحول المواطن إلى عبد بلا كرامة لم يعد السوداني آمنًا في بيته أو شارعه، النساء جُلدن وقُتلن واغتُصبن، الأطفال حُرموا من أبسط حقوقهم، الشباب زُج بهم في محارق الحروب، والمثقفون والنشطاء قُمعوا وعُذبوا، أما عضوية الحركة (الاسلامية) والمتعاطفين معهم كانوا في علم آخر تماما.

وإذا كانت محاكم التفتيش قد أحرقت أجساد الناس باسم الخلاص، والكالفينية قد صادرت الضمير باسم الطهر، والنازية قد أبادت الملايين باسم العرق، فإن الإسلاموية في السودان جمعت كل ذلك معًا: بيوت أشباح وتعذيب حتى الموت، تصفيات جسدية، جلد للنساء، اغتصاب للمعارضين والمعارضات، تجنيد للأطفال، وقهر شامل للمجتمع، الدين في هذه التجربة لم يكن رسالة روحية، بل ستارا يخفي وراءه سلطة غاشمة لا ترى في المواطن سوى وسيلة لإطالة عمرها.

لقد فقد السودان وحدته بانفصال الجنوب، وتهاوى اقتصاده تحت وطأة الفساد، وتمزق نسيجه الاجتماعي بسبب الحروب والانقسامات، وخسر مواطنوه كرامتهم بسبب القمع المستمر وباشكال كثيرة وحتى الذين طردوا بشكل غير مباشر واغتربوا في بلاده الله الواسعة حُربوا اقتصاديا من خلال الرسوم العالية لاستخراج جوازات السفر، والتآمر عليهم من مؤيدي السلطة في بلاد المهجر، هذه ليست حوادث منفصلة، بل نتيجة طبيعية حين يتحالف الدين مع الاستبداد.

والخلاصة أن الاستبداد الديني لعنة متكررة عرفتها البشرية في صور مختلفة، وما التجربة السودانية سوى دليل جديد على أن الدين لا يزدهر في ظل القهر، وأن المجتمع لا ينهض حين يصبح المقدس سوطًا في يد السلطة، لقد صدق الكواكبي حين قال “إن الاستبداد الديني أخطر الأنواع، لأنه إذا اجتمع مع المال والسيف والقداسة لم يترك للناس إلا العبودية، وللأوطان إلا الخراب.

المصدر: صحيفة الراكوبة

شاركها.